بول شاوول
– I –
ماذا ينتهك الغرف، معتلّها السقم باكرًا من نوازل وأشفاق كاسرة على أصابعك بالية من وجوم تعدّه ثمّ لا تنسى وتقارب باللحظات الدنيا ما بينه. سبحات تكرّ على البلاط بتوقها ونزولها وما تستهديه لابتهالات الموتى، تحت مفاوز ومدن، وشرائح، ونوافذ. ما إن صحا ما لم يصحُ في أبدانك هذرت بمناظر وما لا يشفي جفونًا سُمّرت، يهبّ ولا عاثر منك أو بائد لتنفرج من أمصارك ما يغيّر من وسن الشعوب، مالت عن أحداقها، فلا بأس أن تقف كأن قصرت، أو تتحدد بلا سوام، ولا رجم. هاك مبذول الحواس، فأيّها أسلم عندما تنسدر الأشراك، وتلتحم الأوكار: هاك من تفّاح الآخرة ما استَجرتَ به عليمًا وضريرًا وكاشفًا في قطعان الماعز بشعورها الفائضة. كأن أكداس الموالي، وهلّ المناديل وذؤابات حواري السماء، يهذر عابثًا بقوانين الهواء، ومسارات الدواب، يعلّه ويستسقيه يابس، هو الحلوق مخفوق الأنامل مرذول الحكايات وما سامها وما عاشته تشريقًا، وتفسيرًا وترنيمًا، بأشقاق ماهرت مثيلاتُها مرذول الأطايب مستباح الأعراض والأطوال، وما ينسم من جوف الآبار سقمًا أو صحوًا أو مراجل باردة، ولا ما يرفّ قتومًا أو انبهارًا عزيفًا بلا ذروة، كسيحًا يردّد، خبط علامات، ما لم يردّده الأوائل، وما تستنزله الآيات البكر من مشتقاتها وعرواتها، بلا مقابل يُذكر، أو يستنهر الأعراق بلا مآلات ولا معصيات، شاهقًا، مُعفرًا بأفواهك مليئةِ الزَّبد والمجازات، ولا ما يطنّ في فضاءات تتهاوى وطقوس تنتشي بدمائها، ولا قيامة بغفرانها، واستغفارها بميثاقها، ومن مهدّئات العقول، موتورة، مجرومة مُسهدة ولا ما يعوزها سوى آخرة أخرى.
– II –
وهاك من ينترك سليم الحواس، مُسدل الأدوار مرموقًا بطفولاته تلاعب ما ينفثه الموتى في ولاداتهم. وهاك أن تنقلب ويستيقظ فيك، جاثمًا أو مهرولًا ما يحلم وينمو طويلًا في أوكارك، بجفاف الدم، وتكهّنات الرقّ، وجلجلة السلاسل، وانفتاح سماءات مجدولة بآلهة تستدر دوامها من أبجديّة التراجيديّات وموت النصوص الغامضة، وتخثّر الدعاءات الحرّى بلا وقع على رمال مسبيّة كثبانها ونذائرها، كأنّ هناك المهابات تعتمر من عمائم وقلنسوات وخُوَذ، تعبُر في شقوق الأعالي ليستقيم نزولها، تشتفّ ما تلفظه وتحرّكه من هوالك، صنعت ما صنعت من الكائنات والبؤر والجراثيم والنوازل وأحكام الأشفاق المُنسّنة في عطور ممالكها وجنّاتها المثلى. وأنت جاثم ومجثوم تعدّ الساعات بهرطقات النجوم وظواهر الغيب، كأن تُلملم بُقياك بلذّة العابر من الكتب إلى ما تقدّس من التعاويذ والعلامات ومن هرهر من ظهور الدواب. وما عليك إلّا أن تنبو بسريرتك عما يستعجلك في وُعورة الفضاء بأحاسيس مُبهمة، سأماء رقطاء، بلا نذر خاسرة على فراغ ما يُشتمّ وما يباصق اللعنات ومجنات المواليد والموتى والمداميك وامبراطوريات الأسماء ومسبّباتها من حجارةِ ما تراكم، ومن ترب ما غفل، ومن مسارب ما اندثر.
– III –
خُوَذ كثيرة تغطي سطوح المدينة وأزقّتها وناسها، يعبق منها ما يعبق في الرؤوس من مخيّلات توازيها بتهافتات سائبة تنفخ دخانًا بين الأبيض والأسود وما يؤول من مصائر التواريخ والفتوحات والحشود والنشور وما يُملي على الهواء من ثقل التوازن بين الأجسام والأبجديات وغروب الشموس المضطربة في أسقامها، بأسوارها المجنونة. هنا تعبر بتؤدة أو بجنوح مبرات النفوس والمشاعل في سخاء ما يُكتم وما يُحتجر من سقوف تمتدّ سوامها بخضوع يشبه أن ترفع الرؤوس وتقطعها بحنان الغيوب.
أن تغيب الرؤوس بدعة من ابتكار الصناعات المُجرّدة من جلودها وأوشامها وما لم تُنَاهبه وما بارَتْهُ وما لفظته لحظات قاطعة. وهناك على امتداد أرصفة تنفض غبارها على مزارب الأشجار والإشارات واليمام وقرع طبول بعيدة السّمع ودفوف من ولائم فرشت نُعماها على السرادق بقوادمها الكاسرة.
وهل وراءَ المدينة مدائن أخرى عاصية الإلفة على أنفارها ودُورها ومتونها ورؤوس خبراتها المرتمية بلا نباهة في المقاهي الخلفيّة والحانات المأهولة. ولا أخبار أو أصداء أو أنفاس وربّما عزوف عن الاسترخاء وغياب النبات عن الأوردة والمحاجر.
أمُدُنٌ فوق مُدن ومُدن تحت مُدن، ألقاب أقوام ينهرون مآلاتهم وعجلاتهم بسأم التردّد بين التاريخ والأزقة بحثًا بلا رُسل تفتح أبوابها وتغلقها صنو الممرات والقداديس ومآذن الجنّات وما يورد الأحصنة الميّتة إلى مياهها القديمة غبشَ المخيّلات المعدنية وفيافي المنافي وتناكر الأصفاد والأحفاد على غير وقع أو رمية نرد على سطح المصادفات والأقدار.
ربّما هو السُّبات المشتعل بلا رمده، عيون مغزولة بالسيلوفان وأحذية من محميّات الجيوش الآتية تقطع الأرصفة بما يشبه الاسترابة ولا ارتعاش شجر خانته براعمه الأولى وكواسر مُدجّجة مُبرمة تسقط فيها الثمار بلا ميعادها ولا من ينتظرها أو تحصيه في سقوطها.
– IV –
عبر المدن المستثناة بأبّهة من افترس عدّة أجيال واستنام يقظات – غير موصوفة، دخان رائب اجتاحتها أقوام بلا أنفاس تنتهب قرص الشمس تُبدّد جلود السنانير والنعاج وحمير القرى كأن حظائر بألوان الولائم الإلهية تلفظ نسورها آنَ لا تُنجدها أيدٍ تمتد من سماءات أقصر من أفواهها وأناملها.
عبَرَ ظلّه الأول (ونسيَ الثاني) ونادى ثمّ وقفت عليه سيّارة فارهة أقلّته قرونًا إلى ما كان ينتظر من أيام وفتوحات تسيل أرجوانية أو زرقاء بحريّة أو فاتنة الطُهر والسبايا، من لحًى غزَتْ المدن فأشرقت غرائزها بواطنها وسعاليها. هنا بالذات ارتعاش غامض ليمام المدينة وأشجارها وأسلاكها ومصابيحها وشهقت المطاعم الزاخرة أطايب عبقت بعطور السيقان المفتوحة وأثداء الفراديس ذات البضاضة المسرورة بمن جافوا الحروب إلى الأطراف والنوازع وبيدِ الرمال والفقاعات الناقصة بشراسة اليائسين ونشيج البهاليل وجماليات الأصوات المحظورة بلا أخفاق نزلت أعطافهم ترمي الجحور بالخلائق المنشورة بكيميائيات المصانع وقشور الغيب، حصيد النفايات المعدنية رشيش ما تنفحه الذرات النووية. عندها التفّت المدن على غواربها كحيّات ألفيّة وكادت لولا المواثيق والتواقيع تكون جذعًا واحدًا وقرية واحدة وموتًا واحدًا. لكن الفأر المهووس بالشرائع الخلفية والنواميس الاماميّة قفز من قبّعات المجاميع وقرض آذانهم حتى أدرك سموّ الناهض بين الإشارات والآيات والسبحات حتى، كاد يغرق ومعه السُّبل وأسرار غير الآبهين بتواريخ وخرائط شوّشت فيها المقاصد والسفن وتجرّدت من شمائلها وجنائبها حتى ساد ما ساد من تهارش وتناكح وركلٍ وطعن وملاعق وبيادق وبنادق ثمّ كشفت من تحت التخوم والنجوم أسلحة رائدة في مسافاتها، فارقت ضجر الآتي من رفوف المدائن المتقادمة والأعاصير الكونية، تسمق من سمق منها ثمّ نحلَ كشعرة ثمّ تقلّص حتى نبضت صنائعه صرصار غابة واستزحف جسمه بلا أطراف ولا ملمات ولا سعار، وعندها ضجّت القاعات والملاعب بقهقهات النصر وسالت دماء غزيرة (بلا محتوى صريح) وطرقت الرؤوس هياكل وعِظام ألفية وأحذية وربطات عنق ورؤوس مقطوعة. بعناية من يعرف الآخرة وتبعاتها بملائكتها وجواريها وجلّاديها ومصطفيها وخلّانها الفائضين بالغرائز الإلكترونية وفقهاء الغيوب، وهكذا، وبلحظة سائبة اهتاجت البشرية كلها بسنانيرها وبيضها وفعلت ما فعلت من وصفٍ وبصقٍ ورفسٍ وَقَيء وشهوات مبلّلة بإيمان ما جالسوا الأولياء والقدّيسين والعائدين من المدن والدساكر البائدة.
وها هنا مَنْ يسائل بأوكاره الشتّى أو يماهي بلُغاته الببّغاء مما تراكم من عظائم الأمور والصحوات المُبكرة والمتأخرة يناجي بعذوبة أشكاله المثلى يمتص دمه ويبتلع جسمه بترف الذاهبين إلى كبائر الأمور.
– V –
وها هم رُوّاد التيجان المخلوعة يُسرّون بأبدانهم الجلّى ما تكتهنه النجوم والأسباب والمطايا يُبصرون ما لا تسمعه الآذان يرون ما تشتمّه الأُنوف بعكاكيزهم ومهارات غيوبهم في البراري، رمش الغبار في عيونهم صقع المنيات على ما في جلودهم من طبائع وملهمات كأن من لُهاثهم يعلّون المصائر وعصائر السماء مُستغفرين من نهايات العالم ودنوّ المآسي وسرائر المُنجّمين ما يحطّم وما لا يحطّم من تباذل المرويات الكبرى العائمة على قشّ الحظائر بأرقامها وسجلاتها ودنوّ مخارجها من دورات الأرض. وهنا على غير مزاعم، ترشقها السماوات العدّة بطوابقها وأصباغها بنيران اليقظات الكبرى والحرائق وتعاضد المضارب وتشابك الأوزار واستنزاف ما يرشح خجولًا من الآيات البكر والوصايا وخطب البحيرات والجبال.
– VI –
… وعالية تلك السماوات الواطئة بجلاميدها ونُصُبها وما تستنزله من جحور الخلائق وخسوف المرامي تماهيها بمنصات لدُن بروق وعلامات مشبوبة لذاذاتها معروفة أوصافها شجبة تهاويلها وأنماطها. وهنا عليك أن تجلي ما اغتمض وراء الأنواع وطباشيرها، وما انتفخ من غضب سديمي شبه المناجم الجوفيّة ومصانع النعوش وسرائر الجانحين كُسالى خضوغهم رميم صواعق وسقط مجالس غيارى لُهاثهم يسابقون النعوش بجنون من فقدوا عماءَهم وأضاؤوا بدماء قديمة المسالك والأنهار فاضت بغير ائتمان على الرزايا وتقاطع الحتوف لتكتمل الرؤيا بمناسم النكران والأحاجي وسجلات الموتى. وما عليك، مزدهرًا بغيابك الشقي، إلّا أن تخطو بحذر من يخشى سقوط الآخرة والأخرويّين عليه وتُعلن ما تُعلن من رهانات تلتئم منها السوابق ومعلّقات المصادر وجعب النيات القصوى في الترميم والتقليب وغلوّ المصائر. وهنا عليك أن تحاذي من بركات القيامة كأن تُجفل أمام ما تصنع مراياك من أغباش وأجسام بلا قَوامْ، عطرًا يوزع في المراثي وأعراس البدايات.
وهنا حذار الاحتفال بانضمام الغيوب إلى صفوف الجحافل والمناسك فهذا من شأنه أن يُفسد أجسامًا تطهّرت بمياه الأوائل والأواخر، هيجاء في تلمّظ النيران وتهالك المرابع والظنون والخروج من النوافذ المغلقة بإيمان شديد البر والرمضاء.
وماذا عساك تفعل عندما تضيئ السماء كلها كأن انفجرت الشمس بكل عَمَاها على العالم، وتلمع الكواكب تقطفها كتفاحات الجنان وتتفتح البشرى على بوابات الوصول وخلانها الموصوفين بالأثرة والاصطفاء.
– VII –
لم تعد الشجون من عزلة الغرف المظلمة والكراسي المهجورة، فما يطلع من بذور الأرض يموت في حينه (لا تأجيل لخواتم أو حصيد)، وما يُفرغ من كائنات عجلى من مختبراتها ينحدر في ثقله وأوزاره. فلعل في موازينك ما يتحرر العزوف ويشوّش الرؤى، ويغني الزرائب، فيلتبس عليك ما يلتبس على الطبائع السيئة، ويستدرك فيك ما لا تستدركه (ضائع الأجسام والمدافن)، فيشجو ما في أنفاسك وينشج ما في دمك الحار، وعندها ترى الأمور بهذيانات واضحة ملء اليدين، وبخليط عناصر غبّ الدهشات صنو أن تضيق فجأة في بحيرة من الدم أو تنصب فخاخًا للترياق وأحافير العشب وحبر الأدمغة والمحفوظات والمدوّنات الثيولوجية الأرضية، وما يستنبتون من فروض وأعراض وهياكل. وهنا من مسراتك تحفظ ما يسترجع صبحًا أعزل ونجمًا أحمق وليلًا بأدلة العسس والمضروبين جزافًا ببكتيريا الذاكرات الموعودة وهريان النسيان.
وعندها، وعلى غير خشية يمكن أن تُسمي ما تمتلك من تواريخ سحابة رمل أو هذر سلحفاة.
– VIII –
كيف لهذه المدن وثيرة الخيلاء إدراج لغاتها وشيفراتها على صفائح وجوه سفتها الريح، وأي حوافر مخضّبة في مسافاتها الخلفية تخبط بلا وقعها وتومئ للموتى بتسريب محفوظاتهم وأسرارهم. وأي صلصال هذا مزج الأوراق وصفاء العزلة وأي نداوة أن يرفض ما يُعين على فتح المسالك المعلّقة بلا مجرى يحرّكه في غليان المفازات وما للوافدين بلا انتظار أن يحتموا بالوبيئة وحقن ما يختلط فيها من كسور.
وها من سيول المفاجآت الصادمة بجهاتها الملتبسة سَرِبة ولا أفواه آسنة. وهنا عليك استسقاء الينابيع إذا غاضت، والنَّبت إذا أوشم والبَرْق إذا أومض والمطر إذا هَتَن والمياه إذا هضبت.
وهنا لا تنفع الهندسات الباروكية والتوازنات الإهليليجية مختلطة البشائر والنذائر والمسائل المعروقة بصلب الشموس تهذي في طيف أهوائها، تُجفّف ما تجفّف من البحار حتى تتشقّق الينابيع كصخور طبشورية في كفّيك ويذوب ما يذوب من ثلوج الاستسقاء واستمطار اللعنات: كأنّها الأرض؛ تمتزج فيها وشائجها المسبيّة، يشقّ يباسها، وعندها تثبت حركات الرادارات المعطوبة في علوّها، وتنقلب الجبال على أعقابها تسحق ما في الغدران وما في أوكار القوارض والحشرات، كأن يتلاشى ما في أعرافها لينقرض ما ينقرض منها بلا شفاعة ويخونها من الهواء ما يعجّل وداعاتها الأخيرة.
– IX –
الأرض الزرقاء ستكون نهاية الأرض. (ولا عجب يرقى إلى ضمور الاستفهام والعِلل)؛ تسيل السماء كجنازير معدنيّة، ولا تسمع في تلك الخلاءات البهماء سوى ريح الشمس تمر بلا ضوء. يكفي أن توقفنا الريح لكي ترسم ما لنا عطشاه حتى الحصى. ضربت الشمس ضربتها في جسد الكائن المختزل العبور، كائنًا في الهواء المُلغى من الهواء، كأننا بلا حواجز في الهواء الجامد البارك على ضوء بلا حرارة، نار عضوب تزحف بلا حدود.
إنها الأرض، على تخوم العالم تنفجر نحونا بلا توقف مثلما يجفّ أو يزدري بقياه. أن تنطفئ الشمس والأنفاس التي تعبرها تعتُم، ويصبح الوحل سماءنا الأخيرة.
وهنا لا ينفع انزواء أو عبث أو جسّ في كسور التلاشي وما إليه، والمدن وما عليها، وما للكائنات على نجلٍ وجزّ ونهيق وعواء مقلوب تلوح بما قرضته طويلًا في مدارات الأرض وانتظارات المواكب. كأن في انتظارات ما بدأ في نهايات ما جاء.
كأن يموت العالم وسط صرير الجراد وحسيس الحرائق، ونشيش المقادير والأوبئة وصليل الأجنّة في البطون وخفق النعال على بديد يرتعش خواؤه ويصمّ غطيطه.
هنا لا ينفع التآود أو الإدلاج والتغليس وما تكدّس في أوعية الأجساد المتهاوية بلا نسيان ولا ذاكرة ولا بربرة أو تأتأة أو فأفأة، فاللغات كلّها انجرفت باكرًا مع أفول العناصر ووسوسة المدن، وسدر العيون ونفاد البرازخ وسلب الشجر ونضو الألسنة وصقيع المختبرات.
– X –
عيون كسلى من خلف ألوانها العارية؛ قبضات تدور بمنتهاها على زئبق افترعتها الأحايين، سبكتها المفازات فانسبكت وها القرّادون يحفرون في يباس الهواء، يحرقون الشجر مكدومًا بأنيابهم. وما على نشورهم سوى أن يَقعوا على لُجينٍ فاغر وتنكشف الشموس بين أيدي العطّارين واستيحاش أهل المقادير ومناسكهم من سُجُف التأمت عليها الصفائح والصحائف وانجذمت منها جبال يستبين جسم ملول أو يحترس الزبد حلوب الأوحال، مسلاة له وَمِنْساة، يتصارم الذنابي يسابق الأرض آنَ تتعاصر الصفات بين الظاعنين ألْيَنَ من القطن لو نجع، ومنه تكل الأوهام ومنه تكلّ الأرحام ذات الأنساق الجغرافية والموالي، بلا أنساقها ولا أوطارها تهافت أهل التشظي في اعتمامهم يسلخون جلودهم كأن تتناول مراعي التلقي وأنسام الموتى المُقبلين بلا حالات تُذكر على مشتقات البلاغة وأراجيز التمائم المديدة.
وهنا يسوّد ما يسوّد على عواهنك فيأتيك بالأخبار من اختتم الشفق وأعراضه بخطوط الرؤى والمزاليج المثلى وسيّان عندها أن ترفع أصابعك لتُومئ إلى ما يكبر وما يستوفي بصمات السائل بلا مجيب والراهن بلا وقت لمن حجزوا لصديدهم ما يوافي البصائر وما يُعتم من منامات الزهد ومبراته والسِلم ومفارقاته وتُوازي الشمس والمحيطات وانعدام الأوابد وسلوك التباريح شعاب الرمال وتلاطم الكثبان أو ما يوحي مساكب البلور واعتمال الأجنّة بين مختبرات السبي وتأبيد العروق والأعمار.
وهاك من هشاشة مصانع الاستيلاد والأعضاء ومدارات الكائنات الإسفنجية وصلابة الفولاذ لتنامي وساوسك من بدايات الكهوف بكتبها ومدوّناتها وإكسير ما ينبو على شرفات الآخرة والمبتدأ آن يعوزك أن تفارق بين الأجسام وتوابعها وبين العروق وقرائنها والذرات وفتيتها. وها هنا من أسئلة الماء وما يتخثر منه والرصيف وما يحرقه آن يلتبس عليك التكرار ودوران الفصول وتعثّرها في عواقبها وترادف العناصر في تذبذبها، ولك ما يَعتَور مظانك من شميم بدنك شتَلَ ما تشتل من أحاجٍ تقارع من طبقات العوام وفروع الأشجار المشتعلة وحضيض العشب المرتج تحت سطوة السلاحف وما يساقط من الأعراق وألقاب الجغرافيات بخرائطها وتضاريسها وشقاق علاقاتها.
وعليك في مثل هذه التبدّلات أن تحفظ ما في صلبك من اهتراء الطبائع والسوابق وإن جاءتك جِمار قذفتها الآلهة في سباتها على ما يندرك بغلوّ النصوص المنتظرة في فتحات السرادق وجلاميد الهتاف ولا مشارق ولا مضارب تطفئ نيرانًا مبهمة في صحارى المشاعات بلا أعذار تنتهكك أو مظان تعادلك بأوشامها وتهاويلها. وعندها تكون وحدك بين ترجمان أشعث ومخطوطات من بلية التمارين على أعتاب المشقات.
– XI –
بين الصفائح والصحائف ما يُنجي وما يُجزي أن تفكك مضاربك سعلاة أو ينكسر مصباح في وجهك أو تفوتك لحظة غياب بتهاليلها تستسقي منها ما يطأطئ جسمك ويطوي ركبتيك، وهنا تبتهل في سجودك في لوازم السابق ومنتهياته والناهد على عظامك وعريك وخفّة أعراضه. وهذا ما يحيلك وأنت على غير احتمال شجرةً تمشي جذورها في العتمة. وذلك من سؤدد القصص ولحاظ المسرات وانخساف الدمع.
على أوراق تجفّف من سلالات توّاقة إلى الولادات السفلى وضرابات الدفوف بلا معين ولا ضمّ أو شميم أو نجوم تتساقط غب المشاعر القصوى ونهنهات السافطين ولا رحمة تنذرهم ولا أديم يجيرهم ولا من شموس دائمة أو أرض تسترجع تسوّل السماء وهجائن التسليم.
– XII –
بلا بدن ولا ملامح
ينظر بلا عينين إلى الماوراء والماتحت نديمي، أُساحلُ البحر ومخلوقاته تفيض بالحرائق من جذور الرمال كأن ما في رأسه لا يشفع بالتذكر سيرًا أو اغتماضًا أو يتوقف أعزل بلا عزم أو يتراجع بلا خفة عن تقاطع أو يستوقف بلا وقوف أن يتذكر ذاكرة بلا تذكّر يسترجع ما لم يفقد وإن استُولد فلكي يهمل أعمالًا ومدارات مسالك لم تُسلك ومتاهات ما يجري إلى الهاوية وكل ما تبقّى من صمت يتحوّل بربرةً على الوجه والملابس والخطى بعينين تهذيان بلا صور دامغة أو قشور، ذلك أن ما تبقّى للبربرة ذكريات بلا رديف ولا مُسائل.
– XIII –
التماع أديم على غرار من تشققت حواسه تنتظر ما يرفد جفافها. من استشفاف الواهم حجارة تنبت في خلايا التربة وما يخالطها من ضيق فراشات ترخي أجنحتها على هواء مجهول الإقامة والهبوب والنسب الحرارية ولوحات المناخات والمعادن والكربون وسماء التعفر بحصى تلامس رؤوس الأعشاب وتنطوي بلا ما ينبت من مساماتها الملتهبة.
لا ذكرى ولا ظلال لنوم الأوراق والهداهد والنمال والفئران غادرت بواكيرها وأوكارها تعلّها كثبانُ الرمال أو هجائن النيران.
لم يعد من نداوة كلام على الطبائع ومباخر الكهّان والتعاويذ ودقة الفصل بين النهار والليل والأسابيع وتأويلات دوران الشمس أو خفة القمر وخطوط التماس والتقابل بإشارات الحدود ومفاصل الأوبئة وهيجان القواعد والأنساب.
الأرض تشيخ بلا مأوى ينتظرها ولا سكون ولا حركة ولا مآسٍ ولا نكران، تنتظر، بكسل مشبوه فتيتَ مصائرها. كأن من قوارب الطوفانات بأعدادها وأشباحها من يحدّق في كواكب سيّارة ومقابر تموت من الموتى والمزدحمين في عرائها بلا ذكرى ولا توالٍ لمفقوداتها في فضاء الطبيعة أو في دغلها ووحشه.
وهنا بالذات تشجبك خفة أوراق ذابلة تتأرجح على كتفيك أو هواء يتيمُ معانيه لتذكّرك عرضًا أو ملامة بما تركته أقوام من سلوان ومشقات وراءَها.
لم يكن البحر سوى البحر من منسوبات الأقاليم، لم تلِد الغيوم تحرر النهر، ولا الضفاف صراطه. لم تعد ينابيعه من باطن الأرض. جفّت السماء وعلقت نزولها بين الفصول. يبس الماء في الماء.. والأسماك في الأسماك. والزّبد في الزّبد. وبدت الشموس أقسى من فوهات البراكين ومن دهور لم يكن الكلام على النواميس كثيرًا في تلك الأيام المستعارة من كتب الكهّان والمياه، تبشّر بموت البواطن فلا يوازيها غير لمعان الذهب والقشّ في حظائر متوازية لا يعلو فيها صياح ديكة أو ينخفض مواء عشب منها على سنابك الخيول ونعال الوافدين بلا هُويات ولا أمثال..
تبدّلت أدوار المسارات الكبرى وانقلب العالم على العالم والطبيعة على أعقابها تفتقد مومساتها وعذاراها وتنتعل ما يتباعد منها على غير طريقة أو ناموس أو ابتكارات تنبت في رؤوس بهاليل في حركات مسوّرة بجذوع الموتى، وتهافت الممرات ونذائر الحرائق وبجنوح السيول المجروفة بمقاعد الرائين والعرّافين وغربة ما يتحرك في مجهول الحشرات والثعابين تطفو بركاتها على أديم خفايا التعاويذ ونشوق الموتى العائمين بأثقالهم على ما لم يعد من أحوالهم ونداماتهم.
مرضت الشمس طويلًا تحت إبطهم وفوق مشارفهم، أهملت مسافاتها وثبات مداراتها حتى داخلت الجفاف في قعر الأنهر والينابيع، وعاقرت الأرض بنزواتها الجُلّى ففاضت على غير علم وتناءت على غير صحو؛ عابثة بجمادها وسرائرها وحرائرها بلا حَيْل ولا مواربة.
– XIV –
وأنت من خلف تلك النافذة المتروكة تحصي ما تحصي من السافطين مُفتقدي أقدارهم بلا همم ولا رجاء ولا يأس أو تعلات من عبث مولم ولا بصائر؛ تعتزل فنجان القهوة أو الورقة تنتحل ما تنتحل من وجوه مأهولة لتخفي ما في يدك اليمنى عن اليسرى، وما في هواجسك الأولى عن الأخرى، تلتئم على غير تماس بخفّة كسور الكائنات، ترتعش من جمود الساعات وانتعال الدقائق الموصوفة سنابك تخبّط جدرانك وخزائنك بلا معيّة تُذكر ولا اعتلاف قش الوقت المحترق في عينيك ولزُوجة العزلة على يديك وعلى أنفك وعلى ما لا يجري من امتثال وما يطفو على جسدك من آيات الموتى والمنفيين أعراقهم بملابس تدوم أكثر من جريِهِم وتهافتهم على المصبات القاطعة من رعبهم وقسوة ما ينهار عليهم بلا سؤل ولا عُرف من أوبئة تحتل الهواء وتخترق أجسامًا عزلاء على تلك الفِجاج الهالكة تقرع لهم أجراس الاحتفالات الكبرى تدقّ لهم أهازيج الأنفاس الأخيرة.
إنها آخر مبتكرات المختبرات والمصانع تباري بدقة الأرقام تنزف العناصر من العناصر والحواس من الحواس والأوبئة من الأوبئة لتتناسل بلا تخوم. أهي علامات النهايات المصنوعة من جبس العقول الاستثنائية، تتجاوز السرديات. كأنها الأكرونولوجيات الإلهية بين الرؤيا والتفسير، واحتمالات ما يحدث وما لا يحدث.
أهي اللحظات المسنونة بين حاضر لا يحضر وماضٍ لا يمضي.
أهي السرائر الفائضة تسائل ما مضى لتلتثمه ما سيكون من طبائع العناصر ومقتنيات الخلائق ونثار التاريخ. نقطة متباعدة في أبجديات الحروف والأرقام على وهْم تجريدي أو صدف الفلسفات والأعداد والحواسيب والجينات وضلوع الفجاءات في مجاهل الأمور وتعاقب الحجر والحديد والذهب والذرّة وما يشاكلها من كيميائيات الإبادة وفيزيائيات الموت وما يعادلها من فتوحات وحروب تمشي عمياء إلى الكارثة…
– XV –
تلك السماوات المُصطفاة على عللٍ ومشتبهات أمور وسرائر غُمض، تخبّئ بألواحها وشاشاتها ومسوغاتها (الفضلى) جذور الكلمات، بلا ريبة ولا أنساق ولا جمهرات تمسح الجدران بسلالات الهجائن ولا من نزواتها سوى ما تغيّره العلامات، ولا نديم يداري ندامته ولا تأشيرة، كأن من نهاياتها الموعودة صديد الحرائر أو زئبق الأيدي تدفع المصابيح إلى السباقات الخاسرة.
كأن لا يبرق في تلك السموات الحُمر سوى من يستنزف وحشية الطقوس والنواهل وجماليات البتر والفقء ومجازات الألوهة وما يخصبها من الدماء الأولى المنذورة لمقامها، السديمي. أكاليل ودفوف وأبواق أثيرية تنفث ما تنفث من فتيت غرائب موصوفة، وما يهيل الموتى نشاوى ببكاراتهم وما لا يولد، ومن على هذيان وأعقاب كلام وعيون بلا مخاض تفوح الألوان والجلود بدخان المحارق والمقاصل وما يليها من إبهام المعاصي ونقاء أُولي البصائر وما تتنفس عن معادن الأجسام، بديد أقدام أنقذتها هجراتها وصحاريها وملمّاتها، غُمضُ مخارج عقولها ومسامها وأزف أزوف الوداعات السائبة ولا نكران ولا استرجاع حقائب أو شذور خطب النسيان والمعية؛ ترسف رسفًا سُطور تكهنات على أديمها تنازلها على شغف سدرها وما دهمتها من فجائع الأوائل على إدبار الأواخر.
أزمنة صدعت الدنيا بقناديلها ومناديلها وصُرفت نهاياتها في أحشائها وغربت الأنهار في مضايقها.
إنها الممالك العظمى تُصاهر عن غير عمد الأجناس والهوامش برماد الحرائق وغلوّ الشموس في استكبارها وعَماها.
– XVI –
(الأشجار تدعو إلى الصمت المبهور بالوقت غير المرئي من قارة إلى قارة، ومن شمس إلى شمس يفلت إيقاع الأمكنة البور والمقامات تكون الأرض فجأة، وكسورًا بلا الأرض حتى أنساغها، فلا تقيس أعراضها وزواياها فلا الفجر الذي لا يتداعى ثمّ يتداعى في ألقِ النهار أو اهتزاز العناصر، كأنه ومن وشائجها وقماشاتها من ذاكرة النسيان الطويل).
– XVII –
الخلاء بركوده اللامتناهي يتنفس فيه على غير استواء ضبابٌ يتداعى من أوديته الأخيرة، يتنسّم حجارته، يعروه من خصب المآلات ما يُدحرجه إلى أعلى. بكل أبهة النماء، ومعادلات تسبي الخفة ورذاذ مياه أوحلت يرتهنها فرح العقول المتوازية، غرس الإيهام وترجرج ما يتهجأ عديمًا على مشاعات خُلب المقاييس المنهورة لا يتقنها سوى من سلّم أوراقه ومحاجّه للعاصفة ولتخثّر الهواء في مد موبوءات الطبائع، يشتمّ شميمُ حدائق دفينة حروقها عييةً، عطورها السود..
وهنا، وما للضباب وما إلى تقعّره ما يستَرجع بأقانيم الخواء والأسماء الجُلّى بأنماطِ الفوضى. وعليك هنا أن تغضّ حواسك ومن غير استبصار ولا حيلة وتُباينَ مباينة اللامعقول المختبرات وبيولوجيي المناخات والأكسدة، تتلو بعزيمة من أنهكته المعادلات، صلوات الآتين بلا حجج من أطراف الشواهق وبطون الكراسات يستعلون استعلاء مَنْ لامس أطراف السماء وأسرارها والأجساد ومصائرها وانتشى بمودات الاصطفاء وجنوح الأدمغة ولُهاث الأقوام على مشارف ما يتحوّل بلا نذائر بين التماع الغموض، وشهقات الألوهة ما يُولم للمصادفات ما تُولم الأمهات للموتى قبل مجيئهم.
– XVIII –
(كم من الوقت بلا فضاء خارج الوقت
تُوافيه في لحظات تعبر فيها الكلمات
جسدك من أقصاه إلى أقصاه).
– XIX –
(إن تغتسل بالندى في ضوء الصباح
العالي في صمت الأفق
الفسيح تُصغي إلى الأمواج التي تهتز في
جسم الألوان).
– XX –
ذلك أن الكائنات بمنصاتها وفروجها وترجيحات وساوسها وغفلاتها (المضيئة)، تمر في السبات القديم، الرجراج باغراضه وتقنياته ومساربه، مصبوغًا بصحوات الدم، كأن من فرط فجاءات الأسماء وتزاحم الكوابيس والنواويس، ينفجر ما ينفجر من هذيان النبوءات وسحر المذابح، رقم المجازات من سجلات ومواثيق، فلا يتبقى من ارتعاش مكبات الألوان، وما لم يُسجّل من المدونات والمواخير وشيفرات الموت.
– XXI –
(اغمض عينيك إنسَ الشوارع والغابات
والحيوانات وركّز على ما لا تتذكر وعلى ما
لا تنسى،
اشعرْ أنك خارج الأحجام، بدمك
الذي قد يجري من دونك
أحس بيديك
بما لا يحضر في غيابك
وبما لا يحضر في حضورك
وعندها افتح يديك
حتى وإن ضممتهما
دعهما في مدى غامض
ودعهما تتلمّسان جسمك
لتتأكد أنه جسمك أو تتذكر
أو لا تتذكر أنه ما زال هو
بعينه وليس جسمًا آخر).
– XII –
(عبثاً ابحث عن نقطة ضوء
تنفخ فيَّ كل الشموس
والطرق الكبرى
التي تجذر خطاي
في الأرض).
– XXIII –
(نعم! أعود إلى حيث لم أذهب أبدًا
وأذهب إلى حيث لم أعُد.
في هذه الأماكن المظلمة
التي نعرفها دون أن تقطنها
آخر كوكب قبل سقوط
الشمس السوداء).
– XXIV –
(لا ضوء خارج المكان
لا ينجب النبع إلا النبع
لا يجري الماء إلا إلى الماء
كما الحياة إلى الحياة
كما الموت إلى الموت).
– XXV –
هل نسكن في جروح مقدسة وراء منافي الحجارة، وتهافت حروب لم تبدأ ولم تنتهِ روائحها ومبيداتها، أبعدَ من منظار كوني أو تجفاف بحار واغتوار أودية بأوزارها. ونباتها وأشكال صمتها المريب، على عصف ناري من فوهات قدرية تتسع لمدن ودساكر ومغاور (ألفية) خليطة المراثي ورسّو العيون بمعتلّاتها. كأن نسكن أفكارًا وئيدة السلوك في مواعيدها المقصرة على مراحل ولا غلوّ ولا تغافل ولا ما يدفع إلى منذورات المخيلات. ولمامًا أفكر بأصابعي، ومن أملاسها المشبوه هيجان القدّيسين والأولياء اللامع ببروق المعجزات.
– XXVI –
وعليك بالأفكار الجلّى ومنها الجروح خصبة التواتر غريمة الحِقب تسابق دماءَها، ضوضائيّة المداخل إلى أنواع السبات الرجيم وترانيم الاكتتاب في مشتبك المحفوظات والنواهي ومحفوظات الجلد، مبهورة تحت شتات من لميم التفاسير، وخرق الخرافات تستسقي أسماءَها من «مآسٍ وتراتيل مصبوغة بأصوات وأدعيات ملء التأتأة، وفقه التنبّؤات الآتية بلا أرجل ولا رؤوس على مساحات تسيّبت تخومها صامتة في حطامها.
– XXVII –
في ساعات الأرق، أتكون الأشياء أثقل أم بخفّة السُبات أقل ارتطامًا من صمتٍ عار صِنو الموتى في لحظاتهم المتأخرة، بين الليل والظهيرة بلا مجافاة تُذكر وإن على ضيق الوسادات:
لِمامًا في هباء الأرض من السوابق والصباحات المشحونة ما يشبه دروس الوداعات لذاكرة اختلطت عليها الأجسام وسبايا القتل. ونهارات اشتدت في خلانها بلا نكران أو طأطأة رؤوس.
– XXVIII –
نواقيس اخترست على مشارف الهضاب وتماس الأيقونات تهذي لمشاعل موتاها يسترقهم غموض العناصر وشروخ الأرض ومُستنبتاتها وعوامها وعَياء عتماتها. فوانيس ترمي رمادها على الأصوات الحطيمة والعيون السادرة في عماها المطوّب بين رواحل العرّافين. ربما من باب العبث الموثوق أن تسبي العروق ما يهزّ مجاريها أو يدفع دبيبها شلوَ صراخ مُنتهك، أو نسمة تلوح ثمّ لا تلوح. وعندها يلتئم ما في الحشرجات من صليل ليستبق ما استأخرته ظلال (أعرافه وما تشنج أو تراخى من لحمه وقديد عظامه، وعندها بلا تهاليل يتردد ما في النواقيس من سوام غامض عري السوابل والآذان والسماوات المفتوحة والأحجام الساقطة على تواز أو شهود أو استتباع مقاصد زفرت طويلًا وبلا اشتقاق هواء جامدًا أو ربّما ازدوجت عليها مشاعل الموتى، بلا جنات تواسيها بألواحها ومبراتها ولا جحيم تستجيرها بمظانها من عزيف الفراديس المفقودة وأكسير العطور المُنتنة.
– XXIX –
كانوا يهبطون فرادى من فوق الأبراج والهياكل إلى المدن السائبة لا تسمع سوى أنفاسهم كمطارق من صفرة العائدين بسرادق وبأكاليل وبأجنحة بلّورية يرفلون مُثلى يرفعون كتبًا مسحت الأيدي حروفها وتلاشت أبجدياتها، كسلى بالأعراق المتعبة في استرجاع مزاميرها وأصلابها يمضغون بمتعة عالية ما تبقّى من حشرات وفئران ومعادن وشاشات موسومة، كأنَّ طنين ذباب أخضر على جحافل، يمتزجون كمدابر تداعت صلواتها عن أدراجها.
– XXX –
(إن تغتسل بالندى
في ضوء الصباح العالي
تصغي إلى الأمواج التي تزحف
في جسم الألوان
أن تكون لونًا بين الألوان
حفيف هواء).
– XXXI –
يعود إلى حيث لم يذهب ويذهب إلى حيث عاد
هذه الأمكنة المظلمة1
التي نعرفها لمامًا أو كثيرًا
إقامة أو تهجيرًا لآخر جرم قبل
الشمس السوداء
لم يعد كل شيء سوى إرث قديم لا يمحى
أثر أمكنة ممسوحة ووجوه تكعيبية وذاكرات
ألهبها غيابها الطويل.
مسرح فارغ مأهول بالأزهار المسمومة
نباتات من أكلة البشر تفترس النباتات نفسها
تشهر الأزهار سكاكينها ينفر الدم
يسري تحت الجلد في نسيج يتعطّش
إلى أوراد وغيوب
وضرب أعواد ودفوف ورفع عيون
إلى سماء لم تعد سماء.
سماء واطئة، بابها موحل
أقنعة خلف جلد العالم.
(عندما تعبر المرآة
حتى المرارة الأخيرة
وتستنفد الكلمات حتى آخر الصمت
لن يبقى لديك سوى
أن تغلق الباب
وتحرق أبصارك كلها).
(ينابيع جفّت /أجنحة مهيضة
تفقد الأشجار أنساغها
تتسلق شجرة اللبلاب
الأشجار التي ستموت
وتموت معها).
– XXXII –
أيّ عُري سافر في العناصر ومركّبات الأجسام وشبكات المصائر والكائنات السائبة في أحجياتها يداخل جلودَ الأجناس وشهود المرايا يحطّم ما في الماء يكسر ما في الهواء يختنق في حلباته الضيّقة ولمّا يدرك جذوة أو شجرة. ملء حجارة على أوصافها وشروشها وأوصافها حرّى صماماتها في مجازات الزبد على يديك، كأن جذور العائدين بلا أسرارهم وقسماتهم من المدافن سطوة المباخر يُحدّقون في خلائقهم مزيج البصائر والمحفوظات لعلك تومئ من مياسرهم وأعطافهم علامات سماء ملتهبة وآبار انقلبت على أردافها وشغورها.
– XXXIII –
بين رصيف تعبره وتنساه وحانة تماريها بثقل الجلوس في الجلوس ثمار مكتملة التأجيل بين ما يستوريها من الرؤى والأساطين وما ينازعها من المخيّلات الفطرية. تسقط ثم لا تسقط خارج لغز المعادلين ونواميس التجاذب والتناحر تنفتح من تلقائها وتنغلق على ميتاتها المعلّقة.
– XXXIV –
تستغرق الكائنات داخل صدوعها ومرائبها ضيّقة الأسئلة مشبوبة الشواهد.
أهي لعبة العُري الأول (طلوع الشجرة إلى الهواء الأول)، الأزلي من قشور ما يتبقى من الكواليس الخلفية آن تحترق القباب بلا مساءلة ولا مجيب على ريح شقيّة الهبوب. وعليك عندها أن تختبر ما في فوضاها من سُجُفٍ مجهولة المصادر مسبوقة بحصاد دهري لا علم فيه ولا نكران.
وعليك بحواسك المتآفلة أن تثقب ما تحت الأمصال وحُقن التغييب والتعليب لتنسى كيف تتحرك لغة الفطرة الأولى ولحظة القمر الذي فقد قدميه، كيف تنجرد الأمثال من المواقيت المؤجلة واللاحقة والعُرى الوثقى من جمادها.
– XXXV –
ثمّ دار ما دار حوله وما ارتطم وما قطع وما انقطع من كسور وما سقط في أحافير الفوهات الحرّى برميمها المحتدمة بتعطشها.
وهنا استدار ومارى الأزهار المحترقة صنو ما يبهت من ألوان مبشورة وغابات تشتعل وتلتهم ومياه آفلة بجنوح سوراتها وسوء مناهلها ونشوتها حسيس الأجسام المتداركة بنزعاتها وجيناتها اللازبة بلا حراك يؤوي فجرًا آخر أو محجّة إلى عناصر تأكل العناصر.
وها هو يستعجل منابته ويستمرئ السقوط في المستنقعات وموتى الهواء وتباطؤ الأنهر واعتلال السنابل من غلوّ قحطها واستلال الأيدي والأنوف عليها تشتمّ بالآذان والمسام روائح دماء حيوانات طازجة تسبي السماء والجوارح وجلود البشر والتماسيح وأفيال الغابات الهاربة إلى سيركات المدن بمرونتها وجمهراتها ورقصاتها الموقعة إلى مواطئ الأرض سجينة احتضارها ورنين غواشيها، تجتاز ومعياتها كثيرات الأحشاء وتململ الرماد ومراثي البهلوانات الغيبية وأمور الأوائل وما استرابته بمحسوس العتمة، تتلمس ما تتلمّس من أشباح شاردة سديمةِ شفائها، بلا منائر ولا شهوات تلهب نمارق الأحضان وأسرتها وتقلبها بين تماثل وتماثيل ونعيق وأنصاب وزفير واسترجاع صفيقة بهرجاتها غريمة الوحل وتقيؤ الشموس ولا بغاءَ يُروى أو مسارب ولادات، وهناك وفي تلك المدونات الزئبقية بين الأرض والسماء تعْلات القطع والرجم والجزّ بين الولادات والنشور يهوي وما يهوي من أبراج السيراميك بلا مطر مياه في العتمة الجوفية محظورة على هشيم. التربة قبالة السماء الجاحدة بخلوّها العميم مغطاة بجلاجل العباءات المثقوبة بلا جدواها تحت جذورها أو على زبد النهر الغارق في النهر والجبال الهاوية في الجبال والرمال المتثاقلة بمحمولات الصديد والملح والرؤوس المتدربكة تحت المقاصل ودورات الدمار الطافية عذارى ثوابها وقلنسواتها وبويض الحشرات الألفية ولا سرادق طافت على أديم المدى ومقتنيات الحضارات ومصانع الأوبئة وعجلات الهروب بلا أوزان ولا أمداء ولا تحركات تنفث الفوضى في مياه الهواء وأعطاب الصدور وسط شواهق رخوة المسالك مشرورة بين عزة الجيوش وجحافل مومياءات النواميس والكريات النووية والمساحيق الكيميائية وتدجين الخلود والأعراض والزمن المارق تهدر ما تهدر من غلو الكائنات وضمورها الزاحفة إلى الأوكار والثقوب وتفكك الوشائج وما ينقرض بها ولا ينقرض ويتحلل في المختبرات وعلى جلود الفئران والأبقار والماء والشجر وسياط الدعاوى وخطب الأدعية واعتراك النساء المسبيات الفاغرات أجسامهن بلا غفران يرمينَ شعُورهن من فوق السطوح والأشجار، كأن مختبئات في وريف غابات مظلمة كثيف غموضها وعسيفة شهواتها رقيمة جذورها وما يستدر من غبار أجنحة تهاوت بلا رجم ولا طنافس.
– XXXVI –
(يمشي الهُوينى، ببطء الذاهب إلى مقصلة غير مرئية، تقطع الهواء عنه شفتاه معلّقتان بلا أسباب على ياسمينة سوداء وورقة على ظهره وصدر عصفور مشدود بخيط مقطوع، ويداه مخضّبتان بدماء ليست دماءه، مرتفعتان وليستا يديه).
– XXXVII –
ماتوا بلا صلوات غفرائهم معلن في أقفيتهم تجرّعوا ماء قُراحًا سليل الينابيع السابقة في جمهرات القتل وثراء التذكارات المتيبّسة على أوصال مراياهم وعلى أجداث أجدادهم، ولا مهارات تعينهم أو سوء تفسير أو تركيب دلالات أقتم من سماء تهاجر موتاها تعاقر عدمها الخلاب بلا أسئلة تشفي ولا كبائر تسمو على المستنقعات وجِيَفِ مَنْ رفعوا عُصابهم إلى مدارج النقمة ومنتهيات الأقوام يسقطون بيوضًا مكسورة على عوالم من شذرات مشدودات بأعطابها ونجوم مشعورة بمداراتها وقمر فقَدَ وحدته يزعق فوقهم كثور يُذبح بسكّين بطيء سادي الأقفاص وَلَجب الدم تحت سماء غريبة النسيان سائبة الموالي والدجنات ومهاوي الرجاء..
– XXXVIII –
(هناك من يذرف دمعًا أكولًا
في هواء منتن
مصوغ الأيدي والآلات ومرميات
المدائن
واحتباس المتدارك من فصول
وتقاويم واستعارات تستقر
بلا قرار على قبور منبوشة
بلا ابتكار معبر أعمى أو تراب
من جمود الذاكرات الهلامية
الأعواد والتصريف ولقاء
الأئمة ورهبان الهياكل حيث يعبر الموتى بأثقالهم ومفتعلاتهم
بلا أوردة
يلتحقون بأزمنة ابْيَضّ فراغها وعَطَنت
أوراقه).
– XXXIX –
وهناك حزيز الحبال على الأشداق صهيل الليل على أسدافه، يبحث في أعراقهم انحتات العصبة والمنديل والإشارة ومذاهب الأعنّة والخناجر على ضُغْنٍ تغلي في الصدور كمراجل تثقب السماوات البريئة يزلقون في راحتهم إلى مهاوي الأدراج الساقطة ومدقات التوابل وجنازات المناهج تزايلت في خروق الفِجاج واصطفاق الغابات على آلات. وتضاد النور بالظلمة والصبح بالبُهمة، والوحشة بلا استئناس والترانيم باستنزاف الدعاءات تقاهرهم بلا سرايا ولا فراديس ولا جدار ولا أنهار وضمور اللّجب والصياح والزُمر المنتشية بأورامها مزمنًا وعيدهم وبيلًا يستغلفهم أو شلو مذبوح أو مجزور بلا مغالبة تُذكر، وتطفو مضمراتهم بمذاقة المرارة وقوام الأشباح والتباريح وسلالات الطعن ونثير الكائنات ومجاز الصحوات المتلاشية في ذرّات السُبات أو نقيضه من غفلات الطقوس أو المغاور تكتهف بلا خروج من حدودها. مومياءات تخرج من سرادق مكيّفة بهواء احترقت مهبّاته تقودهم بلا يسر ولا اقتبال إلى صفوف الأزقّة والمدن وسوابق الكوابيس ومتروكات الأرض والسماء.
– XL –
وعليك هنا أنه تحشد ما تحشد من مضارب الحالات الأولى تنداح بلا هُوية، أو أفكار مصوغة إلى مسالك المُشتقات والمنافي المتداعية بالغرائز السائبة وتلاطم كيميائيات الجلود والنواهي والخروج من دساتير الليل إلى ما يسبي الغابات في عرائها بأشجار قلّ نظيرها في مبتكرات العلوم ودروس الأشياء وتكرار الفصول ودورات المياه والدم واستلاب الحروب المذكورة في سجلات المغانم والسبايا وتصابي فقهاء النواهي ولمعان الخوَذ تحت قباب من أقواسها إشارات الحسم الأخير وارتعاش المنصات السامية بأُبّهة الأوسمة والبغايا واحتفالات الألوهة المستيقظة في الأبدان والشارات وهتاف الآتين من حدب الخلايا والألوان وإشراقات المعجزات تفضح ما في الأدمغة من سيماء الموتى، يسترجعون ما شاقهم من تذكارات الجثامين وتماثيل الساحات وما تستنزل الأنهار من بيادق وأسلحة ونعال لا تعرف أذرعها ولا وجوه قادميها ولا رحالها ولا مُقيميها لعلّ ينهار ما ينهار من أسواق الرقّ والفجائع والأعضاء الموسمية وخبايا الهُويات ونثار ما تشتهيه الذئاب والفئران وسرايا الجيوش المبهورة بتعدادها المنهورة صنو أن تميل الأرض ميلان الأشجار أو تنهزم انهزام زجاج هشّ، تحت شموس طال احتضارها.
– XLI –
(كان الوقت يولد
أحيانًا من وردة تذبل
كان الوقت أحيانًا يموت
في ثمرة تسقط
كان الوقت يأتي
مع غيوم عابرة
كان الوقت وقتًا
كما الحجر مكانًا
كما الليل أرقًا
كما الموت موتًا
هرم الوقت طويلًا
بدأ يرمي الهواء
بملابسه البالية
بموتاه المُقبلين
عندها تنشّق الوقت
ملء يديه
كهواء سابق).
– XLII –
(تنظر كما تنام
كأن كل كلمة
ماتت
أو
فُقدت
تحت وسادتك).
– XLIII –
(لم يعُد من ليل هنا أو هناك ذابت الظلمة
في أيدٍ معروقة
باتت الظلمة
تخاف من سواد عينيك
لم يعد من صبح هنا أو هناك
انكسرت الشمس فوق ركامها
لم يعد من وقت هنا أو هناك
غرقت الساعات بتذكارات الموتى)
(لم يعد من مرايا في الأمكنة
غرفت بأسبابها في آبار مظلمة).
(يحتفل الليل بلا معية
بحنجرته
المخضّبة بدماء
مجهولة).
(هاك إعصار الوقت يخترقك
بأمواج النحاس والمعدن والحجارة
والراحلين).