مفيد نجم
لعبت حكايات ألف وليلة منذ زمن مبكر وما زالت دورا مهما في تكوين المخيلة السردية العربية وكان لها أكبر الأثر في تحريض مغامرة النقد السردي العربي على محاولة تفكيك عوالم بنيتها السردية والدلالية وقدرة شخصيتها الحكائية شهرزاد على التناسل الحكائي الذي استطاعت من خلاله ترويض شخصية شهريار والانتصار عليه وعلى الزمن الذي خلدها وجعل منها حكايا لكل الأزمنة. لكن الحكاية الشعبية أو الشفاهية، وعلى الرغم من كونها سابقة على هذه الحكايات زمانيا إلا أنها لم تستطع أن تحقق الشهرة والانتشار الواسع اللذين حققتهما حكايات ألف ليلة وليلة في الثقافة العربية بسبب غياب الاهتمام بجمعها وتدوينها من قبل الباحثين والدارسين العرب. لقد كانت بداية عقد الستينيات من القرن الماضي مرحلة هامة في استعادة الوعي بأهمية هذا الموروث الحكائي الشفاهي باعتباره جزءا هاما من التراث الثقافي للأمة الذي يجب استعادة العلاقة معه في ضوء حاجاتنا المعاصرة وذلك في سياق الحفاظ على هوية الأمة وتراثها الحي الذي تشكل الحكاية الشفاهية جزءا أصيلا منه.
إن دراسة مقارنة بين حكايات ألف ليلة وليلة والحكايات الشفاهية تظهر أن هذه الحكايات ظلت مجهولة النسب بسبب الجهل بالمؤلف أو المؤلفين الحقيقيين لها خاصة وأن جميع هذه الحكايات خضعت للإضافة والتطوير عبر تاريخها. لكن حكايات ألف ليلة وليلة التي بدأ تدوينها في العصر العباسي على خلاف الحكايات الشفاهية التي استقرت على الشكل الذي عرفت به فيما بعد بينما ظلت الحكايات الشعبية خاضعة للتعديل والإضافة حسب رواتها وأزمنة تداولها. وإذا كانت غاية شهرزاد من هذه الحكايات كما تذكر المصادر التاريخية هي التغلب على قدرها من خلال استخدام حيلة السرد العجيب بغية ترويض شخصية شهريار وتحريره من نزعة العنف المستبدة في علاقته مع المرأة، فإن تأليف الحكايات الشعبية كان ينطوي على غايات وأهداف كثيرة منها ما يرتبط بالعمل على ترسيخ قيم المجتمع الأصيلة، والحكمة وتمثل روح المجتمع (فالحكاية الشعبية تعبير موضوعي غير منقطع عن الزمان والمكان إذ تجري في واقع تاريخي فعلي وتتحدد أهم عناصرها التجنيسية المخصوصة بها في الوعي بمفارقات الحياة الواقعية والارتباط بها وإعادة تشخيص المواقف التي حدثت فيها من أجل المعرفة وكشف الحقائق المجهولة وغرابة الواقع الحسي المألوف ونقد سلبيات المجتمع)(1). إن سحر العالم الغرائبي القائم على الخيال في هذه الحكايات وما تنطوي عليه بنية الحكاية فيها من فتنة وإثارة وغرابة ساهم إلى حد كبير في انتشارها واستمرار حضورها في الثقافة العربية فهذه الحكاية التي (تتمحور حول الإنسان الشعبي وتستخدم في محاورها ما يفيدها من عناصر أسطورية وخرافية تتطور وتنبذ كل ما له صلة بالأساطير والخرافات لتتجذر في هموم الإنسان مباشرة)(2). وتقسم الدكتورة منى سرور عبدالعزيز هذه الحكاية إلى ثلاثة أنواع هي: الحكاية التي تدور حول الآلهة والأحداث الخارقة، والخرافة التي يقصد بها أي مغزى أخلاقي أو اجتماعي من خلال أشخاص وغالبا ما تكون وحوشا أو جمادات. في حين أغفلت الباحثة الدور الذي تلعبه شخصية الساحرات في هذه الحكايات من حيث دورها في تنامي أحداث الحكاية وتطورها أو في إضفاء نوع من العجائبية والسحر على عالم الحكاية.
في قضية المصطلح:
تعاني الحكاية الشعبية من مشكلة ضبط المصطلح الدال عليها بسبب اختلاف الدارسين على هوية هذه الحكاية، حتى تحولت فوضى المصطلحات إلى مشكلة تواجه الدارس لها. إن عدم استقرار هذا المصطلح قد ساهم في شيوع عدد من المصطلحات عند هؤلاء الدارسين مثل مصطلح الحكاية الشفاهية أو الشعبية ومصطلح الحكاية الغرائبية أو العجائبية أو الخرافية. وكما هو واضح من طبيعة هذه المصطلحات فإن المشكلة تكمن في تحديد طبيعة عالم السرد في هذه الحكاية إذ يسمها بعض الدارسين للدلالة على طريقة تداولها والأوساط الشعبية التي ولدت وعاشت فيها هذه الحكاية، بينما يسمها البعض الآخر انطلاقا من عالمها الغرائبي أو العجيب كما يحب أن يسمه وما تتميز به بعض شخصيات هذه الحكاية وأحداثها من غرابة وطبيعة خارقة وأسطورية تضفي عليها نوعا من القوة والسحر المفارق للواقع والمتعالي عليه. وامام هذه المشكلة كان لابد لنا أن نختار مصطلح الحكاية الشفاهية في هذه الدراسة باعتباره المصطلح الذي يحيل على طبيعة هذه الحكاية التي ظلت محكومة بزمن ظهورها وطرق تداولها الذي جعل تأليفها غير مستقر ويخضع باستمرار للتعديل والإضافة من خلال الدور قبل أن تبدأ مرحلة تدوينها في وقت متأخر كثيرا على زمن ظهورها.
لقد تميزت هذه الحكاية التي ظلت تخضع للتطور والتعديل طوال تاريخ تناقلها من جيل إلى آخر بأنها فن شعبي أودعها مؤلفوها معارفهم وخبراتهم والقيم الإنسانية التي كانوا يريدون تأكيدها لكي تظل فاعلة في محيطها الاجتماعي الذي كان يتداولها. إن ارتباط هذه الحكاية بزمنها الخاص جعلها تتشابه كثيرا في التراث الإنساني من حيث الوظائف والشخصيات والعالم الغرائبي الذي كانت تختلط فيه حيوات الكائنات الإنسانية والحيوانية والأسطورية وإن ظل الفضاء المكاني يحيل واقعيا على العالم الخاص بكل شعب من الشعوب أو الأمم. ولذلك ستكون الصحراء في الحكاية الشعبية الخليجية هي المكان الذي تجري فيه أحداث هذه الحكايات في الغالب وتتحرك شخصياتها.
الحكاية الشفاهية في الإمارات:
ظهر الاهتمام بتدوين الحكاية الشفاهية في الإمارات العربية متأخرا بعض الشيء بالنسبة للدول العربية الأخرى على عكس الاهتمام الكبير الذي تبديه الجهات الثقافية بالشعر الشعبي الأمر سيجعل هذه الدراسة تعتمد على مصدرين اثنين هما كتاب الشاعر والباحث الراحل أحمد راشد ثاني (حصاة الصبر) وكتاب الكاتبة سارة الجروان (بنات نارنج الترنج) الذي حاولت فيه تقديم تجربة جديدة تتمثل في تفصيح لغة تلك الحكايات. أما من حيث المنهج فسوف نعتمد على المنهج الشكلاني الذي اعتمده الناقد الروسي المعروف فلاديمير بروب في دراسته لمائة حكاية شعبية روسية في كتابه مورفولوجيا الحكاية الخرافية(3). إن اختيار هذا المنهج نابع من الفاعلية التي تميز بها هذا المنهج على مستوى دراسة الشخصية في هذه الحكاية وارتباط وجودها الوثيق بالوظيفة المنوطة بها، حيث ظلت هذه الوظيفة ثابتة بينما كانت الشخصية وما تتسم به من صفات وأفعال في الحكاية هي المتحول في هذه الحكايات الشفاهية. لقد حدد بروب وظائف هذه الشخصية في إحدى وثلاثين وظيفة يمكن أن يجتمع كثير منها في حكاية واحدة أو عدد محدد من الحكايات. ويمكن الإشارة إلى أغلب هذه الوظائف المتمثلة في الغياب والتحذير والاستطلاع والشر والاستسلام والخداع والصراع وردود الأفعال والفقدان والانتصار والعودة والمطاردة والأفعال الخارقة والعقاب والمنح أو المكافأة. لكن شخصية البطل في هذه الحكايات غالبا ما تكون بحاجة إلى بطل مساعد، تتجلى وظيفته في مساعدة البطل الرئيس على تحقيق أفعاله أو تكون مهمته البحث عن هذا البطل.
إن الانتقال في المكان عند بطل الحكاية هو جزء من التحول الذي يطرأ على أحداث الرواية ويستدعي معه ظهور شخصيات جديدة ترتبط هي الأخرى بالوظائف الجديدة التي يتوجب عليها أن تقوم بها بما يسهم في تطور أحداث الحكاية وتناميها وصولا إلى الحل الذي يكون في نهاية الحكاية. إن مقارنة الحكاية الشفاهية الإماراتية مع الحكاية الشعبية الروسية يظهر التشابه الكبير في الوظائف المنوطة بالشخصيات في حين أن هذه الشخصيات يمكن أن تختلف قليلا بسبب الاختلاف في البيئة الاجتماعية التي ولدت فيها وعاشت فيها هذه الحكايات. كذلك يمكن أن نلحظ التشابه في شكل الحكاية وما تنطوي عليه من بعد غرائبي وأسطوري تجلى في الأفعال التي يمكن أن تقوم بها هذه الشخصيات العجائبية والأسطورية إضافة إلى طبيعة التخييل وصفات الشخصيات ووظائفها التي ارتبط وجودها بالقيام بها. لقد ارتبط الانتقال في المكان أيضا بالتحول الذي يمكن أن يطرأ على أحداث الحكاية وفي بعض الأدوار التي تقوم بها شخصياتها.
عرَّف بروب الوظيفة بأنها فعل شخصية تمّ تحديده من وجهة نظر دلالته في سيرورة الحكاية(4) وذكر أن هذه الوظائف ليست حاضرة جميعا على الدوام بينما يظل تسلسل ظهورها ثابتا في الحكاية. كما أكد بروب على أن هذه الوظائف تعد هي الأجزاء الأساسية في القصة، وهي ما يجب على الدارس أن يقوم بتحديده. إن أهمية دراسة بروب تتجلى في قيامه بتجزئة النص الحكائي إلى مجموعة من الأفعال المتتالية، والكشف عن الطابع الثنائي لأغلب هذه الأفعال التي تشكل حبكة الحكاية .
المكان والشخصية في الحكاية الشفاهية الإماراتية:
توزع المكان في دراسة بروب على ثلاثة أنواع من الأمكنة، هي المكان الأصلي لبطل الحكاية أو للعائلة، والمكان العرضي أو المؤقت الذي تجري فيه مغامرة البطل، والمكان المركزي الذي يتحقق فيه إنجاز الفعل، بينما أجمل غريماس المكان في ثلاثة أشكال هي: مكان الأنس الذي تتخلق فيه مبررات الأسفار والأفعال، والمكان العرضي أو المؤقت الذي يجاور المكان المركزي، وأخيرا مكان الفعل الذي أسماه باللامكان باعتباره معطى ثابتا وقارًّا. ويمكن للدارس أن يجد تطابقا بين أشكال المكان في الحكاية الشفاهية الإماراتية ومثيلاتها عند غريماس الذي فصّل أكثر في موضوع المكان من سواه من النقاد الغربيين.
يظهر المكان الأول في الحكاية الإماراتية بوصفه نقطة الانطلاق في هذه الحكاية، ثم يأتي المكان العرضي المجاور للمكان المركزي، والذي يتم فيه اختبار الحدث، يليه المكان الذي يتحقق فيه الفعل أو الفوز في هذه الحكاية. وغالبا ما تكون نهاية الحكاية بالعودة إلى المكان الأول الذي بدأت منه الحكاية. إن الحركة أو الانتقال في المكان يرتبط بالتنظيمات السردية للحكاية وبتكرار الاختبارات الثلاثة التي حددها بروب باعتبارها أزمنة قوية تشكل مفاصل الحكاية، وهذه الاختبارات هي: الاختبار التأهيلي الذي يقبل فيه البطل القيام بالمهمة، والاختبار الترشيحي الذي يسمح للبطل باكتساب الصفات المطلوبة للقيام بالمهمة، وهناك أخيرا الاختبار التمجيدي الذي يكافأ فيه البطل على إنجاز عمله، إضافة إلى العودة إلى المكان الأول.
يظهر التباين في بنية الحكاية خلال مرحلة تدوينها إما من خلال تدخل الكاتب/الكاتبة، أو شخصية الراوي/الراوية التي اعتمد عليها الكاتب/ الكاتبة في تدوين هذه الحكايات، دون أن نغفل التحول أو التبدل الذي يمكن أن يطرأ على بنية الحكاية أثناء تداولها من زمن إلى آخر أو من راو إلى آخر. ويمكن لنا أن نجد ذلك واضحا في حكايات مجموعتي حصاة الصبر(5) وبنت نارنج الترنج(6) سواء على مستوى الحفاظ على المكونات الأساسية للسرد الحكائي في قصص هاتين المجموعتين، أو بالنسبة إلى تعدد أنساق السرد الحكائي فيها. إن هذا الحذف والتعديل الذي طرأ على لغة هذه الحكايات قد يعود إلى اختلاف الرواة أو التعديل الذي قامت به الكاتبة على خلاف حكايات المجموعة الأولى التي حافظت كثيرا على لغة السرد وعناصره التكوينية الأخرى، بينما نلاحظ بالمقابل الحفاظ في كلتا المجموعتين على العناصر الأساسية للمكان، وعلى دوائر الأفعال الخاصة بشخصيات الحكاية وتتالي الوظائف التي حددها بروب لها في الحكاية الشعبية الروسية. إن العنصر المفارق في بعض هذه الحكايات هو غياب العتبة المكانية والزمانية، كما في الحكاية المسماة انتيفان من مجموعة حصاة الصبر والحكاية السابعة في مجموعة بنت نارنج الترنج، والتي حملت اسم البديحة.
تتألف الحكاية عادة من أنساق متعددة وفي مرات قليلة نجدها تتألف من نسق واحد مع الحفاظ على وحدة الشكل الحكائي وتسلسل وظائفها على صعيد الزمان والمكان وشخصيات الأبطال والشخصيات الفرعية، إضافة إلى وضعها الاجتماعي وصفاتها وعددها والأدوار التي تقوم بها داخل الحكاية. إن تطابق هذه الحكايات مع المنهج الذي اتبعه بروب لم يمنع أن تخرج بعض تلك الحكايات قليلا من حيث تتالي وظائف الشخصيات في الحكاية أو الحذف الذي طال الحالة البدئية أو العتبة المكانية والزمانية للحكاية كما لاحظنا قبل قليل. والحقيقة إن هذا الاختلاف يتعلق بالعتبة السردية التي يمكن أن تحافظ على الحالة البدئية أو تتجاوزها إلى تقديم شخصيات الحكاية وتحديد صفاتها ووضعها الاجتماعي كما هو الحال في الرواية الواقعية التي تتنوع أشكال هذه العتبة فيها وفق ما تمليه الرؤية السردية عند الكاتب.
تشترك الحكاية الشفاهية الإماراتية مع الحكاية الشعبية الروسية في سمات كثيرة بدءا من وحدة الشكل والعناصر المكونة للحكاية مثل المكان والزمان والحالة الاجتماعية لشخصياتها مرورا بدوائر الفعل الشرير والفعل المانح المساعد الذي يسهم في مساعدة بطل الحكاية على تحقيق الفعل وإنجاز المهمة وصولا إلى تحقق المكافأة التي يحصل عليها بطل الحكاية بعد تغلبه على المخاطر والتحديات التي واجهها قبل تحقق الفعل.
تكاد الحكاية الشفاهية العربية عموما تتقاطع مع هذه الحكايات من حيث ترتيب الوظائف التي تقوم بها شخصيات الحكاية، أو العناصر المكونة لها إضافة إلى غياب العلاقات المنطقية بين دوائر الأفعال فيها بسبب التزام هذه الحكايات بالتتالي المعروف في دوائر الأفعال بعيدا عن العناية بمنطقية السرد، ما جعل الاختلاف حول المصطلح الدال عليها عند النقاد والدارسين يظل مرتبطا بالرؤية إلى بنية عالمها الحكائي القائم على الأفعال الخارقة والعجيبة، وعلى الوظيفة أو الدور الذي تلعبه الشخصيات السحرية والأسطورية في تحقيق هذه الأفعال. إن ارتباط الحكاية بزمنها وبالبيئة الاجتماعية التي تكونت فيه والذي عكست من خلاله حالة الوعي الاجتماعي السائد هو ما يفسر التشابه الحاصل بين هذه الحكايات الشفاهية على المستوى العربي وحتى العالمي، وإن كان الاختلاف بالنسبة للمكان ظل مرتبطا بما يحيل إليه على مستوى الواقع أو البيئة الطبيعية للمجتمع الخاص بهذه الحكايات، فالغابة مثلا في الحكاية الشعبية الروسية تحل مكان الصحراء في الحكاية الشفاهية الإماراتية.
بين حكايتين:
في حكاية حصاة الصبر التي اختار عنوانها أحمد راشد لتكون عنوانا للمجموعة نلاحظ أن الحكاية ابتدأت كالعادة في تحديد الزمان وتركيبة العائلة وبيان وضعها الاجتماعي وعددها، بينما جاء تاليا بيان الوظيفة التي يتحتم على الأم -بطل الحكاية- إنجازها وهي الوفاء بنذرها بإرسال طفلتها في سن السابعة للتعلم عند المتطوع. ويظهر الاختبار في طلب المتطوع من الأم والابنة للبحث عن حظ الأخيرة المخبوء في منطقة السيح. لذلك يأتي فعل الانتقال من المكان الأول إلى المكان الترشيحي الذي يقيم فيه المتطوع والذي يجاور عادة المكان المركزي، إضافة إلى انتقال شخصيتي الأم والابنة إلى المكان الذي يتحقق فيه الفعل في سياق التنظيمات السردية للحكاية. تختفي الشخصية المساعدة المتمثلة في المتطوع مع انتهاء هذه الوظيفة المنوطة بها في بنية الحكاية، في حين أن ما تواجهه الأم وابنتها في مكان الاختبار من تحد، يظهر في القصر المسيج والذي يخلو من الأبواب، فلا يكون من الابنة إلا تسلق الجدار الذي ينشق فجأة لتجد نفسها داخل القصر بينما تظل الأم خارج القصر. هنا تظهر المهمة التي تتطلب من الابنة إنجازها فتقوم بنزع الإبرة عن جثة الشيخ الموجود داخل القصر. تظهر شخصية البطل المزيف في الخادمة التي تحل مكان البطل الحقيقي من خلال طلب الفتاة من الخادمة أن تواصل نزع الابرة حتى يصحو الشيخ الآدمي. وتظهر الشخصية المانحة في شخصية الشيخ الذي يقوم بمكافأة الخادمة على ما قامت به من عمل. يكتشف الشيخ شخصية البطل المزيف من خلال استماعه اليومي إلى مناجاة البنت لحجر الصبر الذي يحضره لها أثناء سفره بناء على طلبها. وتكون المكافأة هي زواج الشيخ منها والعودة معها إلى المكان الأول الذي انطلقت منه لتلتقي بأهلها.
إن وجود الشخصيات في هذه الحكاية يرتبط بشكل وثيق بالوظيفة التي تقوم بها، لذلك عندما تنتهي وظيفتها نلاحظ غيابها بينما تظهر شخصيات جديدة مثل شخصية الخادمة أو البطل المزيف لكي تستكمل عناصر الإثارة والتشويق في الحكاية. كذلك تتسم الحركة في المكان بالانتقال من مكان إلى آخر مع توالي دوائر الأفعال لكي تستكمل الشخصيات وظائفها في الحكاية، حيث (يتداخل فيها الأسطوري والخيالي مع الواقع لتشكيل عالمها الحكائي وفق الصورة التي كان عليها هذا العالم، حيث الارتحال الدائم في الأرض)(7). إن العودة الدائمة إلى المكان الأصل تشكل خاتمة الحكاية مع عودة الشيخ والفتاة التي يتزوجها إلى المكان الأول الذي انطلق منه بعد أن ان تغلب على الخطر ونال مكافأته بعد الاختبار وتغلبه على الخطر.
ولا تختلف الحكاية السادسة في مجموعة (بنت نارنج الترنج) لسارة الجروان، التي حملت المجموعة عنوانها عن حكايات المجموعة الأخرى، إلا من حيث غياب الحالة البدئية التي يتم فيها تحديد المكان والزمان في الحكاية. تستخدم الحكاية بداية فعل القص التقليدي المتمثل في الفعل الماضي الناقص (كان)، وكالعادة يتم تقديم العائلة وتحديد وضعها الاجتماعي وعدد أفرادها. إن توالي دوائر الفعل في الحكاية يرتبط بالحركة في المكان والانتقال من المكان المركزي إلى المكان الترشيحي الذي تجري فيه دائرة الفعل الشرير عبر الإساءة التي توجهها الخادمتان عند شريعة الماء لابن الشيخ الغني ولابنة عمه المخطوبة له. تتجلى وظيفة شخصية البطل أولا في ذهابه إلى الشريعة لإرواء حصانه، في حين يظهر فعل التحدي كرد على الفعل الشرير للنساء النوبيات من خلال إصراره على الحصول على الفتاة السحرية المتمثلة في بنت نارنج الترنج. وكما هو واضح فإن وجود الشخصيات مرتبط بالوظيفة التي تقوم بها، وفي توالي دوائر الأفعال التي تنشأ من خلال الانتقال في المكان وظهور شخصيات جديدة في إطار التنظيم السردي للحكاية، بحيث يسهم ذلك في تطور أحداث الحكاية وزيادة عنصر التشويق والإثارة فيها.
يتحقق الاختبار لشخصية البطل من خلال شخصيات النوبيات السبع اللواتي يمثلن الشخصية المانحة أيضا، واللواتي يجزن لشخصية البطل متابعة الطريق للوصول إلى هدفه في الدخول إلى القصر حيث يتجلى مكان الاختبار.
إن الانتقال في المكان يترافق -كما هو واضح- مع ظهور شخصيات جديدة في الحكاية ومع توالي دوائر الأفعال التي تسهم في تصعيد أحداث الحكاية، في حين يظهر الفعل السحري في قدرة البطل على تحويل المخلوقات لكي يتمكن من الوصول إلى شخصية بنت نارنج الترنج وتهريبها، فتكون هي المكافأة التي يحصل عليها بعد إنجاز المهمة. وكالعادة تتم العودة إلى المكان الأصلي الذي انطلق منه البطل مع عروسه الجديدة في نهاية الحكاية.
الهوامش
1 – د. عابدة فؤاد النبلاوي- الحكاية الشعبية العمانية ودلالتها الاجتماعية والثقافية: دراسة أنثروبولوجية- جامعة السلطان قابوس- مجلة الآداب والعلوم الاجتماعية 2015.
2 – منى سرور عبد العزيز- مجلة رسالة المشرق- العدد 289 سنة 2022 .
3 – بروب فلاديمير- مورفولوجيا الحكاية الشعبية- ترجمة أبو بكر أحمد باقادر وأحمد عبد الرحيم نصر- منشورات النادي الأدبي والثقافي عام 1989.
” ظهرت أكثر من ترجمة عربية لهذا الكتاب وكانت ترجمة عنوان هذا الكتاب تختلف من ترجمة إلى أخرى ما يدل على ما يتمتع به مصطلح هذه الحكاية من اختلاف في المعنى إذ ترجم أحيانا إلى مورفولوجيا القصة من قبل عبد الكريم حسن وسميرة بن عمو ربما بهدف تجاوز إشكالية المصطلح في الترجمة.”
4 – فلاديمير بروب– مورفولوجية القصة- ترجمة د. عبد الكريم حسن وسميرة بن عمو- دار شراع للنشر- دمشق 1996- ص 121؟
5 – أحمد راشد ثااني- حصاة الصبر- منشورات هيئة أبوظبي للثقافة- أبو ظبي 2010.
6 – سارة الجروان- بنت نارنج الترنج- منشورات دار الآداب- بيروت 2010.
7 – علي أحمد محمد العبيدي- الحكاية الشعبية الموصلية بين وحدة التجنيس وتعدد الأنماط… مرجع سابق.