«الباب مفتوح على آخره لكن البيت لم يعد هناك.»«الباب مفتوح على آخره لكن البيت لم يعد هناك.» الشاعر أكرم القطريبالفصل الأول:هوامشواحد وعشرون عاما.سن الرشد في جزء من العالم.أحيانا, ثمانية عشر كافية جدا.واحد وعشرون عاما قضيتها في القاهرة,وثمانية عشر عاما في جامعة الدول العربية.سن الرشد إذن المقبول في كل العالم.كل تلك الأعوام تعيدني مرة أخرى إلى لندن.لندن التي قد عشتها.تلك التي غادرتها إلى القاهرة مودعة إياها في عام 1989.لم أزرها سوى مرة واحدة بعد ذلك.ثم ألقيت بها في زاوية من زوايا الذاكرة.لم تكن الحياة سهلة آنذلك وليست كذلك اليوم.لكننا وفيما نكبر نتقبل من ذواتنا أمورا شتى. نتعرف عليها فلا تعود تفاجئنا وإن كانت لا تزال تفاجئ الآخرين, تربكهم وتثير ردود فعل عنيفة أحيانا.الكتابة أضحت مضنية.كانت أكثر سهولة رغم الألم.الكتابة تفتح باب التذكر والإلتفات إلى الخلف.تشعر وقتها بالحمل الثقيل فوق ظهرك وتود التخفف.غالبا بالنسيان.الكتابة تحررك من ذلك,أيضا.التذكر والنسيان دواءان في صيدلية الحياة والألم. هذه المرة سأسرد دون قناع.لن تكون هناك «مهرة», وربما قد تفاجئنى بحضورها دون سابق ترصد.مهرة التي كتبتها في الحياة كما هي في عام 2003. المخطوطة التي مكثت على محفظة الكومبيوتر والتي نشرتها الآداب فيما بعد في عام 2011.تنقلت الحياة كما هي عبر الأعوام من ناشر إلى ناشر.تذهب وأستعيدها مترددة في نشرها.ذهبت إلى دار الريس وقلم ودار ميريت ثم إنها استقرت بعد أعوام في الآداب لتولد كسيرة روائية.حال الكتابة الأدبية مضطرب في العالم العربي.لا أعلم.لا يهم منذ متى تكتب أو كيف تم تصنيفك أدبيا.المؤكد أنه لا ضمان لحال النشر,تماما كما لا ضمان لأن تكون الكتابة مورد رزق للكاتب.بل أنك تكون سعيدا جدا إذا لم تضطر للصرف عليها وتحمل تكاليف النشر فيما الناشر يجنى الأرباح أو ربما يكتفي بوضع الكتاب في المخزن بعد أن يقبض من المؤلف تكلفة الكتاب وأرباحه مسبقا.(هامش:ذهبت مخطوطة باب البيت بخط اليد إلى ناشرة إماراتية تروج لدار نشرها الجديدة بعد عدة إتصالات منها وطلبات لإعادة نشر كتب سابقة واستقبلتنى بترحاب مخيف ثم بعد أسابيع أعادت المخطوطة ولم تنه قراءتها ولم تعتذر وأظنها جازفت برغبة النشر لظبية خميس في الفترة الحالية في الإمارات ثم خافت لسبب أو آخر وهي تبنى جسورها مع الشخصيات الرسمية والمؤسسات ليمولوا ويدعموا دارها وللحق كانت قهوتها طيبة رغم كل شىء.)حياتي غريبة هذه الفترةبلا عمل. لم أعش بدون عمل منذ زمن طويل.لا مورد رزق بعد ولا روتين يومي يقتضي الاستيقاظ والهرولة نحو مكتب ما ولا حلم بإجازة قصيرة.أنا في إجازة مفتوحة.أستطيع أن أصرف أيام الاسبوع كما أشاء.منذ 20 يونيو 2010 بدأت إجازتى المفتوحة لأحيا الحياة.الحياة كما يمكننى فقط وربما كما أريد.خططت للعودة إلى لندن والدراسة من جديد.فكرت في الكتابة حول عولمة الحياة في الإمارات ورصد الأدب لذلك.وجدت القبول الأكاديمي بالفعل في جامعتي القديمة,جامعة لندن وكلية العلوم الشرقية والإفريقية لهذا العام.كان يتوجب على أن أسجل وأكون فيها اليوم.بلوغ سن الرشد في الجامعة العربية والقاهرة كانا إشارة لتغيير بوصلة المكان والزمان.وفكرت في العودة إلى الخلف.واحد وعشرون عاما إلى الخلف.لندن.لا أعرف لماذا بالتحديد,أو لو كان ذلك مجديا الآن.ولكن لندن شكلت لى نقطة أمان وربما حنين لمن قد كنت.ربما ملل من واقع لم أستطع تغييره.أمان.نعم أمان أكثر من موطني العربي. إلى لندن عدت حين خرجت من اعتقالي في الإمارات في عام 1987. عدت إلى حضارة وثقافة أطمئن إليها حين عجزت عن جعل واقعي في بلدي يتقبل فكرتي عن الحرية وحريتي في التعبير. ولهذا السبب أيضا ربما فكرت في العودة إلى لندن هذه المرة حين عجزت عن جعل مؤسسة بحجم جامعة الدول العربية تتقبل حريتي في التعبير أيضا.بعد عام من المساءلات والضغوط والتحقيقات والتهديدات والاعتداءات انتهاء بالفصل التعسفي لمجرد فعل الكتابة المجرمة. وأي كتابة! مقال يراجع كتابا على الإنترنت. مقال نشرته في مدونتي أسقط أقنعة كثيرة عن وجه من ادعى الإيمان بحقوق الإنسان والليبرالية والديمقراطية فإذا به يتحول إلى وحش كاسر لم يحتمل مجرد كلمات,مقال صغير, انتقاد ضمن سيل من الانتقادات التي لم يرد عليها أبدا. قلت أنوي الرحيل إلى لندن إذن. لندن التي رفضتها منذ بداية التسعينات وحروب الخليج واحتلال العراق والتي استعادت ذاكرة إمبراطورية بفجاجة أمريكية خلال تلك الأعوام.ماريو فارغاس يوسا يفوز بجائزة نوبل للآداب اليوم فمتى أفوز أنا بها؟أظنني أستحقها لمجرد الصمود في فعل الكتابة في مكان لا يحترم الكتابة ولا الكاتبة إلى هذا الحد!ثلاثون عاما من الكتابة والنشر في عالمنا العربي,حيث يتساقط الناس والمبدعون فيه كل يوم ولا يجدون رزقهم بل تأخذهم الكتابة إلى الفاقة, ربما ذلك سبب كاف جدا لجائزة نوبل كي تأتيني. كيف تستقيم الحياة والكتابة والنشر في عالمنا العربي.كيف لا نكرر أبو حيان التوحيدي أو جريمة الكتب التي هوت على رأس الجاحظ وقتلته.الكتابة طاردة في عالمنا العربي.تقول لك: هاجر أو تشرد!الكتابة منافقة في عالمنا العربي. تقول لك:هادن وتسلط حتى تتبوأ مركزا ما على رؤوس زملائك. اسحق غيرك كي تصل. هذا ما تقوله الكتابة هاهنا.فيض الحياةللسماء اندفاعاتها…تذهب بنا للبعيد.تفوق مخيلة توقعاتنا عن الخير والشر. وحيث تأخذني السماء, أمضي. أعول على إرادتي التي تتبع إرادتها.لقد ضاقت بنا القاهرة.لم يعد لدينا أماكن للتجمعات واللقاءات العفوية كمبدعين.مضى زمن ريش والأتيليه والجريون والأوديون وزهرة البستان.كثيرون لم يعودوا يجلسون فيهابعضهم انزوى, قلة لا تزال تذهب من وقت إلى آخر,وعدد كبير منا قد مات.مات هكذا.لم يعد موجودا تحت سماء القاهرة. وموت بعضهم كأنه الإشهار الرسمى لنهاية القرن العشرين, وانتهاء مراحل ثقافية وإبداعية واجتماعية تنتمي اليه. أفتقدهم ولا أجد لهم عوضا.من يعوض صداقة الشاعر محمد الحسيني وحنان وإبداع الرسام عدلي رزق الله وحكمة محمد عودة وروعة حسن سليمان الفنية. (بعد ذلك جاء موت كثير وسريع أودى بأهم أحبتي الشاعر أحمد إسماعيل والكاتبة ثريا نافع وأم صفاء التي رعتني عمرا والشاعر أحمد راشد ثاني وغيرهم.)أحيانا ,أعدهم واحدا تلو الآخر وأحيانا يصدمني أن أرقامهم لا تزال في مفكرتي وعلى الموبايل. علاء كريم المخرج السينمائي ابن حي السيدة زينب. أروى صالح صاحبة كتاب المبتسرون التي ألقت بنفسها من أعلى عمارة في المهندسين وأنهت حياتها بنفسها قرفا من الحياة.أحن إلى المفكر البروتاليتاري – الأرستقراطي صاحب جماعة الخبز والحرية والفسائل أنور كامل.أشتاق إلى طفولة وجه الشاعر خالد عبدالمنعم. كل الأماكن في القاهرة تذكرني بوجوه أعزاء مضوا قبل أوانهم بحسب ظني.تركوا أماكنهم فارغة وتركوا لنا غصة افتقادهم الواحد تلو الآخر.الصداقة رائعة تمنحنا معاني كثيرة للحياة ومشاركة اللحظة التي لا تتكرر هي أهمها.بالنسبة إلي الموت يتخذ أشكالابالطبع الموت الجسدي تلك الخاتمة النهائية التي لا بد منها في سيناريو الحياة.فقط عليك أن تتذكر ما قد مضى من لحظات وأعوام وتصلي للأرواح التي مضت وتدعو لها وتطمئن من آن لآخر إن استطعت على أحباب تلك الأرواح.وهناك موت آخر.بارد وقاس.موت الصداقة نفسها, الرفقة.وجوه عرفتها جيدا.عشت لحظاتك وزمنك معها غير أنها خرجت من باب الألفة, من حديقة الصداقة, من طمأنينة النفس.خرجت لسبب أو آخر.وهذا موت تجتهد في نسيان تفاصيله وفي لجم الحنين وفي إشهار «النهاية»لنفسك على الأقل.وما يختل منها لا يعود وإن عاد يكون أكثر اختلالا على الأغلب.منحتني القاهرة حميمية صلات إنسانية حتى لو ماتت,تقطعت أو تلاشت فإنها ربما كانت الأكثر عمقا ودفئا عبر حياتي بأكملها. حين عدت في صيف عام 2010 إلى الإمارات لترميم نفسي قليلا مما قد تعرضت له من سوء اقتحام في حياتي المهنية ونهاية عملي كدبلوماسية في جامعة الدول العربية, عدت إلى أحضان اخوتي. لم أعثر على صداقاتي وإن كان هناك بقايا روائح ذكرى من زمن قديم. كأننا تغيرنا كما قد تغيرت بلادنا.لا بل ليس كأننا.لقد تغيرنا بالفعل والواقع والتاريخ. وجوه ضاعت تفاصيل الدفء في ابتساماتها في زمن الإنشطار وأعوام البعاد.تسطحت العلاقات ودخلت خانة النسيان وتضارب الأوقات والمصالح غالبا.وجوه أعرف بداياتها كما تعرف بداياتى وأعوام عشره شبه نضالية في ذلك المكان من أجل الكلمة والكيان والوطن. وجوه ذهبت بماضيها إلى حاضرها ومستقبلها وأنا أصبحت مجرد ذكرى شاحبة عند البعض وقوية عند بعض آخر وذاكرة تصحبها الرغبة في النسيان والمحو عند آخرين. بين مدن الإمارات أحاول تذكر ملامح الأمكنة والشوارع والبيوت.هناك أيضا ذكريات لأصدقاء ماتوا ولبشر لم أعد أعرف عناوين عقولهم وأرواحهم وبيوتهم.بالذاكرة!وكم هي مخادعة أحيانا.بأي دفء تقبل على لحظات لم يعد يتذكرها سواها, فيما من شارك تلك اللحظة أودع شنطة سامسونايت ما تبقى له من ذاكره.غير أنني أحب.ما زلت قادرة على الحب.عل ذلك يعوض عن ما يتساقط من ثقوب حقيبة الذاكرة القديمة والملونة التي لا زلت أحملها.في الوقت الضائعأن تكتب في العالم العربي كمن يخط بأصابعه في فضاء فارغ.كأنها كلمات فارغة لأرواح فارغة مهما كان المضمون ومهما كان الإجتهاد.الكاتب معلق بأهدابه في هذه الجغرافية.لا شيء يضمن له النشر والعيش والحرية. بسهولة ويسر يمكن اجتثاثك من مكانك كما قد حدث مع المفكر والعالم نصر أبو زيد,أو نحر رقبتك كما حدث مع الروائي العالمي نجيب محفوظ, أو اغتيالك وهدر دمك كما حدث مع فرج فودة,أو اعتقالك في الزنازين لأعوام طويلة كما قد حدث مع الشاعر المغربى عبداللطيف اللعبي والبحريني قاسم حداد, أو تشريدك وربما للأبد كما حدث ويحدث مع عدد كبير من الكتاب الذين غادروا أوطانهم إلى المنافي حتى قبورهم صارت هناك. ومصائر المقيمين معروفة :هادن وإلا!ومصائر بعض ممن خرجوا من قمقم الأمكنة صارت رائعة إبداعيا على الأقل بالنسبة لجبران خليل جبران وأمين معلوف وإدوارد سعيد وأهداف سويف وسركون بولص وإيتيل عدنان وعبدالوهاب المؤدب وحنان الشيخ وهدى بركات مثلا وغيرهم.وهناك استثناءات للنجاح الإبداعي في العالم العربي تتدخل فيه بعض العوامل بالإضافة إلى الموهبة ومصحوبة بما يشبه النضال لتتحقق فشاعر كمحمود درويش وجد قامته على مستوى العالم بالتأكيد لجودة وروعة نصه وإنسانية ما يكتب ولكن ربما أكثر لأنه كان صوت قضية مهمة كالقضية الفلسطينية وهو قد وجد الترحيب أين ما حل في القاهرة وبيروت وباريس ودمشق وتونس والأردن وغيرها ونال الجوائز والأوسمة.الكتابة والغربة ومحافل النضال السياسي كلفته قلبه الذي رغم توقفه لا يزال مقيما في القلوب.وأديبة مثل الجزائرية أحلام مستغانمي حظيت بنجاح غير مسبوق لرواياتها بدءا من ذاكرة الجسد وانتهاء بعابر سرير وما تبعها. تبنتها بيروت وعززتها إعلاميا وأدبيا ونالت الجوائز وحب الجمهور وأنتجت روايتها الأولى مسلسلا دراميا أنتجته أبوظبي بشكل خاص عبر علاقتها المتميزة مع أفراد في العائلة الحاكمة هناك وفتحت لها مجلة زهرة الخليج لتكتب لسنوات طويلة فيها ولا تزال. غير أن أحلام لم تنج من غيرة وحسد المثقفين الذين اتهموها في روايتها الأولى ونسبوها لسعدي يوسف الشاعر العراقي غير أن توالي إصداراتها حجمهم واستمرت تشكل ظاهرة استثنائية في شعبيتها لدى القراء العرب ومعرض الكتب خصوصا في دول الخليج ولبنان. أضف إلى ذلك طبيب الأسنان المصري علاء الأسواني الذي بنجاح روايته عمارة يعقوبيان شكل ظاهرة هو الآخر وتمت ترجمة أعماله ونشرها في الغرب وأنتجت روايته في فيلم سينمائي ضخم عزز من وجوده ومكانته الأدبية غير أنه أيضا ووجه بهجوم ونقد حاد ومحاصرة لمقالاته وكأن نجاحه كان اختلاسا وليس إجتهادا. (وقد تغير وضعه بعد ثورة 25 يناير في مصر وصار ظاهرة إعلامية متكررة على الشاشات والصحف وأصدر المزيد من الكتب وتمت ترجمة أعماله للغات الأجنبية غير أنه لم يجد نفس صدى نجاح روايته الأولى مصريا وعربيا وتحول إلى ناشط سياسي أكثر من كونه أديبا في السنوات اللاحقة.) وظواهر أخرى مؤقتة لنجاحات وشهرة كنجاح السعودية رجاء الصانع وروايتها بنات الرياض أتبعها كتابة عدد من الروايات السعودية بأقلام نسائية وبعضها رجالي تدور في محاور الجنس والتمرد على الكبت الاجتماعي وإن سادت في بعضها أسماء مستعارة وقد عززت دار الساقي في لندن وبيروت مثل هذا النشر الذي يبدو مدعوما ماليا وإعلاميا.وبذلك فتحت رجاء الصانع بابا للتلصص على ما يدور داخل السعودية المغلقة بجدران سميكة يصعب اختراقها بالعين المجردة للقارئ العربي والغربي على السواء. وأغرب أجواء الكتابة ربما تكون في الخليج والإمارات تحديدا.الإمارات صنعت سمعة لحداثتها العمرانية وعولمتها في مجال الأعمال وربما السياحة والمهرجانات والجوائز والمؤسسات.وهي دولة يمثل أهلنا فيها أقلية استثنائية بين الأمم في نسبتهم بين السكان. وتحب الإمارات أن تعلن عن امتلاكها وإنجازها للأكبر والأطول والأضخم والأغلى ومايشبه ذلك من صفات لإنجازاتها. غير أن الكاتب الإماراتي (غلبان) ومسكين بالفعل.كان يعاني من تهميشه من قبل المؤسسات والمجتمع ومن ضياع صوته في ذلك الوضع السوريالي السكاني الذي تتلاشى فيه اللغة العربية. أضف إلى ذلك كل تلك المؤسسات والصحف التي يديرها موظفون عرب يقومون بتقنينه ككاتب في بلده بحسب الرقابة.ثم توالت عليه المهرجانات والملتقيات والمؤسسات والجوائز المعولمة , أيضا. وأغلبها يدار عبر أجانب وغربيين مع بعض الأسماء العربية القادمة من بعض العواصم والمهاجر. وفجأة انتفتح باب النشر أمامه في مشاريع مؤسساتية تطبع ولا توزع!ولكن الأصعب هو علاقة المبدع ونصوصه بالقارىء, فإلى أي جمهور يتوجه المبدع الإماراتي ومن يقرأه بخلاف المحررين الثقافيين العرب في الصحف لكتابة أخبار متوجبة حول إصدارات لصالح مؤسسات ثقافية معينة؟!وأزعم أن الإماراتيين لا يقرأون للكتاب من بلادهم ولا تصل كتب هؤلاء إليهم وإن وصلت فهي تعامل بتهميش في آخر القائمة للراغبين في القراءة والمهتمين بالأدب المترجم أولا ثم الأدب العربي الرائج إعلاميا ثانيا وإن تحصل الوقت فلربما قرأوا على سهوة إبداع الإماراتيين. بل الأغرب أن الكتاب الإماراتيين لا يقرأون لبعضهم البعض إلا فيما ندر وكأن هنالك عقدة دونية لديهم تجاه المنتج الإبداعي الإماراتي. ولا أظن أن هنالك مبدعا إماراتيا واحدا يذهب القراء لمتابعة إصداراته في المكتبات والمؤسسات الثقافية. فإذن إحساس المبدع الإماراتي بالتحقق في بلاده معوق, ودع عنك فكرة تحققه وحضوره في العالم العربي. وهو قد اعتاد على استدعاء نقاد لقراءة أعماله في منتديات وملتقيات تنفض سريعا لتتحول إلى مادة لاجتماع لا أكثر ولا أقل. وهو معتاد ,ايضا, على أن الجوائز والتكريمات ولجان التقييم معظمها من الكتاب العرب والأجانب ولا مكان له فيها إلا فيما ندر. وأحيانا تتبنى المؤسسات أسماء لتكريسها وتقوم بنشر أعمالهم كما حدث في حقبة الثمانينات لروايات وقصص الدبوي القاص محمد المر خلال عمله في صحيفة البيان وكذلك الظبياني مانع العتيبة الذي صدرت دوواينه عبر وزارة البترول حين كان وزيرها.وفي كلتا الظاهرتين تراجعت الإصدارات مع مغادرة كل منهما لمؤسسته.وبقي أن الصحافة الإماراتية هي الرافد الأساسي لحضور الأديب الإماراتي في وطنه على الأقل عبر نشر أخبار عنه وعن إصداراته. وبالـتاكيد في دولة غنية كالإمارات لا يستطيع المبدع أو الكاتب أن يعتاش من مهنة الإبداع فهو مثل غيره في العالم العربي قد يصرف على كتبه أو ينشرها مجانا مع مكافأة زهيدة. ويبقى لاعب الكرة ذو الحظ الأفضل حيث يحق له الحصول على منح تفرغ ومكافآت سخية. ولا يهم منذ متى تكتب ولا ما هي قدراتك ولا تاريخك الأدبي. فالبطالة شائعة بين الأدباء والنماذج كثيرة. وبقى أن من تيسر له نشر أعماله والمشاركة في المحافل الأدبية عليه أن تكون له وشائج مع المؤسسات الرسمية أو أن يكون عضوا في الهيئة الإدارية للجمعيات المعنية. من الضرورى أن يعرف المرا نفسه.صفاته الحقيقية في هذه الحياة. كثير نت تلك الصفات تؤثر على مصائر البشر في مجتمعاتهم وتقاطعاتهم مع الآخرين.وأنا أعرف أنني امرأة حكيمة ومتهورة معا.لا أطيق الكذب والظلم والاستبداد بكافة أشكاله.ومن الصعب أن أهادن,وإن كنت أحسد من يمتلكون تلك الصفة التي تنقذهم من المقاصل والاضطهاد خصوصا في حقول الثقافة والسياسة.العاطفة المتقدة والغضب القابل للإشتعال والسخرية التهكمية يقودون عادة إلى الصدام والمواقف العصيبة.وإلى الحزن والألم والاكتئاب.كما أن تلك المشاعر نفسها تقود أحيانا إلى السعادة والصحة والإحساس بالانتصار حتى لو كان وهميا.وأنا حاولت أن أهادن وفشلت. وحاولت أن أكبح جماح الغضب والتمرد والعصيان وفشلت. حاولت أن لا أحزن فسقطت في قاع ذلك البئر, وحاولت مقاومة الاكتئاب فاضطررت لأن أعيشه لأعوام طالت. غير أن كل تلك المشاعر ربما تكون مفيدة للكتابة وخصوصا الشعر والإبداع. فالانفعال صفة أساسية لا بد أن تكون موجودة لدى المبدع. الانفعال الإيجابي والحميم والحار والحارق أحيانا. أظن أن ذلك يمثل وقودا للكتابة وبدونه ينطفئ الكاتب وربما يقوده ذلك إلى الانسحاب من الكتابة وربما الانتحار.هواجس لا شك أنه سن اليأس ذلك الذي يجعلني أطفو هكذا بلا هدف.ضجري يرافقني. الأيام تتشابه كمسرحية أؤديها كل يوم بنص يتكرر:نفس الجمل, المقاطع, الفواصل, والنقط!تبدو نهاراتي كتلة متشابهة وكذلك ليلِِي. عزلة ووحدة. كثير منها اختياري وبعضها تفرضه الظروف والمدينة التي أحيا فيها, الصلات التي بهتت أو انقطعت أو انتهت بموت أعزاء وأصدقاء لم يعودوا يؤنسوا ساعات الحياة المتبقية.ثم أن التكنولوجيا تزيد من ذلك.انترنت وإيميل وفيس بوك ومدونات وتويتر.موبايل ورسائل ومكالمات.تلفزيون وفضائيات وأخبار وسينما ومجلات وصحف.وكتب.كل ذلك لا يستدعي اللقاء المباشر. يستنزف الطاقة وساعات اليوم ويوهم بتواصل قد حدث بالفعل يغني عن اللقاء والحميمية بين البشر. والحقيقة أنني وفي هذا العمر وبدونما عمل أذهب إليه وفي بيتي أشعر أنني وحيدة للغاية ومعزولة.تلتف الكتابة علي أو أنني من يلتف عليهامحاطة بالكتب, أين ما وليت وجهي. أقصدها وتقصدني.لا أظن أن يوما مر من دون أن أقرأ.كأنما طمأنينتي بين الحروف.أقرأها , ربما أكثر مما أكتبها.وهي طمأنينة تبقى ناقصة.قضيت خمسة أيام بصحبة كاتبات عربيات في الدوحة. اسمه ملتقى الكاتبات العربيات.ثلاثون كاتبة على ما أظن.نمنا في نفس الفندق «شرق», وركبنا نفس الحافلة, وتناولنا الإفطار والغداء والعشاء معا, وتجولنا حيث ما أراد لنا موجهوا الدعوة أن نتجول.ولم تكن الكتابة حاضرة بيننا بذلك الوهج.كان الحديث نادرا حول الكتابة بيننا. ولم نناقش أعمال بعضنا البعض إلا لمما. أطلقت بعضهن أصواتهن بالغناء غير الموفق عبر مايكروفونات الحافلة.وإحداهن تمنت لو كانت هيفاء وهبي بدلا من كونها كاتبة.وأظن أن واحدة أخرى تمنت لو كانت راقصة.لا أملك حتى قائمة بأسمائهن ولا أوراق عمل للقاء.ولم يصل إلى يدي سوى القليل من كتبهن. استمعت إلى قصائد واحدة منهن فقط من اليمن قرأتها على هامش سهرة بعد العشاء وقاطعت قراءتها شاعرة تونسية مغمورة لتدعونا للرقص على البحر بدلا من ذلك.حصارهل لا بد من خروج؟!من ماذا, وكيف؟!بالتنفس, والكلمات ربما.كلما ازداد العمر, اشتدت مغاليق الأبواب.حتى النوافذ يصعب فتحها للإطلالة على الآخرين.كل اقتراب… هو مسافة بعد جديدة.وكل الشوارع والمطارات تؤدي إلى جدران البيت.لا جدوى…بلا جدوى…حتى الكتابة, ربما, أو غالبا, بلا جدوى.النفس فقط, الذي يأخذني إلى نفس آخر وهو يمارس العد التنازلي للحياة.محبطة.. ربمايائسة.. ربما.أهي خبرة الحياة ومرارتها التي تجعل الأيام تصطف في دولاب الزمن؟أهو الإعياء.. التعب.. الجهد الجسماني الذي لا يوازي تعبه ثمرة ما تحصل عليه.أهي البطالة…الجلوس في البيت الذي يصنع من نفسه مهنة!العمل على الأقل وحتى بمكاتبه الخاوية, زحمة المرور, والوجوه المتبلدة فيه يجعلني أرغب في الاستيقاظ مبكرا وغسل أسناني ووجهي وارتداء ملابسي وتسريح شعري.والخروج إلى فيض الحياة!بلا عمل ما هي مهنتا وما أسبابي للخروج في مدينة يصل زحامها وضوضاؤها إلى مسامعي على سرير نومي ليقول لى لا تخرجي الشارع مزدحم بمن فيه!لا مكان لك هنا!أمكثى حيث أنت! أجلس بين أوراقي وسماعة الهاتف وشاشة الكومبيوتر وشاشة التلفزيون.وأتحرك بين غرفة النوم والمرحاض والمكتبة والصالون والمطبخ.ويبدأ اليوم وينقضي ليتلوه يوم آخر.أكسر ذلك بالسفر أحيانا فيباغتني التعب والضجر والحنين إلى حدود البيت.أكسر ذلك برؤية بعض المعارف والأصدقاء فتباغتني رتابة الكلمات ومصائب الآخرين فأعود إلى صحبة نفسي.ماذا نفعل في هذه الحياة؟ما الذي تفعله بنا الحياة؟!- تسردين مللك من هذا العالم.ألا تخجلين!- بل أسرد اضطرابي , أسرد نقص الحياة في الحياة. أسرد حزني, أسرد غضبي, أسرد أوهامي, توقعاتي, وخيباتي.- وأين هي حكمة العمر والتأمل وخلاصة التجربة إذن لديك؟- لا توجد!- بل أجدها وتوا بعد ذلك أفقدها.إنها مثل الهواء لا نقبض عليه تماما.نتنفسه في شهقة ثم نزفره ,للتو.أنت ترين لا يوجد ما يمكن لنا أن نقبض عليه. ألم يقل حكماء بأن الحياة مجرد حلم نظن أننا نحياه!- وماذا ستصنعين بما تبقى من هذا العمر ,إذن؟ – لا أدري.لا أعرف.ربما أكمل ذلك الحلم وكوابيسه.أنا أخطط , أحيانا, لكن ذلك لا ينجح كثيرا. أشعر أن هنالك من يخطط على خططي بحيث أنني أعيش خطة أكثر من خطتي مثل مزحة ثقيلة على القلب,غالبا.أظن أن ضجر الحياة قد خلق الكثير من الأنبياء والرسل والفلاسفة والعلماء والفنانين والحكماء والأدباء.الفرق أن منهم من يغرق العالم برسالته, فيما أنا أبحث عن رسالة الحياة لي.أي عذاب ذلك أن تذهب لتخطب في البشربوصاياك ورؤاك وتحاول إقناعهم أو إجبارهم,تخويفهم أو إغراءهم ليقتنعوا بأن يكونوا أتباعا لرسالتك!ثم بعد ذلك تمضي في غياهب الموت وتتحول رسالتك إلى رسائل أخرى وانشقاقات ليختلط جنون العالم بحكمتك.ثم لا يمس كل ذلك,ويضحى مقدسا,تسال عليه ومن أجله المزيد من الدماء والحيوات وتتحول الأمور إلى المقدس الذي من أجله يفقد الشر حيواتهم!كلا.. أظنني أفضل هذا الضجر الذي يكتب مداده على الأيام بالأزرق بدلا من الدماء القانية عبر التاريخ.مالذي سيمتعني في هذه اللحظة؟التحديق في السماء وخط أزرق صاف يرسم نفسه بين الغيوم.ملاعبة أطفالي في حديقة الأسماك مثلا!كأس نبيذ أحمر وحوار دافئ مع صديق أو صديقة.أو ربما تحضير شنطة السفر بملابس قطنية , خفيفة, والذهاب إلى صيف العالم الدائم في آسيا.تايلاند, على وجه التحديد.أهبط إلى مطار بانكوك وأتنشق رائحة سجائر القرنفل-جرام-في هوائها الحار والكثيف والرطب.وأمشي تحت زخات مطرها الناعم.أتناول طعامها وشوربة التام يام الحارة بفواكه البحر.أتجول في شوارعها وعلى شواطئ بحارها وأدخل إلى معابدها لأضع الزهور وأوقد البخور والشموع لبوذا.أمشي في حدائقها اللازوردية بين أزهار اللوتس والأوركيد والجاردينيا.أنظر إلى وجوه باعة الخضار والفواكه فيها,وأجساد الماشين في شوارعها بلباس موحد ,أحيانا,بحسب الأعياد والمناسبات السياسية فيها من اللون الأصفر إلى الأحمر.أغمس قدميّ في حوض السباحة , فيما المطر ينهمر على رأسي, والنباتات الاستوائية تحيط بي من كل صوب.ألتهم الديوران ذا الرائحة النفاذة على ناصية من نواصي شوارعها. وأقرأ رواية ممتعة على طاولة مقهي أرى منه نبض الحياة فيها.لا أعرف سر تايلاند, لكن أعرف أنها تسعدني!فيها أبتعد عن الحروف العربية والواقع العربي والصحف والإنترنت والخرائب المتلاحقة والكوارث التي تحيط بنا في هذا الشرق الغريب.لا أدعي أن تايلاند بلاد هادئة ومسالمة فأهلها يثورون, أيضا, ويغسلون الشوارع بدمائهم. وهناك الفقر والبؤس والغضب, أيضا.لكن هذه هي حالهم الاستثنائية, فيما في أغلب الوقت هم متحضرون, وهادئون, ويبتسمون ابتسامة بوذا التي تطمئن الغريب فيظن أنه في جنة أرضية من نوع ما.الطعام والناس والأوركيد وعبق البخور هو سر تايلاند.* جزء من نص طويل.
ظبية خميس