مؤلف هذه الرواية هو خوان كارلوس أونيتي، الكاتب الشهير الذي ينتمي إلى الأوروغواي، ويعدّ وجهاً من الوجوه البارزة في أدب أمريكا اللاتينية خلال القرن الماضي، لما تميز به إنتاجه من ثراء وتنوع، شمل الرواية والقصة و المقالة(1).
ولد أونيتي في الأول من يوليو من سنة 1909 في مونتيفيديو، وقضى الجزء الأكبر من حياته بين هذه المدينة ومدينة بوينوس ايريس. التحق أونيتي بالمدرسة الابتدائية، لكنه سرعان ما ضجر منها وهجرها، ليمارس أثناء فترة مراهقته، مجموعة من الأعمال لضمان عيشه. وفي عام 1975، هاجر إلى إسبانيا، واستقر بمدريد حتى وفاته سنة 1994.
وتعطي الحوارات التي أجريت معه، انطباعا بأن أونيتي إنسان يميل إلى الصّمت والعزلة والانطواء على الذات. يقول عن نفسه: «نعم، أملك الكثير من ذلك. فأنا منعزل وحزين». وإذا كان أونيتي يتمتع اليوم بشهرة كبيرة، تترجمها عملية إعادة نشر أعماله وترجمتها إلى لغات مختلفة، فإن إبداعاته ظلت لفترة من الزمن مغمورة. يؤكد أنطونيو مونييز مولينا هذا الأمر بقوله: «إن الاكتشاف المتأخر لأونيتي، حمل معه مفاجأة مماثلة لتلك التي أحدثتها قصص بورخيس. فسردياته تفتقر جذريا إلى اللون المحلي، كما هو الأمر في سرديات فرانز كافكا، التي تجمعها به قرابة ما»(2).
ويتميز أونيتي داخل السياق الإسبانوـ أمريكي، بانشغاله الكبير بوضعية الإنسان في بعدها الكوني، وكذلك بجمالية أعماله وتقنياتها السّردية. يقول: «إن ما يهمني هو الروح الإنسانية»(3). وبالفعل، فاكتشاف أعماق النفس البشرية كان هو الهاجس الأساسي في كتابات أونيتي. وقد أثار ذلك اهتمام النقاد، فأكدوا على أهميته، وتأثيره الأساسي في الأدب الإسبانوـ أمريكي في القرن الماضي. تقول ماريا ميلان سيلفيرا: «لقد استطاع الأدب الإسبانوـ أمريكي أن يجد منفذا له إلى التيارات الأكثر إبداعا في العالم، بفضل أونيتي أساسا»(4). ويمكن الـتأكيد على أن أونيتي أعطى للسرد الإسبانوـ أمريكي طابعا خاصا ومميزا، من خلال المحتوى الإنساني والوجودي القوي والعميق لأعماله. فالسؤال الوجودي هو سؤال يشغل المركز في فكر وفن أونيني. وإذا كان بعض النقاد قد أشاروا إلى قرابة ما بين «البئر»، الرواية الأولى لأونيتي، التي نشرت سنة 1939، وبين رواية «الغثيان» لسارتر، فإن «وجودية أونيتي ذات طابع شخصي، إنها وجودية لا تخضع لبرنامج، بل تعاني»(5). «لقد كتب أونيتي الغثيان من منظورات متنوعة قبل سارتر؛ وإذا كان سارتر قد حلل القرف، فإن أونيتي عبّر عنه… هو بالنسبة لسارتر موضوع، أمّا بالنسبة لأونيتي فهو التزام. سارتر يفكر فيه، أمّا أونيتي فيكابده، وينقله كعدوى. إنّ سارتر يصفه كأستاذ، أمّا أونيتي فيتعايش معه كضحية»(6). وفي هذا الإطار يقول ماريا بارغاس يوسا عن رواية «البئر»: «إنه كتاب صغير، لكنه في منتهى الحداثة، مرتبط بالمدينة، مرتبط بإشكالية وجودية، لا تظهر دائما في الأدب المكتوب بلغتنا»(7).
إنّ أعمال أونيتي الأدبيّة لتستمدّ أهميتها من كونها اكتشافا عميقا وتعبيرا أصيلا ورمزيا، عن عالم فوضوي ينغمس فيه الإنسان، إنسان المدن، ليس في أمريكا اللاتينية وحدها، بل في العالم كله. من هذا المنظور استطاع أونيتي تجاوز الحدود الجهوية والقارية، ليكتسب بعدا كونيا واضحا. إن إبداعه السردي يتضمن رؤية للعالم موسومة بأسى عميق، العالم فيها كابوس، يجد فيه الأشخاص أنفسهم في ضيق وتيه وجوديين. تتميز فيه العلاقات الإنسانية بانعدام التواصل وغياب أو استحالة الحب، وهو ما يذكي حالة المنفى الداخلي والخواء التام، التي تتصارع فيها شخوص أونيتي.
في عالم أونيتي ليست هناك فرصة للخلاص ولا للأمل. كل شيء ضائع، وكل الأشخاص مطاردون بالفشل. وفي ذلك تكمن خصوصية عالم أونيتي. يقول ماريا فارغاس سيوسا في هذا الصدد: «أعتقد أن أونيتي لم يحظ بالاعتراف والانتشار اللذين يستحقهما، لأن عالمه عالم تشاؤمي، عالم موسوم بنوع ما من السواد، عالم يقتضي من القارئ جهدا فكريا كبيرا، وفي أحيان عديدة يبهرنا بعمقه وبأصالته، يزعجنا ويترك في فمنا مذاقا مرا بيأسه وغياب ما يشجع ويحفز على الحياة كما هي»(8).
في مواجهة عالم متناقض لا يحتمل، يبتكر الإنسان في عالم أونيتي آليات للهروب، كاللجوء إلى الخيال كما هو الأمر في حالة براوسن، بطل «الحياة الوجيزة»، والعودة إلى الماضي للاختباء في الحمق أو الانتحار. «إن المهمة المفضلة عند عدد من شخصيات أونيتي، باستثناء الحب، هي ابتكار أكذوبات والإصغاء إليها، ومنح الذات حياة زائفة»(9).
ويعلن السرد عند أونيتي منذ البداية عن نفسه، بأنه سرد مرتبط بالمدينة. فأونيتي هو «واحد من المؤسسين لرواية المدينة في أمريكا اللاتينية»(10). لهذا يقول ماريو فارغاس سيوسا: «أعتقد أن من بين الأشياء الأولى التي ينبغي قولها عن أونيتي، هو كونه من بين الكتاب الأوائل في أمريكا اللاتينية، وسأقول في اللغة الإسبانية، الذين أدخلوا الحداثة إلى السرد»(11). وبالفعل فالسرد عند أونيتي، يولي أهمية كبيرة لموضوع المدينة، وهو ما يلاحظ في الأسئلة المطروحة المرتبطة بالمدينة، ونموذج الإنسان الذي تنتجه. وبهذا الصدد تؤكد ماريا ميلان سيلفيرا أن أونيتي اختار «في أعماله وصف العالم الفوضوي الذي يعيش فيه إنسان المدينة…»(12). هكذا توجد لدى أونيتي إرادة اكتشاف الواقع الجديد للإنسان في المدن الكبيرة، كإطار مادي للقلق الوجودي للكائن واحتضاره.
يتميز السرد عند أونيتي بخاصية أخرى، وهي خلق جغرافيا متخيلة: سانتا ماريا. إنه من بين النجاحات الرائعة للفن الروائي عنده. إنه فعل يكشف عن إرادة سلك سبيل آخر للاقتراب من الواقع، وهو يشبه في ذلك فولكنر، ويسبق غابرييل غارسيا ماركيز. فقد ظهرت سانتا ماريا لأول مرة في رواية «حياة وجيزة»، التي نشرت سنة 1950. وبعد ذلك، تحولت إلى مسرح رئيسي لمعظم النصوص والروايات المتأخرة لأونيتي، مشكلة بذلك دورة سردية يمكن تسميتها بملحمة سانتا ماريا. هذه الملحمة بدأت مع «حياة وجيزة»، واكتسبت بعد ذلك تماسكا واستقلالا في «مصنع السّفن» 1961، و»خونتا كدافريس» 1964، و»لندع الريح تتكلم» 1979. إن خلق مدينة متخيلة هو بالطبع، من بين الخصائص التي تجعل من «الحياة الوجيزة» عملا من بين الأعمال الكبرى في زمننا، وذلك ما يبرر الأهمية الخاصة التي يوليها أونيتي لهذه الرواية. يقول: «انطلاقا من «الحياة الوجيزة» حصر كل شيء في»سانتا ماريا». إن «الحياة الوجيزة» هي من بين رواياتي الأكثر أهمية. فيها ولدت ملحمة سانتا ماريا»(13). وينبغي أن نتذكر أيضا بأن خلق «سانتا ماريا» اقتضته ضرورة وجودية: «براوسن» في «الحياة الوجيزة» كان عليه الهروب من حالة الفشل والألم التي يعيش فيها، والناجمة عن فقدانه للعمل في وكالة إشهارية، وتفكك حبه لزوجته بعد أن بترت ثديها الأيسر. فخلق «سانتا ماريا»، بتعبير آخر، له دلالة مزدوجة: فرار من عالم معاد ومضطهد، وبحث عن نظام جديد.
ويتميز أونيتي أيضا بتصور خاص للكتابة، فعلاقته بها علاقة عشق، بمعنى أنه كاتب غير منضبط، لا يخضع لنظام، خلافا للعديد من الكتاب. إن فعل الكتابة، بالنسبة إليه، «فعل حب»(14). يقول: «تربطني بالكتابة علاقة عاشق بعشيقته: حين تأتيني الرغبة في الكتابة، أكتب. حينذاك، تعتريني نوبات. وأحيانا تمرّ شهور وشهور دون أن يحصل شيء، لكن حينما تأتي اللحظة غير المنتظرة، أتوتر توترا شديدا، ثم أتملك نفسي، وأكتب»(15). الكتابة هي الكيفية التي يعيش بها الإنسان حيوات مختلفة. «حينما أكون في طور إنجاز عمل ما، حينما أكتب، أكون كما لو كنت أعيش حياة أخرى، وأحيانا أشفق إشفاقا عبثيا على الناس الذين لا يكتبون، لأنهم يعيشون حياة واحدة فقط.»(16).
وقبل أن ننهي هذا التقديم الوجيز عن أونيتي وأعماله، يبدو لنا من الضروري الإشارة إلى مسألة التأثيرات الأدبية التي تلقاها ككاتب، ما دمنا ننطلق من فرضية أن التجربة الإبداعية لكل كاتب هي نتاج لتجارب عديدة متنوعة، وأن لا كاتب يولد من العدم. وفي حالة أونيتي، يمكن القول بأن هناك كتابا أثروا تأثيرا أساسيا في تجربته، هم سلين وبروست وفولكنر. يقول ماريا فارغاس يوسا: «أعتقد أن أول من استوعب هذه التأثيرات ثم أعطاها بصمة خاصة هو أونيتي.»(17).
l البئـــــــــر
بدت الغرفة فجأة، وأنا أتجول فيها منذ لحظات، وكأني أراها لأول مرة. ثمة سريران صغيران، وبضعة كراسي شبه متهالكة، وجرائد قديمة تعود إلى شهور عديدة خلت، اصفر لونها، ويبست من فرط تعرضها للشمس، فعلقت على النافذة لتحل محل الزجاج.
كنت أذرع الغرفة بجذع عار، بعد أن ضجرت من البقاء ملقى على السرير. منذ منتصف النهار، وأنا أنفخ من شدة الحر اللعين، الذي يلتصق بالسقف الآن ودائماً، وينتشر داخل الغرفة، في الظهيرة. كنت أسير ويداي خلف ظهري، وأنا أسمع وقع الشبشب على البلاط، وأتشمّم رائحة إبطي، الواحد تلو الآخر. كنت أحرك الرأس من جهة إلى أخرى، وأنا أجرّ النَّفَس، فأشعر بأن هذا يجعل تكشيرة التقزّز ترتسم على وجهي. وكانت اللحية، التي لم تحلق، تحتك بكتفي.
وأذكر قبل كل شيء، بأنّ هذا قد أوحى لي بأمر بسيط: بذكرى عاهرة كانت قد أرتني كتفها الأيسر، الذي كاد من شدّة الاحمرار يتشقق، وهي تقول: «قل لي بربّك، أليس هؤلاء أبناء عاهرات، حين يأتي منهم عشرون في اليوم الواحد، ولا أحد حلق لحيته التي تظلّ تحتكّ بظهري؟!».
كانت امرأة صغيرة، بأصابع يد طويلة ومستدقة؛ قالت كلّ ذلك من غير سخط، ودون أن ترفع صوتها، وبنفس نبرة الغنج التي تحيّي بها الناس، وهي تفتح الباب. لا أستطيع أن أتذكر وجهها، لا يحضرني أي شيء آخر منها، سوى توهّج الكتف بسبب تلك الذقون، التي كانت الواحدة تلو الأخرى تحتك عليه، وتدعكه هو بالذات دائما، وليس الكتف الأيمن؛ وأذكر الجلدة المحمرّة، واليد ذات الأصابع الطويلة والمستدقة التي تشير بها إليه.
بعد ذلك، بدأت أنظر من خلال النافذة، وأنا شارد الذهن، أسعى إلى تذكر ملامح وجه العاهرة. بدا لي الناس في الساحة أكثر مدعاة للاشمئزاز من أي وقت آخر. كان هناك كالمعتاد دائما، المرأة البدينة التي تغسل ثيابها في صفيحتها الصغيرة، وهي تتذمر من الحياة وصاحب البقالة، بينما الرجل انحنى قليلا، فتدلى على صدره منديل أبيض وأصفر، يكرع مستحلب الشاي. وكان الطفل يحبو، وهو ملطخ اليدين والوجه بالوحل. لم يكن يملك إلا قميصا مطوي الكمين. وردّدت في قراري، وأنا أشاهد مؤخرته: كيف يكون الناس قادرين في الواقع، على الإحساس بالحنان حيال ذلك المخلوق.
تابعت السير بخطى قصيرة، كي يصفق الشبشب مرات عديدة في كل جولة. في تلك اللحظة تذكرت أنني سأقفل سنّ الأربعين، في الغد. لم أستطع قط تخيّل كلّ تلك السنوات الأربعين على هذا النحو، وحيدا وسط القذارة، ومنزويا في غرفة. لكن هذا لم يجعلني أكتئب؛ لم أشعر معه سوى بفضول تجاه الحياة، وبقليل من الإعجاب بقدرتها الدائمة على تحيير عقولنا. فأنا لم أكن أملك حتى السجائر.
أنا لا أملك سجائر، أجل، لا أملك السجائر؛ وكلّ ما أكتبه الآن، هو مذكراتي. ذلك أنّ على الإنسان أن يكتب سيرة حياته، حين يبلغ الأربعين، لاسيما إذا حصلت له أشياء مهمة في الحياة. وعلى فكرة، أنا لا أذكر أين قرأت هذا.
عثرت على قلم ودزينة أوراق تحت سرير لازارو… ومنذ الآن، لن أهتم بالقذارة أبدا، ولا بالحرّ، ولا بساكني الفناء الأشقياء، ولا بأي شيء. من المؤكّد أني لا أتقن الكتابة، لكنّي إنّما أكتب فقط لنفسي.
الآن، صارت الحرارة تحس بدرجة أقل، ومن الممكن أن يكون الليل منعشا. والصعوبة الشديدة تكمن في نقطة البدء. لذلك عزمت على ألا أذكر شيئا عن الطفولة. لقد كنت بليدا حين كنت طفلا: لا أتذكر عن ذاتي إلا بعض السنوات اللاحقة، في زمن الضّيعة أو الجامعة. أستطيع الحديث عن غريغوري، الرّوسي الذي وُجد ميتا في الجدول، وعن ماريا ريتا والصيف في كولونيا. هناك آلاف الأشياء، وأستطيع أن أملأ كتبا.
توقفت عن الكتابة لأشعل النور، وأنعش عيني اللتين تحرقاني. لاشك أن ذلك من أثر الحر. لكني أريد أن أكتب الآن، شيئاً مختلفا، شيئاً يكون أفضل من مجرد سرد ما حصل لي. يحلو لي الآن، أن أكتب قصة روح، الروح وحدها، دون الأحداث التي امتزجت بها، شاءت أم أبت، أو الأحلام. من الكوابيس الأشدّ بعدا ممّا أتذكره، إلى مغامرات الكوخ المبني بالجذوع. حين كنت في الضيعة، كنت في ليال عديدة أحلم بحصان أبيض، يقفز فوق السرير، وأتذكر أنهم كانوا يقولون لي أن الذنب ذنب خوسي بيدرو، لأنه كان يضحكني قبل الخلود إلى النوم، نافخا في المصباح الكهربائي كي يطفئه. والمدهش في الأمر، أني أنزعج حينما ينعتني أحد ما بأنني «حالم». ذلك أمر عبثي. لقد عشت مثل أي إنسان، وأكثر. وإذا كنت اليوم أريد الكلام عن الأحلام، فذلك ليس لأنني لا أملك شيئا آخر أحكي عنه، بل ببساطة لأنني أرغب في هذا. وإذا كنت قد اخترت حلم كوخ الجذوع، فذلك ليس لأنني أملك سببا خاصا. ثمّة مغامرات أخرى أكثر اكتمالا، أكثر أهمية، أفضل تنظيما، لكنني أحتفظ بمغامرة كوخ الجذوع لأنها ستجبرني على كتابة مقدمة، شيء حصل في عالم الأحداث الواقعية منذ أربعين سنة، وربما أيضا لأنني إذا حكيت «حدثا» و «حلما»، بقى الجميع مسرورا…
حدث ذلك في الواحد والثلاثين من دجنبر، حين كنت أقطن في كابورو. لا أدري ما إذا كان عمري خمس أو ست عشرة سنة، لكن ذلك لا يستحق العناء، إذ سيكون من السهل تحديده، إذا فكرت قليلا. أعرف سنّ ماريا، بدون تردد: ثماني عشرة سنة، ثماني عشرة لأنها توفيت بعد شهور، وكانت في نفس السنّ عندما كانت تفتح باب الكوخ ليلا، وتعدو دون ضجيج لترتمي فوق سرير الأوراق.
كانت نهاية السنة، وكان في المنزل ناس كثيرون. أذكر الشمبانيا، وأذكر أيضا أن أبي كان يرتدي بذلة جديدة، وكنت أنا حزينا أو مغتاظا، دون أن أعرف سبب ذلك، كما كان يحدث دائما، عندما تعقد لقاءات ما عندنا، ويكون هناك صخب. نزل الأطفال إلى الحديقة بعد وجبة الغذاء (يسعدني أن أرى أنني كتبت نزلوا، وليس نزلنا). لم تكن لي حينذاك أي صلة بأحد.
كانت ليلة دافئة، غير مقمرة، وكانت السماء حالكة السواد، مليئة بالنجوم. لكن الحرارة لم تكن كحرارة تلك الليلة في هذه الغرفة، بل كانت حرارة تتحرك بين الأشجار وتمر بمحاذاة الواحد، وكأنها نفَس شخص كان يتحدث إليك، أو يوشك على ذلك.
كنت وحيدا، أجلس على أكياس إسمنت متصلب، وبجانبي معول كبير بقبضة ابيضّت بفعل الكلس. كنت أسمع نفير البوقات التي تشترى لأجل هذه المناسبة، ترافقها الشمبانيا لتوديع سنة واستقبال أخرى. كانت الموسيقى تعزف في البيت. وأنا بقيت على هذه الحال لمدة طويلة، دون أن أتحرك، حتى سمعت وقع خطوات، ورأيت الفتاة التي كانت مقبلة عبر الممر الرملي.
قد يبدو الأمر أكذوبة، لكنني أتذكر تماما، بأنني عرفت كل ما سيحدث هذه الليلة، منذ اللحظة التي تعرفت فيها على أنّا ماريا، وطريقتها التي تفصل بها يدها عن بقية جسدها، وانحناءة رأسها. كل شيء عرفته، ماعدا النهاية، رغم أني كنت أتمنّى أن يقع شيء يشبهها.
نهضت، وسرت لألحق بها بخطة مُعدّة، أعرفها على نحو كامل، كما لو تعلق الأمر بشيء حصل لنا من قبل، وكان من المحتم أن يتكرر. تراجعتْ قليلا عندما أمسكت بذراعها، لقد كانت تحس نحوي دائماً بالنفور، أو الخوف.
مرحبا.
مرحبا.
تحدثت لها مازحاً، عن أرسينيو. لقد كانت تزداد في كل مرة برودة. أسرعت الخطى، تبحث عن ممرات بين الأشجار. غيرتُ الخطّة بعد ذلك، وأخذت أثني على أرسينيو، بصوت جاد وودّي. ارتابت للحظة، لا أكثر. بدأت تضحك بعد كل كلمة، ساحبة رأسها إلى الخلف. كانت تنسى أحيانا، فتسير وهي تضرب كتفي لمرتين، أو ثلاث مرات متتالية. لا أدري بماذا كان يفوح العطر، الذي كانت تضعه. قلت لها الكذبة دون أن أنظر إليها، وأنا متيقن من أنها ستصدقها. قلت لها بأنّ أرسينيو موجود ببيت البستاني، في الغرفة المقابلة، يدخن وحيدا بالقرب من النافذة. (لم يكن هناك قط حلم فتى يدخن وحيدا في الليل هكذا، بمحاذاة نافذة وبين أشجار).
قررنا أن نلج من الباب الخلفي، لكي نفاجئه. سارت إلى الأمام منحنية قليلا كي لا ترى، وباحتياط شديد كي لا تحدث ضجيجا، وهي تطأ الأوراق.
استطعت رؤية ذراعيها العاريتين وعنقها. لابد أن هناك هوسا، وقد درس بعناية، هوسا بأعناق الفتيات، الأعناق (الغائرة) بعض الشيء، الطفولية، ذات زغب لا يمكن قط مشطه. لكنني مع ذلك لم أكن أرغب فيها، في ذلك الحين. كنت أشعر تجاهها بالشفقة. وأعطف عليها لشدة غبائها، لكونها صدقت كذبتي، لكونها كانت تتقدم على هذا النحو، مثيرة للسخرية، منحنية، ممسكة بالضحكة التي تملأ فمها بسبب المفاجأة، التي كنا نعتزم القيام بها لأرسينيو.
فتحت الباب بتأن، أدخلت رأسها، و للحظة اكتسى جسدها وحده شيئا من طيبوبة وبراءة حيوان. التفتت لتسألني، ناظرة إلي ، ملت حتى كدت ألمس أذنها:
ألم أقل لك في الجهة الأمامية؟ في الغرفة الأخرى.
أصبحت الآن جادة ومترددة، بيد مستندة إلى إطار الباب، كما لو كانت تجمع قواها لكي تهرب. لو أنها فعلت ذلك، لأحببتها طوال الحياة. لكنها دخلت، كنت أعلم أنها ستدخل، وأعلم كل ما سيحصل من بعد. أغلقت الباب، كان هناك ضوء فانوس يتسلل من النافذة، وينتشل من الظلمة المائدة المربعة ذات الغطاء الأبيض، والبندقية المعلقة على الحائط، وستار القطن الذي يفصل بين الغرف.
لمست يدي ثم تركتها على الفور. سارت على أصابع قدميها حتى بلغت الستار فأزاحته بضربة يد قوية، أعتقد أنها فهمت كل شيء بسرعة وبدون استطالة، بنفس الكيفية التي تصورت بها خطتي. قامت بنصف دورة وركضت يائسة حتى بلغت الباب.
كانت آنا ماريا ضخمة. كانت تبدو طويلة وعريضة حينما تتمدد في الكوخ ويهوي السرير الورقي من فرط ثقلها. في ذلك الزمن كنت أسبح كل صباح في الشاطئ وأكرهه. وكان من سوء حظها، بالإضافة إلى ذلك، أن الضربة التي وجهتها إلي أصابتني في الأنف. أمسكتها من عنقها وأوقعتها أرضا. و بمجرد ما أصبحت فوقها، شرعت في تحريك الساقين، مغطيا إياها بجسدي، حتى لا تستطيع الحركة. وحدهما الصدر والنهدان الكبيران، كانا يتحركان يائسين من فرط الغيظ والعياء. أمسكت بنهديها، كل واحد في يد ، أعصرهما. استطاعت أن تحرر ذراعا و غرست أظافرها في وجهي. بحثت إذاك عن المداعبة الأكثر إذلالا ومقتا. وثبت وظلت هادئة بعد ذلك، أخذت تبكي بجسد منهار. عرفت أنها كانت تبكي دون أن تقوم بحركة. لم تكن لدي قط أي رغبة في اغتصابها، لم تكن لدي أي رغبة تجاهها. نهضت، فتحت الباب وانصرفت إلى الخارج. انتظرتها مستندا إلى الجدار، وكانت الموسيقى تأتي من المنزل، بدأت أصفر مرافقا لها.
خرجت ببطئ، لم تعد تبكي، ورأسها مرفوعة بكيفية لم ألحظها من ذي قبل. سارت بضع خطوات ناظرة إلى الأرض كما لو كانت تبحث عن شيء ما. أقبلت بعد ذلك نحوي حتى كادت تلمسني. كانت تحرك عينيها من الأعلى إلى الأسفل، ممطرة وجهي بنظرات من الجبهة إلى الفم. كنت أنتظر الضربة، الشتيمة، أي شيء آخر وأنا مستند إلى الحائط ويداي مدسوستان في الجيبين. توقفت عن الصفير، لكنني صرت مرافقا للموسيقى بذهني. اقتربت مني أكثر وبصقت على وجهي. نظرت إلي من جديد وانطلقت راكضة. بقيت ساكنا، وبدأ اللعاب يزداد برودة ويجري عبر أنفي ووجنتي، وبعدها تشعب ساقطا على جانبي فمي، سرت حتى البوابة الحديدية، وخرجت إلى الطريق. مشيت ساعات حتى الفجر، حينما بدأت السماء تنجلي أصبح وجهي جافا.
في الواقع لم أر آنا ماريا، إلا بعد مضي ستة شهور. كانت ممددة على ظهرها، وعيناها مغلقتان، ميتة، وضوء يؤرجح خطواتي ويكاد يحرك ظل أنفها. لكنني لم أكن مرغما على أن أنصب لها كمائن رعناء، فهي التي جاءت ليلا، دون أن أناديها، دون أن أعرف من أين خرجت. كان الثلج يسقط في الخارج ، والعاصفة تجري بين الأشجار محدثة صخبا، فتحت باب الكوخ ودخلت راكضة، عارية، تمددت فوق غطاء السرير الورقي المصنوع من الكتان.
لكن هذه المغامرة تستحق على الأقل نفس العناية التي يستحقها ذلك الحدث، حدث نهاية السنة. تملك دوما مقدمة، تكاد لا تكون هي نفسها أبدا. لقد كان ذلك في ألاسكا، بالقرب من غابة الصنوبر، حيث أعمل، أو في كلونديك، في منجم للذهب، أو في سويسرا، على علو آلاف الأمتار، في كوخ من القش حيث اختبأت، حتى أستطيع أن أكمل بسلام مؤلفي الرئيس. (مكان شبيه بالمكان الذي وجد فيه إفان بونين، فقيرا، حينما أبلغوه في نهاية السنة بأنهم منحوه جائزة نوبل). لكن على كل حال كان مكانا يسقط فيه الثلج. وينبغي أن أنبه أيضا إلى أنني لا أدري ما إذا كان الكوخ وكوخ القش مترادفين. لا أملك معجما، بل أكثر من ذلك ليس هناك من أسأله. وبما أنني أريد أن أتجنب أسلوبا فقيرا، فإنني سأستعمل الكلمتين معا بالتناوب.
كنت في تلك الليلة في آلاسكا، وبقيت حتى العاشرة في حانة دوبلي تريبول. لقد قضينا الليلة نلعب الورق وندخن ونشرب. كنا الأربعة كالمعتاد، راين رب العمل، والشريف مالي، وريموند، الروخو، هادئ كالمعتاد، يدخن غليونه الطويل، ضحكنا على خدع مالي. لكننا لم نكن نغضب أبدا، كنا نلعب من أجل النقود، ونبحث فقط عن قضاء ليلة لطيفة مجتمعين. أنهض بانتظام في العاشرة، أدفع حسابي، وأشرع في ارتداء ملابسي، ويكون علي أن ألبس من جديد السترة الجلدية والقبعة والقفازين، وأستعيد المسدس.
آخذ جرعة أخيرة لكي أحتمي من البرد في الخارج، أحيي الجميع وأعود إلى البيت راكبا الزلاجة. يحاولون أحيانا الهجوم علي، أو أكتشف لصوصا في المنشرة. لكن هذا السفر على العموم لا يملك أهمية، حتى أنني أتيت على حذفه، محتفظا بالكاد بلحظة وجيزة، عندما أرفع وجهي نحو السماء، والفم مسدود، والعينان تكادان تكونان مغلقتين، وأنا أفكر في عاصفة ثلجية قد تهب قريبا، وقد تباغتني في الطريق. عشر سنوات في ألاسكا تعطيني الحق في ألا يلتبس الأمر علي. أحث الكلاب وأواصل المسير.
بعد ذلك أكون في الكوخ. أغلق الباب دون إقفاله بالمفتاح طبعا.
أجلس القرفصاء أمام المدفأة لأوقدها. أفعل ذلك بسرعة. ففي مغامرة العشرة آلاف رأس من الماشية، علمني هندي طريقة لإشعال النار بسرعة، حتى في الهواء الطلق. أشاهد حركة النار وأقرب الصدر واليدين والأذنين منها وأمكث ساكنا للحظة، أكاد أكون منوما غير مبصر، بينما النار تتموج أمام عيني، تعلو، تختفي، تعود إلى الارتفاع راقصة، مضيئة وجهي المائل، تشكله بضوئها الأحمر، حتى أنني استطعت الإحساس بشكل وجنتي، والجبهة والأنف بشكل يكاد يكون واضحا، كما لو كنت أنظر إلى نفسي في مرآة، لكن بعمق أكبر. إذاك فتح الباب وانحنت النار كشجيرة، تراجعت خائفة أمام الريح، الذي اندفع داخل الكوخ. دخلت آنا ماريا راكضة، ودون أن ألتفت عرفت بأنها هي وبأنها عارية. وحينما عاد الباب إلى الانغلاق دون (ضجيج)، كانت آنا ماريا على سرير الورق تنتظر.
بهدوء، وبنفس الخطوات الحذرة التي اقتربت بها لأرى طيور الغابة، حينما تستحم في النهر، سرت نحو السرير. من أعلى، ومن دون حركات، وبدون أن أكلمها، رأيت وجنتيها اللتين بدأتا تمتلآن دما، والقطرات الألف التي تتلألأ فوق جسدها، وتتحرك مع لهيب المدفأة، والثديين اللذين يبدوان أنهما يتأرجحان كضوء شمعة يترنح، تهزه خطوات صامتة. وفي تلك اللحظة كان لوجه الفتاة نظرة مفتوحة، صادقة، وكانت تبتسم لي بشفتين تكادان تكونان منفتحتين.
لم نتكلم قط. ببطيء، وبدون أن أتوقف عن النظر إليها، جلست على حافة السرير، وغرست العينين في المثلث الأسود حيث لا زالت العاصفة تلمع. في هذه اللحظة بالضبط بدأت المغامرة، تلك هي مغامرة كوخ الجذوع.
أنظر إلى بطن آنا ماريا، يكاد يكون مستديرا، بدأ القلب يثب مجنونا، وعضضت بقوتي كلها على ماسورة الغليون، لأن الفخذين الكبيرين أخذا يرتجفان بهدوء، يرتعدان كساعدي ماء يجرفهما الريح ثم يفترقان بعد ذلك بهدوء. قد تكون العاصفة السوداء في الخارج في تراجع وهي تدور بين الأشجار اللامعة. أحسست بحرارة المدفأة في الظهر، مثبتا العينين على الخط الملتوي الذي يفصل الفخذين، ويتسع شيئا فشيئا كفتحة باب دفعه الريح في ليلة من ليالي الربيع. أحيانا أبقى ساكنا بدون حركة، أظن أنني أرى الأخدود الصغير للفرج، والابتسامة الذابلة الغامضة، لكن النار المخادعة ترقص وتحرك الظلال. ظلت واضعة يديها خلف رأسها، والوجه وقور، تأرجح فقط ساقيها بكسل.
نزلت لأتناول طعاما، الوجوه المعتادة نفسها، حرارة في الأزقة المكسوة بالأعلام، وقليل من الملح زائد في الطعام. تمكنت من جعل لوغرو يقرضني علبة سجائر، وحسب مذياع المطعم فقد حشدت إيطاليا نصف مليون من الرجال نحو الحدود مع يوغوسلافيا، يبدو أن حربا ستندلع. تذكرت للتو وجود لازارو، وبدا لي من الغريب أنه لم يعد بعد. ربما سجن بسبب العربدة، أو أن آلة في المصنع ذهبت برأسه. و من الممكن أيضا أن يكون في أحد الاجتماعات الشهيرة للخلية. مسكين هذا الرجل. قرأت من جديد ما انتهيت من كتابته، دون أن أعيره اهتماما كبيرا، لأني أخاف من تمزيقه كله. مرت ساعات وأنا أكتب، وكنت مسرورا لأنني لم أتعب ولم أضجر، لا أدري ما إذا كان ذلك جديرا بالاهتمام، ولا يهمني ذلك أيضا.
هنا تنتهي مغامرة كوخ الجذوع. أريد أن أقول أن هذا كل ما في الأمر، ولا شيء أكثر من ذلك. إن ما أشعر به حينما أرى المرأة عارية فوق الفراش الصغير، لا أستطيع قوله، لا أستطيع، لا أعرف الكلمات. إن ما أشعر به هو المغامرة الحقيقية. ومن البلاهة أن أحكي ما يملك القليل من الأهمية. لكن هناك جمال، وأنا متيقن من ذلك، في فتاة تعود بكيفية غير متوقعة، عارية، في ليلة عاصفة، إلى بيت من الجذوع بناه المرء بنفسه في أقاصي العالم.
حكيت المغامرات مرتين، حكيتها لشخصين فقط، وحكيت ذلك ببساطة، بسذاجة، مفعم بالحماسة، كطفل يحكي حلما رائعا. وامتلأت مرارة نتيجة هذين الاعترافين. لا يوجد شخص روحه نقية، شخص نستطيع أن نتعرى أمامه دون خجل. و الآن، وقد أصبح كل شيء هنا مكتوب، مغامرة كوخ الجذوع، فكثير من الناس يستطيعون قراءتها.
تحدثت إلى كورديس أولا، وبعده إلى امرأة في حانة الإنترناسيونال. من الواضح أنني لا أحقد عليهما، وإذا كانت هناك إهانة، فقد كانت ضئيلة، وسرعان ما نسيت، لأنها لم تكن ذات أهمية. ودون أن أنوي ذلك لجأت إلى الصنفين من الناس الذين بمقدورهم أن يفهموا. كان كوورديس شاعرا وكانت المرأة استير عاهرة. ورغم ذلك…
هناك أمران أرغب في تجليتهما للمرة الأخيرة. إنه أمر ضروري لسوء الحظ. أولا، إذا كانت مغامرة كوخ الجذوع جنسية، وربما أكثر من اللازم، فهي مغامرة من بين ألف مغامرة لا أكثر. و لا يوجد ظل للمرأة في المغامرات الأخرى. لا «في عودة نابليون»، ولا في «خليج آراك»، ولا في» أعمال جون مرهوز». أستطيع أن أملأ كتابا بالعناوين. ولا أستطيع القول أنني أفضل إحداهن على الأخريات. تأتي تلك التي تريد، دون عنف، تولد من جديد في كل زيارة. و بعد فحياتي لا تنحصر في ذلك. لا أمضي اليوم متخيلا أشياء. إني أحيا. بالأمس ذاته عدت مع هانكا إلى القاعات الصغيرة لـ»فورتي ماكايي». أتذكر بأنني أحسست بحزن مضحك، بسبب افتقاري لـ»الحس الشعبي». لم يكن بمقدوري التسلي بخرافات الإعلانات. أعرف أن هناك نوع من البهجة، أعرف ذلك فقط. كنا وحيدين، لم يكن هناك جيران حتى نسمعهم، مثلما حصل في تلك الظهيرة الأخرى،حينما سمعنا امرأة تقول:
ـ طيب أنا شقية، لأنه لا يعجبني أن أرى الأخريات خانعات. لا تثني على نفسك، كما لو أن أولئك الذين يملكون أرجلا كبيرة هم الأفضل في لعب كرة القدم. أنا أعلم ما أقوله. أنظر، فالرجل الذي يحب لا يقتل ولو فعلوا به ما فعلوا.
لم نستطع رؤية وجهها. كان الأمر يتعلق بمشكلة بين العاهرات والقوادين، كان عليهم الحسم فيما إذا كان من حق المرأة التي تركت خوان لتذهب مع بيدرو أن تحمل معها الثياب التي أهداها إياها خوان. وما إذا كان بيدرو يستطيع أن يقبلها بهذه الثياب. لقد خلفت لدي المرأة انطباعا مبتذلا عن الذكاء. توجههم مبررات أخلاقية، لكن هؤلاء الناس كانوا يتداولون في مسألة شرف، شرف عشيرة: هل من الرجولة قبول امرأة بثياب اشتراها لها رجل آخر؟ كانا زوجان إثنان، وقد خرج أحدهما مرتين أو ثلاث حتى يستطيع الآخرون النقاش بحرية. بينما كانت كلمات الجيران تدخل عبر ستائر الغرف الخاصة، كان علي مداعبة هانكا، متذكرا ما أفعله حينما تكون لدي الرغبة . لقد حدث الأمر نفسه في هذه الظهيرة. و العبثي ليس أنني أضجر معها، بل إنني فضضت بكارتها منذ ما يقرب من ثلاثين يوما. كل شيء يتعلق بالروح مثل الخطيئة. (تبقى المرأة بالرغم من كل شيء مقفلة إلى الأبد بالنسبة للرجل، إذا لم يتملكها بروح المغتصب).
كان برد كثير يدخل إلى المقصورة المسيجة بقصب متسلق. أتذكر بأن الأصوات التي كانت تصل تجلب معها إحساسا بالوحدة، وبسهول البامبا المقفرة. كان هناك سجق معلق على حائط الآجر المتهالك. كانت قارورة الجعة فارغة، وكانت المائدة والكراسي الحديدية مكسوة بالغبار ومليئة بالبقع. لماذا كنت أمعن النظر في كل ذلك، أنا الذي لا شيء يهمني، لا البؤس ولا الرفاهية ولا جمال الأشياء؟
طبعا، لقد انتهينا بالحديث عن الأدب. قالت هانكا أشياء لها معنى عن الرواية، وكيفية إعطائها بعدا موسيقيا. وعن قوة الواقع التي تمتلكها أفكار الناس الذين يفكرون قليلا، وعلى الخصوص أولئك الذين لا يهذون. يقولون أحيانا «صباح الخير»، ولكن بأي طريقة بالغة الذكاء. وتحدثنا أيضا عن الحياة. تتقاضى هانكا ثلاثمائة «بيسو» في الشهر أو ما يشبه ذلك… أشفق عليها كثيرا. كنت هادئا، وقلت لها بأن لا شيء يهمني البتة، وأنني لا أبالي بكل شيء لامبالاة هادئة. قالت بأن هوكسلي كان دماغا يحيا منفصلا عن الجسد، مثل قلب الديك الذي يعنى به لندبرغ والدكتور أليكس كاريل، وبعد ذلك سألتني:
لماذا لا تقبل بالعودة إلى الحب من جديد؟
من المؤكد أنني لا أريد قبول ذلك، لأنه يبدو لي أنني سأفقد حماستي تجاه الأشياء كلها، بأن الأمل الغامض في الحب يمنحني قليلا من الثقة في الحياة. لم يعد لدي شيء لآخر أنتظره. تبلغ هانكا من العمر عشرين سنة، وفي النهاية انتابتها أزمة حنان، وأجبرتني على قبول كتفها كوسادة. قد نتخيل بأن هذا الكتف يطيق، بالإضافة إلى رأسي، شيئا كيأس لا متناه أو ماذا عساني أن أعرف. وبعد ذلك قلت لها في المنتزه بأن علاقتنا كانت شيئا مبتذلا، ومن الأفضل ألا نلتقي من جديد. فأجابتني بأنني على صواب، وأنني فكرت في الأمر جيدا، وأنها ستبحث عن رجل يكون كحيوان. لم أرد أن أقول لها شيئا، لكن الحقيقة هي أنه لا يوجد إنسان كذلك، سليم كحيوان. هناك فقط رجال و نساء هم حيوانات.
تضجرني هانكا، حينما أفكر في النساء… باستثناء الجسد، الذي لا يمكن أن يجعل المرء إنسانا كاملا، ما هو المشترك بيننا وبين النساء؟ أستطيع فقط أن أكون صديقا ل الكترا. أتذكر دوما ليلة كنت فيها سكرانا، واندفعت أكلمها ناظرا إلى صورة فوتوغرافية. وجهها كالذكاء، مثير للازدراء قليلا، بارد، غامض لكنه متحرر من التعقيدات. تبدو لي أحيانا كائنا مكتملا فترعبني،و أشيائي العاطفية لا تحيىا إلا حينما أكون بجانبها. لقد كان الأمر كله ضبابيا بعض الشيء، شديد الحزن، كما لو كنت مسرورا، محاطا بالرعاية وبشيء من الرغبة في البكاء.
لماذا كنت أتحدث عن الفهم أسطرا من قبل؟ لا تستطيع بهيمة من هذه البهائم القذرة أن تفهم شيئا. إن الأمر يشبه عملا فنيا. لا يمكن فهمه إلا انطلاقا من تصميم. السيئ هو أن الحلم لا يمكنه أن (يتعالى)، لم نبدع بعد شكلا للتعبير عنه. السوريالية بلاغة. يظل أحيانا هو نفسه، في منطقة الحلم من الروح. فماذا الذي يعنيه كون إستير لم تفهم وكون كورديس لم يثق؟
ما حصل لي مع إستير جدير بالأهمية، لأنني حين حدثتها عن الحلم، عن المغامرة (أعتقد أنها هي نفس المغامرة، مغامرة كوخ الجذوع)، كل ما حدث من قبل، حتى علاقتي بها منذ أشهر خلت، صار ملتبسا، ملفوفا بضباب بالغ السمك، مثل ذلك الضباب غير القابل للاختراق الذي يحيط بذكرى الأشياء التي حلم المرء بها.
لا أدري ما إذا كان ذلك قد حصل منذ سنة تقريبا. كان ذلك في الأيام التي انتهت فيها المحاكمة. أعتقد أنهم كانوا على وشك إصدار الحكم. كنت لا أزال أعمل في اليومية، وأذهب في الليالي إلى الإنترناسيونال، في شارع خوان كارلوس كوميز، بالقرب من الميناء. كانت حانة مظلمة، مقرفة، يؤمها بحارة ونساء. نساء من أجل بحارة، نساء بدينات، ذوات جلد بني، سمينات عليهن الجلوس بأفخاذ منفرجة، ويضحكن على الرجال الذين لا يفهمون لغتهن، يهتزن ويد ذات أظافر سوداء مبسوطة على الوشاح ذي الألوان الفاقعة، الذي يحيط بالرقبة، لأن العنق يملكه الأطفال والفتيات.
يضحكن من الرجال الشقر، السكارى دوما، الذين يدندنون بأغنيات غير مفهومة، مصابين بالفواق، ممسكين بأيدي البدينات الوسخات. بمحاذاة الجدار الداخلي تنتشر موائد الأشرار، يقظين ومكتئبين، في الفم عقب السيجارة، معلقين على الليلة وليالي أخرى قديمة، التي تعود أحيانا إلى منشرة الخشب الموحلة، على الدوام تقريبا، حينما يكون الطقس ممطرا والجدران تتجوف وتنغلق كريح قبو.
كانت إستير تساوي إثنين بيسو، واحد لها والآخر للفندق. كنا صديقين. حيتني من مائدتها محركة أصبعين على صدغها. قامت بجولة مداعبة رؤوس السكارى، متبادلة التحية بجدية مع النساء، ثم أتت لتجلس معي. لم أكن قد خرجت برفقتها قط. كانت غبية مثل الأخريات، بخيلة، وضيعة، وربما أقل اتساخا منهن. لكنها كانت تبدو أكثر شبابا، والذراعان غضان بيضاوان بياض الحليب، يمتدان في ضوء المقهى الصغير، سليمان ورشيقان، كما لو أنها حين غاصت في الحياة، رفعت يديها في حركة يائسة تطلب العون، ضاربة بيديها كالغرقى، والذراعان بقيا في الخلف، بعيدان في الزمن، ذراعا فتاة منفصلان عن الجسد العريض المتوتر، الذي لم يكن موجودا من قبل.
ماذا تفعل أيها الأحمق؟
لا شيء، ها نحن نسير، أدفع ثمن شاي ولا شيء آخر.
لم أطلب منك شيئا يا عديم الفائدة.
وجهت إلي ضربة بيدها على حافة الطربوش وهي تضحك، فأمالته نحو القفا. كان الكتفان أكثر امتلاء من الذراعين على نحو رائع، مستديران و بارزان ككتفي ملاكم، لكنهما كانا أبيضين، ناعمين، مليئين بالمسحوق والعطور. نادت على النادل وطلبت منه مشروب الكرز.
في ليلة، كانت أيضا ليلة ممطرة، وكانت الموائد في الداخل مليئة وصامتة وقاتمة، بينما كان فتى يتحرك مثل امرأة ويضحك عازفا فالس على البيانو، رافعا بين حين وآخر نصف لتر، مواصلا عزف الموسيقى بأصبع واحد، وكان يشرب ويضحك و يصرخ:
تشريو
في تلك الليلة قلت لها إنني لن أدفع لها، إنها أكثر جمالا حتى تقوم بذلك، كانت أكثر تميزا عن أولئك النساء كلهن، النساء البدينات.
نساء البحارة، وأنا بفضل الله….
كان صوت الفتى العازف على البيانو، حينما قال «تشريو»، حاملا نصف لتر في الهواء، صوت امرأة أيضا.
ما الذي كانت تفكر فيه؟ من الممكن أنني لم أكن صريحا، وقلت لها ذلك لأنني لم أكن بالفعل كذلك، لكنني قلتها كدعابة. لكن إستير هزت كتفيها وقامت بتكشيرة حزينة، ليست لها أية علاقة بذراعيها، تكشيرة تكشف فجأة، كسر عائلي محفوظ بإصرار، عن قرابتها بالنساء ذوات البشرة السمراء، اللواتي يضحكن متأرجحات على الكراسي. ـ هيا يا بني، إذا ما رأيت وجهي وجه فقمة.
منذ ذلك الحين ارتأيت أن أصطحبها مجانا. لم أتكلم لها قط عن ذلك. لم أطلب منها شيئا. حين تدعوني إلى الخروج أهز رأسي بكيفية تبدو حزينة.
ـ لا، لن أدفع أبدا. عليك أن تفهمي بأن الأمر لن يكون معك على هذا النحو، مستحل.
شتمتني وانصرفت. لم تعد تأتي إلى مائدتي، إلا في بعض الأوقات القليلة. في بعض الليالي ـ غالبا ما تكون معربدة وربما، وفي كل مرة تكون عادية وأكثر تعبا. بينما كانا الذراعان، ولاسيما الكتفان المستديران والمكسوان بالمسحوق، يمران بين الموائد كسيل من الحليب، ينزلقان على ضوء الصالون الخافت ـ لم تحييني حتى. في كل مرة تقل أهمية الأمر بالنسبة لي، وبقيت أذهب بفعل العادة، لأنه لم يكن لدي أصدقاء ولم يكن لدي شيء أصنعه، وفي الثالثة صباحا، حينما أنهي العمل في اليومية، أحس بأنني لا أملك القوة لكي أذهب إلى الغرفة وحيدا.
في ذلك الزمن، لم تكن هناك أحداث تأتي لتزورني في السرير قبل النوم، كانت الصور القليلة التي تأتيني بلهاء. رأيتها من قبل خلال النهار أو قبل ذلك بقليل. كانت تتكرر وجوه أناس لا يهمونني، تشغل أمكنة بدون أسرار. كان الحكم بالطلاق وشيكا، فقد تم الشروع في المحاكمة ولم أحضر إلا مرة واحدة. لم أستطع تحمل ذلك، لم أكن مباليا بنتيجة المحاكمة، عازما على ألا أواصل العيش مع سيسليا. ما الذي يهمني في أن حمارا يعلن أحدا منا مذنبا؟. لم يكن الأمر يتعلق بنا. لقد كنا عجوزين، متعبين، كل يوم تقل معرفتنا بالحياة. كنا خارج المسألة. إنها دوما العادة العبثية، عادة إعطاء أهمية للأشخاص أكثر منه للمشاعر. لا أجد عبارة أخرى، أريد أن أقول إننا نعطي أهمية أكبر للأداة الموسيقية منه للموسيقى.
لقد كان هناك شيء رائع خلقناه. كانت سيسيليا فتاة تملك ثيابا بزهور الربيع وقفازين صغيرين، وكانت تستعمل أوشحة من ثوب شفاف عليه رسوم أطفال طرزت في زواياه. كطفل، انبثق الحب منا، كنا نغذيه، لكنه كان يملك حياته على حدة. كان أفضل منها وأفضل مني بكثير. كيف نريد أن نقارن أنفسنا بذلك الإحساس، بتلك الحالة، التي بعد مضي نصف ساعة على خروجي من البيت، تجبرني على العودة يائسا، لكي أتيقن بأنها لم تمت أثناء غيابي؟ وسيسيليا، التي تستطيع أن تميز بين الأصناف المختلفة من لحم البقر، وتجادل الجزار بجدية حينما يحاول خداعها، هل كان لذلك صلة بما كان يجعلها تسافر كل يوم، على متن القطار واضعة نظارتين غامقتين، زمنا قليلا قبل زواجنا، «لأن لا أحد ينبغي له أن يرى العينين اللتين رأتاني عاريا».
إن الحب رائع وعبثي، وبكيفية غير مفهومة، يزور كل طبقة من طبقات النفوس. لكن الأشخاص العبثيين و الرائعين نادرون، وهم لا يكونون كذلك إلا لزمن وجيز، في بداية الشباب. وبعد ذلك يشرعون في تقبل الأشياء ويفقدون أنفسهم…
لقد قرأت بأن ذكاء النساء يكتمل نموه في السنة العشرين أو الخامسة والعشرين، لا أعرف شيئا عن ذكاء النساء ولا يهمني ذلك أيضا، لكن روح الفتيات تكاد تموت في هذا السن لكنها تموت دائما، وينتهين إلى أن يصبحن كلهن سواسية، بحس عملي مثير للاشمئزاز، بحاجيات مادية، وبرغبة عمياء غامضة في إنجاب ابن. أمعن النظر في هذا الأمر، وستدرك لماذا لا توجد هناك نساء فنانات كبيرات. وإذا تزوج أحد فتاة واستيقظ يوما بجانب امرأة، فمن الممكن أن يفهم، بدون مرارة، روح مغتصبي الفتيات الصغيرات والحنان الأبله للرجال المسنين، الذين ينتظرون في زوايا المدارس الثانوية محملين بالشوكلاطة.
الحب شيء بالغ الروعة، حتى يهتم المرء اهتماما كبيرا بمصير شخصين لم يفعلا شيئا آخر سوى التمسك بالحب، بكيفية غير قابلة للتفسير. لا يهمني ما يمكن أن يكون قد حدث بين السيد إلاديو ليناسيرو والسيدة سيسيليا هويرتا دي لناسيرو. تكفي كتابة الأسماء حتى نشعر بسخافة كل ذلك. يتعلق الأمر بالحب. و ذلك أمر قد انتهى، لم تكن هناك دعوى أولى ولا ثانية، لقد كان حبا قديما ميتا. وما تبقى ليس مجديا. لكن إجمالا، هناك شيء لا أستطيع نسيانه. لا أسعى إلى تبرئة نفسي، يمكن لجرذان المحكمة أن يكتبوا ما يشاءون. الذنب كله كان ذنبي: لا يهمني أن أربح المال ولا أن أملك بيتا مريحا، بمذياع وثلاجة وأواني المائدة ومرحاض نظيف.
يبدو لي العمل غباء مقيتا يصعب الهروب منه. والناس القلة الذين أعرفهم ليسوا أهلا لأن تلفح الشمس وجوههم. أولئك الناس، الناس كلهم، والسيدة سيسيليا هويرتا دي لانسرو. لكن يحكى إجمالا بأنني في ليلة أيقظت سيسيليا، وأجبرتها على ارتداء ثيابها مهددا إياها، وذهبت بها حيث يتقاطع المنتزه مع شارع إدواردو أسيفيدو. هناك «شرعت في القيام بأفعال إنسان غير سوي، مجبرا إياها مرات عديدة على الذهاب والإياب مشيا إلى حيث كنت واقفا، وعلى تكرار عبارات لا معنى لها». يقال أن هناك كيفيات عديدة للكذب، لكن أكثرها إثارة للاشمئزاز، هي أن يقول الإنسان الحقيقة، كل الحقيقة، وهو يخفي روح الوقائع، لأن الوقائع هي دوما فارغة، أوعية تأخذ شكل الإحساس الذي يملؤها.
نمنا تلك الليلة دون أن نتحدث. كنت أقرأ، ولا أعرف ماذا كنت أقرأه، وأحيانا كنت أنظر بطرف العينين إلى سيسيليا وهي نائمة. كان لها تعبير ناعم، ينم عن السكينة، يكاد يكون ابتسامة، تعبيرا عن الماضي، حينما كانت تدعى سيسي، والتي من أجلها بنيت صورة دقيقة لا أستطيع تذكرها. لم أستطع قط النوم قبلها. تركت الكتاب وأخذت أداعبها مداعبة رتيبة تعجل بالنوم. كنت أخاف من النوم قبلها. دون أن أعرف سببا لذلك. رغم عشقي لها، كان النوم قبلها كإدارة الظهر لعدو. لم أكن أستطيع تحمل فكرة النوم وتركها لنفسها في الظلمة، صاحية، حرة حرية مطلقة، حية. انتظرت حتى تنام نوما تاما، وأنا أداعبها دائما، ملاحظا كيف أخذ النوم يتجلى عبر الارتعاش المفاجئ للركبتين، ورائحة نفسها الجديدة والغريبة، التي تكاد تكون آتية من الظلمات. بعد ذلك أطفأت النور واستدرت، مستعدا لتلقي سيل من الصور.
لكن في تلك الليلة، لم تأت أية مغامرة لتعوض لي النهار. تحت جفني كانت تكرر بعناد صورة شديدة البعد. كان على وجه الدقة منتزه في زاوية إدواردو سيفيدو، في ليلة من فصل الصيف، قبل زواجنا. كنت أنتظرها متكئا على الحاجز، منزويا في الظل الذي يفوح بقوة برائحة البحر. كانت تنزل الزقاق المنحدر، بخطوات طويلة وخفيفة، كانت تملكها حينذاك، برداء أبيض وطربوش صغير، ساقط على إحدى الأذنين. كانت الريح تضرب فستانها، مربكة خطواتها، تجعلها تنحني قليلا، كمركب شراعي كان آتيا نحوي منذ الليل. كنت أرى الزقاق من الظل والفتاة سيسي نازلة برداء أبيض.
حينذاك، خطرت لي تلك الفكرة البلهاء كهوس، أيقظتها وقلت لها بأن عليها أن ترتدي لباسا أبيضا وترافقني. كان هناك أمل، إمكانية بسط شباك والإمساك بالماضي، وبسيسي ذاك الزمن. لم أكن أستطيع أن أشرح لها أي شيء. كان من الضروري أن تسير بدون تصميم، ومن دون أن تعلم الغاية من ذلك. ولم أكن أيضا أستطيع إضاعة الوقت. تلك كانت ساعة المعجزة . كان كل ذلك شديد الغرابة. وكان مظهري مظهر أحمق. فزعت ثم انطلقنا. صعدت الزقاق مرات عديدة وأتت نحوي بالفستان الأبيض، الذي يضربه الريح ويجعلها تنحني، لكن هناك في الأعلى، في الممر المكسو بشجر الصنوبر كانت خطواتها مختلفة، متثاقلة وحذرة، والوجه الذي كان يقترب، وهي تعبر المنتزه، تحت الفانوس، كان جادا ومفعما بالمرارة. لم يكن بوسعنا أن نفعل شيئا فعدنا.
لكن ذلك لا صلة له بما يهمني قوله. أعتقد أن سيسليا تزوجت من جديد، ومن الممكن أن تكون سعيدة. كنت أحكي قصة إستير. كانت النهاية أيضا في ليلة ممطرة، وكان الميناء فارغا من المراكب. وكانت الحانة تكاد تكون خالية من الناس. جاءت إلى مائدتي ومكثت زهاء ساعة دون كلام. لم تكن هناك موسيقى، وبعد ذلك ضحكت وقالت لي:
إذا لم تكن تريد الذهاب معي مؤديا، فلن تدفع لي أي شيء. أليس ذلك أفضل؟ أخرجت بيسو واحدا ودفعت ثمن ما شربته. لم أعرها أي اهتمام. وبعد هنيهة قالت:
قل …وإ ذا ارتكبت حماقة؟
طيب، أنت عنيد. وفي العناد لا أحد ينتصر عليك. إذا أردت فلنذهب.
أنا لا أريد مشاكل. هل تريدين الذهاب مجانا.
نعم، لكن لا تعتقد أن الأمر سهل ومسلي. إنها المرة الأخيرة، و معك لن أذهب أبدا ولو دفعت لي.
لم يكن لدي أي اهتمام. لكن لم يكن هناك خيار آخر فخرجنا. كانت تضع المعطف على كتفيها، وتسير منحنية الرأس نحو الأرصفة المتلألئة بالماء. كان الفندق في «ليسترس» قبالة السوق. كانت السماء لا تزال تمطر رذاذا. لم نستقل سيارة، فمشينا في صمت. عندما وصلنا كان رأسها مبللا. نفضت شعرها المسترسل أمام المرآة مبرزة الأسنان، دون أن تحرك الكتفين الكبيرين البيضاويين. كان لقنديل السرير ضوء أزرق. أتذكر أنها كانت ترتعد للحظة إلى جانبي وكان جسدها متجمدا، وجلدها خشن مقشعر.
عندما كانت ترتدي ثيابها قلت لها وأنا في السرير (لم أعرف قط لماذا):
ألم يخطر ببالك قط أن تفكري في أشياء، قبل النوم أو في أي مكان، أشياء نادرة تودين حصولها؟
راودني إحساس، على نحو غامض، بأنني كنت وأنا أقول ذلك، أدفع لها بكيفية ما. لكنني لست متيقنا. تلفظت بشيء سخيف، متثائبة مرة أخرى أمام المرآة. كنت صامتا للحظة ناظرا إلى السقف ومصغيا لصوت المطر في الشرفة. كنت أسمع ضجيج عربات ثقيلة وصياح ديكة. شرعت في الكلام دون أن أتحرك، مستلقيا على ظهري، مغلقا العينين.
منذ هنيهة، فكرت في أن ذلك حصل في هولندا. في الجوار وليس هنا. أقول لها «الأراضي المنخفضة» لشيء وحيد. سأحكي لك عن ذلك فيما بعد. كانت الشرفة تطل على نهر حيث تمر قوارب كالبوارج، محملة بالخشب، وكانت كلها تملك سقفا من ثوب مشمع حيث يسقط المطر. الماء أسود والمراكب تنزل بهدوء، دون أن تحدث ضجيجا، بينما الرجال يدفعون بالعصي نحو رصيف المرفأ. انتظر هنا في الغرفة خبرا أو زيارة، كانت أحيانا زيارة، وقد جئت من هناك لكي أقابل شخصا هذه الليلة، لأننا منذ سنوات عديدة التزمنا بأن نتقابل في الفندق هذا المساء. هناك أشياء أخرى بالإضافة إلى ذلك. كان هناك زورق محمل بالبنادق أريد تهريبها. إذا سار كل شيء على ما يرام سأترك ضوءا أزرقا كما هو الأمر في الشرفات، وأصحاب المركب يمرون تحتها منشدين بالألمانية ما معناه «اليوم يغرق قلبي…». كل شيء على ما يرام، لكنني لست سعيدا. فجأة أدرك أنني أوجد في بلد لا أعرفه، حيث المطر لا يتوقف عن الهطول، ولا أستطيع الحديث مع أحد. قد أموت هنا فجأة في غرفة الفندق…
لكن لماذا لا نموت؟
لقد توقفت عن تسوية تسريحة شعرها وكانت تنظر إلي بغرابة متكئة على المنضدة.
هل من الممكن معرفة ماذا أخذت؟
طيب، لكن قلي لي هل تفكرين على هذا النحو، أي شيء نادر.
لقد فكرت دائما بأنك حالة…ألا تفكر أحيانا بأن يأتي نساء عاريات آه؟ ألا تريد بحق أن تدفع لي؟ هكذا أنت إذن؟ يا لها من حفنة من المثيرين للاشمئزاز؟
خرجت قبلي ولم نعد نتقابل قط. كانت امرأة مسكينة. وكان من الغباء الحديث لها عن ذلك. أحيانا أفكر فيها وتكون هناك مغامرة تأتي فيها استير لزيارتي أو نلتقي صدفة، نتناول شيئا ونتكلم كصديقين حقيقيين. حينذاك تحكي لي ما تحلم به أو تتخيله. وهي دوما أشياء بالغة النقاء، بسيطة كأقصوصة للأطفال.
أنا متعب جدا ومعدتي خاوية. لا أملك فكرة عن الساعة. دخنت كثيرا حتى كرهت التبغ، واضطررت إلى النهوض لكي أخفي العلبة وأنظف الغرفة قليلا. لكنني لا أريد التوقف عن الكتابة دون أن أحكي ما حدث مع كورديس. من الغريب أن لازارو لم يكن قد عاد بعد. يبدو لي في كل لحظة أنني أسمعه يصعد الدرج سكرانا، مستعدا لكي يطالبني بالأربعة عشر بيسو بغيظ أكبر لم يسبق له مثيلا. و من الممكن أن يكون قد وقع سجينا، وفي هذه اللحظة يدفعه بعض الزنوج الأكثر فظاظة منه إلى حافة الجنون بأسئلة وضربات. رجل مسكين، أحتقره من أعماق روحي، قذر وفظ، عديم الخيال. كانت له طريقة كريهة في الاستلقاء على السرير والحديث عن الأربعة عشر بيسو اللعينة، التي كنت أدين له بها، بدون كلل، بصوت رتيب. هذه السين الغليظة، وهذه الراء الصاعدة من الحنجرة، بنبرته المتبجحة لأرستقراطي ذو تجربة كبيرة، بالنسبة إليه كل المشاكل لها حل. أكرهه وأشفق عليه، يكاد يكون عجوزا ويعيش متعبا، لا يأكل كل يوم ولا أحد يستطيع أن يتخيل المقالب التي تخطر له للحصول على الدخان. يستيقظ أحيانا في الفجر، لكي يجلس بجوار الضوء البازغ، ويقرأ بهمس كتب الاقتصاد السياسي.
يشبه القرد شيئا ما. يجلس معقوفا، قبضتا اليدين على الرأس الحليق، مكشرا بوجهه المليء بالتجاعيد والزغب، يقلب العينين بين الحاجبين الخفيفين والجيبين الكبيرين للأذنين. حينما أشعر بالمرارة، مرات نادرة، أتسلى بالحديث إليه، محاولا زعزعة ثقته في الثورة بأدلة ماكرة، وبسوء نية فظة. لكن الشقي يقبلها كأدلة مشروعة. يمنحك الرغبة في الضحك أو البكاء، حسب اللحظة، المجهود الذي ينبغي عليه بذله، لكي تستطيع لغته المتجمدة شيئا فشيئا ترجمة العمل الميئوس منه لدماغه، لكي يدافع عن المذاهب والأشخاص.
أدعه يتحدث، لكي يوقع نفسه في الشرك، وأنا أنظر إليه بابتسامة ساخرة، مثنيا فمه قليلا نحو الجانب الأيمن، يغيظه ذلك ويربكه بسرعة أكبر. بالطبع، لا يدوم ذلك طويلا. إنه يسليني للأسف. يفقد لازارو الصبر، يشتاط غضبا ثم يشرع في السباب.
أنظر.. أنت انتهازي. نعم. أنت أكثر إثارة للاشمئزاز من بورجوازي قذر.
تلك هي اللحظة الملائمة لكي أتحدث له عن البذخ الأسيوي، الذي يعيش فيه المندوبون في الكرملين، وعن الميل الغير أخلاقي للرفيق الأكبر ستالين تجاه الفتيات الطريات. (أملك قصاصة لا أعرف لأي مراسل مقرف لإحدى اليوميات في أمريكا الشمالية، والتي يتكلم فيها عن البذخ الأسيوي، عن الأطفال الذين جلدوا حتى الموت. وعن لا أدري كم سخافة أخرى. من المدهش أن نرى إلى ما يمكن أن تتحول إليه الثورة الروسية في دماغ تاجر أمريكي. يكفي أن نشاهد صور المجلات الأمريكية، لا شيء سوى الصور، لأنني لا أعرف قراءة النصوص، حتى نفهم بأنه ليس هناك شعب أكثر غباء من هذا الشعب على وجه الأرض، لا يمكن أن يوجد لأن القدرة على الغباء أيضا محدودة في الجنس البشري. ويا لها من تعابير عن المسكنة، ويا لها من فظاظة عميقة تظهر في أيادي وفي عيون نساءهم، في كل حثالة هوليود هذه).
أنظر يا عجوز. تثير شفقتي لأنك إنسان ذي نية حسنة. إنهم دوما ملايين البلهاء مثلك هم الذين يذهبون إلى المجزرة. فكر قليلا في كل اليهود الذين يشكلون البيروقراطية الستالينية.
لا يتطلب الأمر أكثر من ذلك. يخترع الرجل المسكين القيامة، يحدثني عن يوم الثورة (لديه عبارة رائعة): «يوم الثورة يقترب شيئا فشيئا…»، ويهددني بشنقي، بأن يضربني بالرصاص من الخلف، بأن يذبحني من الأذن إلى الأذن، ويرميني في النهر. أقول مرة أخرى بأنه يثير شفقتي. لكن الحيوان يعرف أيضا الدفاع عن نفسه. يعرف أن يملأ فمه بعبارة يجعلها ترن كما لو كان يبصق.
فا… شل.
يقولها بنفس النبرة الساخرة التي يشتم بها الأطفال بعضهم البعض في الزقاق. وخلف الكلمة، في الحنجرة التي تردد الصدى، هناك شيء يثير سخطي أكثر من أي شيء قي العالم. هناك نبرة أجنبية ـ تشيكوسلوفاكية، ليتوانية ـ شيء من هذا القبيل، نبرة أجنبية تجعلني أفهم على نحو تام ما تعنيه الكراهية العرقية. لا أدري جيدا ما إذا كان الأمر يتعلق بكراهية عرق بأكمله، أو كراهية أحد ما بكل قوى عرق.
لكن لازارو لا يعرف ما يقوله عندما يصرخ «فاشل». ولا يستطيع أن يشك في ما تحتوي عليه الكلمة بالنسبة لي. يصرخ هذا المسكين بذلك لأنه، ذات مرة في بداية علاقتنا، حدث له أن دعاني إلى اجتماع مع الرفاق. حاول إقناعي مستعملا حججا أعرفها منذ عشرين سنة، ومنذ عشرين سنة سئمتها إلى الأبد. أقسم بأنني ذهبت إشفاقا عليه فقط، ولا شيء آخر غير إشفاق عميق، وخوف من أن ألحق به جرحا، كما لو أن في موقفه ورأسه الكبيرة كرأس قرد، شيء معقد لا يمكن التعبير عنه، جعلني أرافقه إلى الاجتماع الشهير للرفاق.
عرفت أناسا عدة، عمال، عمال في مستودعات التبريد، هدتهم الحياة، يطاردهم الشقاء بشدة، يسمون على بؤس حياتهم لكي يفكروا ويفعلوا في ارتباط بكل فقراء العالم. بعضهم يحركه الطموح، الحقد أو الحسد. لنسلم بأنهم كثر، بأنهم الأغلبية. لكن الشعب، الشعب بكيفية مشروعة، الفقراء، وأبناء الفقراء، يملكون دائما شيئا جوهريا لم تمسسه العدوى، نقي، طفولي، بريء، صلب، وفي، شيء يمكن الاعتماد عليه دوما في ظروف الحياة الحرجة. أكيدا لم أكن أومن بشيء، لكنني كنت سأظل مسرورا بهم، مستفيدا من براءتهم دون أن أدرك ذلك. ومن بعد كان علي أن أتحرك في أوساط أخرى، وأن أعرف أفرادا آخرين، رجالا ونساء، التحقوا للتو بالمجموعات. لقد كان ذلك انهيار ثلجي.
لا أعرف ما إذا كان انقسام المجتمع إلى طبقات دقيقا و يمكن أن يكون نهائيا. لكن في كل المجتمعات يوجد أناس يؤلفون الطبقة، ربما الأكثر عددا. يسمونها «طبقة وسطى»، «البورجوازية الصغيرة». تلتقط كل العيوب التي يمكن أن تتخلص منها الطبقات الأخرى. لا يوجد ما هو أكثر دناءة منها، أكثر انعداما للجدوى. وعندما يضيفون إلى وضعيتهم كبورجوازيين صغار، وضعية «المثقفين»، فإنهم يستحقون الكنس دون حكم مسبق. وكيفما كانت وجهة النظر و الغاية التي نبحث عنها، فالقضاء عليهم سيكون عملا تطهيريا. في أسابيع قليلة تعلمت أن أكرههم، لم يعد أمرهم يهمني الآن، لكنني أحيانا أرى صدفة أسماءهم في الجرائد، في ذيل فقرات طويلة، سخيفة وكاذبة، فتتحرك من جديد الكراهية القديمة وتكبر.
توجد كل الأصناف، البعض تقرب من الحركة لكي تنعكس هبة النضال الثوري، أو كما يريدون تسميته على قصائدهم الرائعة، والبعض الآخر لكي يتسلى بالطالبات اللواتي يعانين بسخاء من حمى مناهضة البورجوازية، حمى المراهقة. وهناك من يملك سيارة بكارد بثماني أسطوانات، و قمصانا بخمسة عشر بيسو، ويتحدث بدون ضمير عن مجتمع المستقبل، عن استغلال الإنسان للإنسان. وينبغي على الأحزاب الثورية أن تؤمن بفعالية هؤلاء وتعمل على توظيفهم. إنها في العمق لعبة أخذ و عطاء. لنأمل، هنا وفي أي جزء من العالم، حينما تصبح الأمور جدية، بأن يكون الانشغال الأول للعمال هو التخلص، وبكيفية نهائية من كل هذه الحثالة.
ابتعدت فورا وصرت وحيدا من جديد. ولذلك ينعتني لازارو بالفاشل. من جهة أولى يمكن أن يكون على صواب، ومن جهة أخرى لا يهمني ذلك. وبعيدا عن هذه المجموعة، والتي لا أهمية لها، ماذا يمكن فعله في هذا البلد؟ لا شيء، لا ينبغي أن نترك الآخرين يخدعوننا. إذا كان المرء بهيمة شقراء فقد يفهم هتلر. الإيمان ممكن في ألمانيا. يوجد هناك ماض عريق ومستقبل كيفما كان. إذا كان المرء صاحب إرادة بليد سينساق بدون جهد نحو الصوفية الجديدة الجرمانية، لكن هنا؟ لا يوجد شيء وراءنا. راع، راعيان، ثلاثة وثلاثون راعيا للبقر.
لكن كل هذا يضجرني، أشعر بالبرد في أصابعي بفعل السير بين الأشباح. أود سرد ذلك الحوار مع كورديس. إنه أيضا مثال للمثقف، وأعترف أنني مازلت أكن له الإعجاب، لديه موهبة، أو بالأحرى غريزة قوية، ترشده وتجعله يختار بين العناصر الشعرية دون تردد، ودون الحاجة إلى تنسيق وتحسين. ومن الغريب أنه تصرف بحماقة تكاد تكون أكبر من حماقة استير.
أتذكر أنني في ذلك الوقت كنت وحيدا ـ وحيد على الرغم مني ـ و بدون آمال. أصبحت الحياة تزداد صعوبة كل يوم بالنسبة لي. لم أحصل بعد على العمل في اليومية، استسلمت، ولم أعد مباليا بما يمكن أن يحصل. لماذا لا تأتي الأحداث إلى من ينتظرها ويدعوها بكل قلبه ومن عمق عزلته؟ حتى التخيلات أثناء الليل كانت مريرة، وتتطور مفتقرة إلى التلقائية، أساعدها وأنكل بها.
التقيت بكوررديس صدفة، وجئنا إلى غرفتي ليلا. كنا قد شربنا بعض الكؤوس. اشترى سجائر، وأنا لحسن الحظ كنت أملك قليلا من الشاي. تحدثنا لساعات، وفي تلك الحالة من السعادة الحماسية، والناعمة مع ذلك، والتي وحدها الصداقة تستطيع أن تمنحها وتجعل شخصين ، بكيفية غير محسوسة، يبتعدان عن الأعشاب السيئة ويغيران سبلا حتى يستطيعا الالتقاء والاحتفال بذلك مبتسمين.
مر زمن دون أن أشعر بالسعادة، بالحرية، أتكلم بحماسة، بصخب، و من دون تردد، متيقن من أنني سأفهم. أستمع أيضا بنفس الحيوية، محاولا الكشف عن أفكار كورديس من الكلمات الأولى لعباراته. كنا نتناول الشاي، كانت الثانية صباحا، وربما أكثر، حينما قرأ لي كورديس بعض أبياته. كانت قصيدة غريبة، نشرت من بعد في مجلة في بوينوس آريس. أملك مقتطفا منها في إحدى الحقائب، لكن البحث عنه الآن لا يستحق العناء. كان عنوانها هو «السمكة الحمراء». أدهشني العنوان وجعلني أبتسم أيضا. لكن ينبغي قراءة القصيدة. يملك كورديس موهبة كبيرة، لا يمكن إنكارها. يبدو لي متقلبا مترددا، وربما أستطيع القول بأنه لم ينته بعد من البحث عن ذاته. لا أعرف ما الذي يصنعه الآن ولا كيف هو، انقطعت عني أخباره ومنذ تلك الليلة لم أعد أراه، رغم أنه يعرف أين يمكنه البحث عني.
في تلك الليلة، تركت الشاي في كأسي يبرد لكي أصغي إليه. كانت قصيدة طويلة، من أربع صفحات كتبت بالآلة. كنت أدخن في صمت، والعينان تنظران إلى الأسفل، دون أن أرى شيئا. تمكنت أبياته من محو البيت والليل وكورديس نفسه. أشياء بدون إسم، أشياء تسير في العالم بحثا عن اسم، تثب بدون كلل من فمه أو تنبثق هكذا، في مكان ما، بعيد وملموس. كان ـ كما فكرت في ذلك من بعد ـ عالما يخرج من العمق الأسود لقبعة رسمية. كل ما يمكن قوله كان فقيرا وبائسا بالمقارنة مع ما قاله تلك الليلة. كل شيء اختفى منذ الأبيات الأولى، وأنا كنت في العالم الكامل، حيث انطلقت السمكة الحمراء في الانحناءات السريعة لماء المستنقع المخضر، تهدهد بنعومة الطحالب وتصير كعضلة عريضة و وردية حينما يضربها شعاع القمر. أحيانا يأتي ريح منعش وخفيف يلمس شعري. حينذاك ترتعد المياه و ترسم السمكة الحمراء أشكالا جنونية، باحثة عن التحرر من طعنة شعاع القمر، الذي يدخل ويخرج من المستنقع، باحثا عن القلب الأخضر للمياه، هدير كورال بعيد ينبثق من الصدفات الفارغة التي تكاد تغرق في رمال القعر.
أمضينا بعد ذلك، وقتا طويلا دون كلام. كنت هادئا، ناظرا إلى الأرضية، عندما كان ظل الصورة الأخيرة يخرج من النافذة. مررت يدي على وجهي وهمست شكرا. كان يتحدث عن شيء آخر، لكن صوته ظل متأثرا بما أتى على قوله، وكان يكفيني الإصغاء إليه حتى أواصل اهتزازي مع قصة السمكة الحمراء. تقتلني فكرة أنه من الضروري أن أقدم إلى كورديس قصيدة. لكن ماذا أمنحه من كل تلك الأوراق التي تملأ حقائبي؟ لم يكن شيء أكثر استبعادا من فكرة أن أظهر لكورديس أنني أنا أيضا أعرف الكتابة. لم يعرف ذلك، ولم يكن ذلك قط يهمني. كل ما كتبته لم يكن سوى كثير من الإخفاقات. تذكرت فجأة المغامرة التي عشتها في خليج آراك. اقتربت من كورديس مبتسما، ووضعت اليدين على الكتفين وحكيت له، مترددا في البداية مثلما يتردد القارب حينما يكون على أهبة الانطلاق، وسكرت على الفور بأحلامي الخاصة.
أشرعة النورس التي ينفخها الريح، الشمس على سلسلة المرساة، الجزمات التي تغطي الركبتين، أقدام البحارة الحافية، الطاقم، قنينات الـ»جن» التي تقرع الكؤوس في المقصورة، الليلة الأولى للعاصفة، الشغب ساعة القيلولة، جسد الإكواتوري الممدد، والذي ندليه في غروب الشمس. المركب بدون اسم، القبطان أولاف، بوصلة الغرق، الوصول تحسسا إلى خليج الرمل الأبيض، الذي لا يظهر في أي خارطة. ومنتصف الليل حينما يجمع القبطان أولاف الطاقم على ظهر المركب، و يطلق إحدى وعشرين طلقة مدفعية ضد القمر، الذي حرمه، قبل عشرين سنة بالتحديد، من لقاء حب بالمرأة المصرية ذات الأزواج الأربعة.
كنت أتكلم بسرعة، راغبا في أن أحكي له كل شيء. أن أنقل إلى كورديس نفس الاهتمام الذي أشعر به. كل شخص يعطي ما لديه. ما هو الشيء الآخر الذي أستطيع منحه إياه؟ كنت أتكلم مفعما بالحبور والحماسة متجولا أحيانا، وجالسا فوق المائدة أحيانا أخرى، محاولا أن أطابق بين إيماءاتي وما كنت أحكيه. واصلت الكلام حتى دفعني حدس غامض إلى تفحص وجه كورديس. كان الأمر كما لو أنني عدوت في الليل وألفيت نفسي أمام جدار هشم أنفي، بقيت مهانا مهدودا. لم يكن عدم الفهم هو ما يبدو على وجهه، بل تعبير عن الشفقة والتحفظ. لا أتذكر أي مزحة جبانة استعملت لأسخر من نفسي وأترك الكلام. قال:
جميل جدا… نعم، لكنني لا أفهم ما إذا كان كل هذا تصميما لحكاية أو شيء كهذا.
كنت أرتجف من الغيظ لأنني اندفعت إلى الكلام، غاضبا من نفسي لأنني أفشيت سري.
لا، ليس هناك أي تصميم. أشعر بالمرارة تجاه كل شيء. هل تفهمني؟ تجاه الناس والحياة والقصائد المزخرفة. انزوي في ركن وأتخيل هذا كله، أشياء كهذه و قذارات في كل الليالي.
لقد مات شيء ما بيننا. أخذت الحقيبة ورافقته….
متعب أنا. أمضيت الليل أكتب، ولا بد أن الوقت متأخر جدا. كورديس، استير، والناس كلهم لا يهمونني. يستطيعون التفكير في ما يرغبون فيه، وفي ما ينبغي أن يحصروا أنفسهم في التفكير فيه. بدأ الجدار المقابل يصير أبيضا، وبعض الضجيج يأتي من بعيد. لازارو لم يعد ومن الممكن ألا أراه حتى الصباح. أحيانا أفكر في أن هذا الكائن الفظ أفضل مني. هو الشاعر وهو الحالم في نهاية المطاف. أنا رجل مسكين، يعود خلال الليالي إلى ظل الجدار، لكي يفكر في أشياء سخيفة وخيالية. لازارو غبي، لكنه يؤمن، يعتقد في شيء ما. لكنه يحب الحياة. وعلى هذا النحو وحده يمكن للإنسان أن يكون شاعرا.
أطفأت النور وبقيت ساكنا للحظة. كان لدي إحساس بأن ضجيج الليل انتهى منذ ساعات عديدة، لدرجة أن الشمس ينبغي أن تكون في الأعلى. يحمل التعب إلي أفكارا بلا أمل. كانت هناك رسالة يبعثها شبابي إلى الحياة، كانت مؤلفة من كلمات تحدي وثقة. سيكون البحر قد ابتلعها كما يبتلع قنينات الغرقى. منذ سنتين اعتقدت أنني صادفت السعادة. اعتقدت أنني بلغت نزعة شكية تكاد تكون مطلقة، وكنت متيقنا من أنه يكفيني أن آكل كل يوم، ولا أسير عاريا، أدخن وأقرأ كتابا من حين لآخر، لكي أكون سعيدا. ذلك ما أستطيع الحلم به مستيقظا، فاتحا العينين على الليل المعتم. بل إنني اندهشت من كوني تأخرت كثيرا حتى أكتشف ذلك. لكنني الآن أشعر بأن حياتي ليست أكثر من عبور لأجزاء من الزمن، الواحد تلو الآخر، كضجيج ساعة، كالماء الذي يجري، كالقطع النقدية التي يعدها الإنسان. كنت ممددا والزمن يمضي. كنت أمام وجه لازارو المشعر، وفي الساحة المبلطة كانت النساء البدينات يغسلن الحوض، والأشرار الذين يدخنون والعقب بين الشفتين. وأنا ممدد والزمن يزحف لا مبال على يميني وعلى يساري.
هذا هو الليل، أولئك الذين لم يحسوا به على هذا النحو لا يعرفونه. كل شيء في الحياة مقرف، ونحن الآن عميان في الليل، يقظين ، دون أن نفهم . في العمق، بعيدا، هناك جماعة من الكلاب، وديك يصيح بين الفينة والأخرى، في الشمال، في الجنوب، في مكان ما مجهول. يتكرر صفير الحراس متعرجا و يموت. في النافذة المقابلة، في الجهة الأخرى من الساحة، شخص ما يشخر ويئن في نومه. كانت السماء شاحبة هادئة، تحرس كتل الظلام في الساحة. صوت وجيز، كطقطقة، جعلني أنظر إلى الأعلى.أنا متيقن من وجود صدع بالضبط حيث غنى السنونو. استنشقت أول نسيم يزف حلول الصباح حتى امتلأت رئتاي. ورطوبة باردة تلمس جبهتي على النافذة. لكن الليل، الذي لا يمكن الإمساك به، المتوتر، يبسط روحه المرهفة والغامضة في خيط الماء الذي يخرج من أنبوب لم يحكم إغلاقه ليسقط في الحوض الإسمنتي. ذاك هو الليل. إنني إنسان وحيد، يدخن في مكان ما من المدينة، يطوقني الليل، يجري كطقس، متدرجا، ولا شيء يجمعني به. تكاد تكون هناك لحظات، تنسجم فيها نبضات الدم في صدغي مع خفقان الليل. دخنت سيجارتي حتى النهاية من دون أن أتحرك.
اعترافات إلاديو ليناسيرو الغريبة. أبتسم، أفتح الفم، أجعل الأسنان تصطك وأعض الليل بنعومة. لا شيء مجد وينبغي عل الأقل للإنسان أن تكون لديه الشجاعة لكي لا يصنع لنفسه ذرائع. يروق لي أن أثبت الليل على ورق، كفراشة ليلية كبيرة. لكن الليل بالأحرى هو الذي رفعني بمياهه كجسد شاحب لميت، والذي يدفعني حتما وسط البرد والزبد، نحو الأسفل.
ذاك هو الليل. سأتمدد على السرير، والجسد بارد، أنهكه التعب، آملا أن أنام قبل أن يأتي الصباح، بدون قوة لانتظار الجسد الرطب للفتاة في كوخ الجذوع القديم.
ـ هوامش:
( 1) من أبرز أعمال (أونيتي):
_ El pozo ( 1939 )
_ Tierra de nadie ( 1943 )
_ La vida breve ( 1950 )
_ Los adioses ( 1954 )
_ Para una tumba sin nombre ( 1959 )
_ La cara de la desgracia ( 1960 )
_ El astillero ( 1961 )
_ Juntacadáveres ( 1964 )
_ La muerte y la niña ( 1973_ Tiempo de abrazar ( 1974 )
_ Dejemos hablar al viento ( 1979 )
_ Cuando entonces ( 1987 )
_ Cuando ya no importe ( 1993 )
Cuentos_ Un sueño realizado ( 1951 )
_ La cara de la desgracia ( 1960 )
_ Jacob y el otro ( 1961 )
_ Tan triste como ella ( 1959 )
_ El infierno tan temido ( 1962 )
_ Los rostros del amor ( 1968 )
_ Tiempo de abrazar ( 1974 )
_ Cuentos secretos ( 1986 )
_ Presencia ( 1986 )
_ Cuentos completos ( Alfaguara , 1998 )
Otros escritos :
_ Réquiem por Faulkner ( 1975 )
_ Confesiones de un lector ( 1995 )
_ Cartas de un joven escritor ( 2009 )
(2) Antonio Muñoz Molina , ‘‘ Sueños realizados : invitación a los relatos de Juan Carlos Onetti ” , ( Introducción a Cuentos completos de Onetti , Madrid , Alfaguara , 1998 , p. 11)
(3) Ramón Chao , Un posible Onetti , Barcelona , Ronsel , 1994 , p. 92 .
(4)María Milán- Silveira , El primer Onetti y sus contextos , Madrid , Pliegos , 1986 , p. 41.
(5) Félix Grande ,‘‘ Onetti ” in Anthropos , núm 2 ( Nueva edición / Extraordinario ) , Barcelona , 1990 , p. 39 .
( 6 ) Paco Tovar , ‘‘ Con Juan Carlos Onetti en su mundo . Nuestro irrecusable derecho de equivocarnos ” in Anthropos , op . cit . , p.40 .
( 7 ) Mario Vargas Llosa , Juan Carlos Onetti según Mario Vargas Llosa , Ciclo de nombres de Latinoamérica , 5 de Mayo de 2015 , Youtube.
8 Mario Vargas Llosa , op . cit . , Youtube .
(9) Antonio Muñoz Molina , op. cit. , p. 23 .
( 10 ) Fernando Curiel , Onetti : calculado infortunio , México , Premiá editora , 198 , p. 99.
( 11 ) Mario Vargas Llosa , op.cit., Youtube .
( 12 ) Ramón Chao , op. cit . , p.25 .
(13 ) Ibid , p. 25 .
( 14 ) Ibid , p. 320 .
( 15 ) Ibid , p.
( 16 ) Mauro Teresita , ‘‘ Conversaciones de Onetti ” in Anthropos , op. cit . p. 19 .
( 17 ) Mario Vargas Llosa , op. cit . , youtube .
تقديم وترجمة: أحمد آيت إحسان * عبد اللطيف جامل