هي الأميرة المسماة لدى البرتغاليين Maria Das Neves De Bragança، والمدعوة لدى الإسبانيين: Maria De Las Nieves De Braganza ، والموسومة لدى الفرنسيين باسم:Marie- des-Neiges-de Portugal .
ولدت هذه الأميرة المنذورة إلى اعتلاء عرش (فرنسا ونافار) في الخامس من أغسطس سنة 1852 في بلاينهوباخ بمقاطعة بافاريا الألمانية (ألمانيا الاتحادية اليوم)، ووافتها المنية بفيينا في 14 فبراير 1941 بما كان يدعى آنذاك باسم “ألمانيا الكبرى” (النمسا اليوم).
ولقد كانت ماريا هذه أميرة تنتمي إلى عائلة ملكية تدعى آل براغناس، كما كانت زوجة أحد وارثي عرش إسبانيا وفرنسا ألفونس شارل دو بوربون. شهرت بكونها إحدى أبرز أميرات أوروبا في نهاية القرن التاسع عشر فهي لا تزال تمثل أنموذج النخب الأوروبية في القرن التاسع عشر لمتعددي الثقافة والفن والحنكة السياسية من حيث كتاباتها ووثائقها التي لا تزال تتناول حتى الآن من قبل الباحثين في كشف شخصيتها وإسهاماتها.
لقد كسبت شهرة واسعة بكياستها وثقافتها وحنكتها السياسية، وعلى وجه الخصوص بوقوفها وقفة مشهودة إلى جانب زوجها في معركته لاسترداد العرش فيما دعي باسم “الحرب الكارلسية الثالثة” (1872-1876) والتي كان قد خاضها زوجها باسم الجناح الكارلسي من الأسرة الحاكمة المدافع عن الحزب التقليدي المحافظ الكاثوليكي.
وتعد (ماريا دو لاس نيفيس دو بريغانسيا) البنت البكر للملك فرانسوا الأول الذي حكم البرتغال ما بين الأعوام (1802-1866) ، ولزوجته الأميرة (أديلاييد دو لوفنشتاين فيردايم روزنبرغ) ، والمعروفة اختصارا باسم “أديلاييد صوفيا” (1831-1909). وقد عزل أبوها عن حكم البرتغال، وكان قد تزوج الأميرة أديلاييد عام 1851 ورزقا بسبعة أبناء كانت كبيرتهم هي (ماريا) صاحبة الترجمة هذه. فتلقت الأميرة ماريا تربية رفيعة في الحاشية الملكية ببفاريا، ودرست بثانوية “ساكري كور” بمدينة بونتيفي (فرنسا)، ثم عادت مع أسرتها إلى بافاريا، وترددت على العديد من الصالونات الفكرية والسياسية الأرستقراطية بأوروبا الوسطى، وذلك كله بغاية تهيئة ارتباطها الزواجي المناسب لوضعها الاعتباري ولمرتبتها الاجتماعية. وقد عملت عمتها ماريا تيريزا التي كانت ذات صلة وثيقة ونفوذ بالغ في الأسرة الملكية الإسبانية على ترتيب زواجها من دوق سان جيمس (فرنسا) أخ كارلوس السابع دوق مدريد.
وفي يوم 16 أبريل من عام 1871 تزوجت بجزيرة مالطة من الأمير الفونس شارل دو بوربون (1849-1936)، وهو الابن الثاني لمن له الحق على العرش الإسباني (1822-1887) ولزوجته ماريا بياتريس دو مودين (1824-1906)، ولم يرزقا بأي طفل. فباعتبارها فردا من فرع آل براغانس، ولدت ماريا في المنفى ببفاريا بعد أن حُرم والدها من حقوقه على عرش البرتغال بعد الحرب الأهلية التي واجه فيها قوات ابنة أخيه ماريا الثانية. ولذلك فإن لقب الأميرة المرشحة إلى العرش لم يعترف به إلا أنصار أسرتها.
وبعد أن زفت إلى زوجها بجزيرة مالطة عام 1871 الأمير ألفونس شارل دو بوربون، كما ذكرنا، رافقت زوجها وأقامت معه قرب مدينة بيربينيان الفرنسية، حيث تابعت عن كثب وباهتمام بالغ وحماس قلّ نظيره العمليات العسكرية التي خاضها زوجها دفاعا عن حزب المحافظين التقليديين، مبدية بذلك شجاعة مثالية وتصميما نادرا وعزما مكينا، ولذلك لقبت بلقب “السيدة البيضاء” Dona Blanca . وكانت المعارك تدور رحاها بمنطقة كاتالونيا الإسبانية. وهي الحرب التي دعيت باسم الحرب الكارليسية الثانية (1872-1876). بيد أنها اتهمت هي وزوجها بارتكاب جرائم حرب، بل وحتى جرائم من الحق العام، بما دفع السلطات الإسبانية إلى البحث عنهما والدعوة إلى إلقاء القبض عليهما. وقد كانت نيتها البحث عن اللجوء في قصر للأسرة كانت تقطنه بمدينة فيينا، والالتحاق بالحاشية الصغرى التي كانت قد أقامت بمدينة تريست بإيطاليا.
وقد حاولت إقناع زوجها بحلم بدا لها ، رحلة لاكتشاف الآفاق حول العالم, وهي ظاهرة برزت بين الأوروبيين الأرستقراطيين أو كبار الدولة أو الباحثين على السواء بل حتى المغامرين المغمورين وخاصة مع التوسع الاستعمار الأوروبي حول العالم، كان بجانب ذلك المثقفون والمغامرون والضباط العسكريون نتائج اكتشافاتهم الانثروبولوجية والاركيولوجية حافزا لهذا الاستطلاع. فبدأت السيدة البيضاء الأميرة ماريا من سنة 1894 واستمرت الرحلة حتى بداية الحرب العالمية الأولى، بسبب ميولاتها الأدبية الإنسانية لتكون رحلة تأمل جديدة في طول الكرة الأرضية وعرضها، فقام الزوجان بزيارة استكشاف حول العالم، فزارا معظم مناطق العالم ودراسة غرائبة حيث كانت الأميرة تحقق أمنيتها في دراسة تقاليد وعادات السكان المحليين، خاصة بعض القبائل التي تمّ وصفها في كتب الانثروبولوجيا في بدايات القرن العشرين. وقادتها إلى عُمان بدءا من مدينة مسقط، فعملت من خلال رؤيتها إثباتات عن أسفارها عبر العالم بوضع رسوم لكل ما كانت تعاينه وكانت ترفق هذه الرسوم بنصوص قصيرة كانت تبرز فيها ملامح مهمة للشعوب والمناطق المزارة . ، فعلى سبيل المثال في رسمها لمسقط يظهر في أحد رسومها صورة لقارب وشخص وخليج حيث ميناء المدينة ونشاطها التجاري. كما أنه من المثير للاهتمام تنوع الشخصيات المصورة الذي يظهر في اختلاف الملابس والمظاهر، وهو ما يؤكد التنوع الثقافي والديني في المدينة في ذلك الزمن.
فكانت زيارة الأميرة لعُمان في عهد السلطان فيصل بن تركي (1888- 1913م), فأصبحت واجهة سياحية وقبلتها في شبه الجزيرة كما ساعدها امتداد الطريق البحري بين العراق نحو الهند بعد الاحتلال البريطاني وازدادت تلك مع بدء انهيار الدولة العثمانية والتي كانت بريطانيا تحضر له وتمّ بالفعل مع اتفاق سايكس بيكو، مما زاد الرابط البحري في الخليج، و لعلهم التقوا بالسلطان فيصل في تلك الزيارة إلا أنها لم تذكر ذلك, بيد أن مذكرات الأوروبيين الآخرين يشيرون إلى ذلك حيث عادة ما يتم ترتيبه عن طريق القنصل البريطاني. فرحلتها إلى عُمان تتقارب مع زيارة كثير من الرحالة الأوروبيين الذين دونوا ووثقوا عن مسقط وعُمان ولا يزال الميناء الحالم يمثل مخيلة لكل زائر، فالرحالة والأكاديمي الألماني ماكس أوبنهايم عندما زار مسقط (1894) يصفه بقوله: الميناء الآمن الوحيد على كامل الساحل العربي وفي الخليج بصفة عامة…. يطلق الإنجليز ببساطة اسم الخليج حينها على مسقط إلا إذا ما تم تحديد الموقع, حتى نهاية القرن 19, وهذا ما تعكسه الرسومات من خلال سفرها إلى مسقط من حيث الملبس الذي يوضح أن الميناء يعج بالمسافرين وهذا ما أثبته لوريمر في دليل الخليج في ميناء مسقط, كما يمكن سماع 14 لغة في آن واحد.
لم تكن السيدة البيضاء تعنى بالتصوير الاحترافي أكثر منه التصوير التوثيقي, لكن بقيت تلك التوثيقات مهمة وهذا الألبوم الضخم محفوظ بدار الوثائق الوطنية الأسبانية بمدريد ويعد من أهم مقتنيات الدار، فهي ترمز بالحرف (ب) إلى زوجها فهي تحكي بالصور عنه، ورسمت هذه الصور وكتبت هذه التعليقات عليها باللغة الايطالية، ولذا فهي تمثل مرحلة مهمة حيث بدأ حينها تطلع النخب الأوروبية كأزواج إلى السفر والسياحة واكتشاف العالم, وحقبة تاريخية ساد فيها التعايش بين مختلف الثقافات ومظاهر الحياة الإنسانية في الفترة التي عاشتها الأميرة الرحّالة.
فبحسب الرسوم فانها وصلت السلطنة من أفريقيا عبر مقديشو ثم أثيوبيا، ومن ثم إلى مسقط وزارت داخلية عُمان إلى الرستاق ومنها انطلقت إلى الصحاري ثم أكملت الرحلة نحو شمال عمان إلى فارس. مثل هذه الأعمال تعبر عن مدى أهمية صورة عُمان خلال القرن التاسع عشر وتفاعل الرؤى الغربية الفنية في عكس انطباعاتها سواء بالتصوير أو الرسم أو السكيتش، وهذه الانطباعات وثّقت تلك المرحلة, ففي هذه اللوحات تشير إلى الآتي:
1. بعد رحلة طويلة يصل “ب” إلى مقديشو
2. اشترى “ب” قرديْن جميلين لبيعهما لاحقا في أوروبا
3. “ب” يجتاز الصحراء
4. هاجم أسدٌ ولبؤةٌ “ب” غير أنه استطاع الفرار إلى مدينة هرار (أثيوبيا)
5. وصل “ب” إلى هرار حيث أكل وباع الجمل
6. سار “ب” نحو بادسكاراه على القدمين (أثيوبيا)
7. وصل “ب” إلى بادسكاراه
8. يركب السفينة للذهاب إلى مسقط
9. ها هو في عرض البحر
10. يحلّ بمسقط
11. يصل “ب” إلى الرستاق
12. يذهب إلى خورفكان
13. يبحر إلى فارس
14. ها هو مبحر نحو فارس
لكن، في النهاية، استقرت الأسرة بفيينا، حيث فاجأت الحرب العالمية الأولى “السيدة البيضاء”. لكنها كطائر الفينيق سرعان ما استعادت الأميرة ماريا عنفوان شبابها وحيويتها المذهلة بحيث أفادت هي من حربها الكارلسية، فكان أن عمدت إلى إدارة إعانات الدم بمشفى في مدينة فيينا لخدمة جرحى الحرب ، ثم سرعان ما عادت، بعد ذلك، إلى الاستقرار بمدينة مدريد، وأقامت في النهاية بالعاصمة الاسبانية، حيث فوجئت هي وزوجها بإعلان الجمهورية الثانية (1931)، فما كان منهما إلا أن أجبرا ثانية على الفرار واللجوء إلى قصر كانت تملكه الإمبراطورية البرتغالية القديمة بفيينا. وفي العام نفسه أي عام 1931 أمسى الأمير الفونس شارل مرشحا كارليستيا لعرش إسبانيا (كما هو حال ألفونس شارل الأول)، ومرشحا “شرعيا” من دعاة الشرعية لعرش فرنسا ونافار (كما لويس الثاني عشر)، وفي الوقت نفسه أضحت الأميرة ماريا، في اعتبار أنصار زوجها، “ملكة فرنسا ونافار”، و”ملكة الإسبانيتين”.
وكان أن حدثت وفاة زوجها عام 1936، وقد كانت مناسبة أخرى أظهرت فيها الأميرة ماريا رباطة جأش، وواصلت الدفاع عن دعوى سياسية محافظة لم يزدها مر السنين إلا رسوخا تسمى الدعوة الكارلستية.
وقد كانت الأميرة ماريا قد دونت يومياتها عن مغامرتها الحربية في إسبانيا، ثم نشرت تحت عنوان: “مذكراتي حول حملتنا بكالتالونيا عام 1872 وعام 1873 وفي منتصف عام 1874 وخلال منتصف الثلاثينات” بمدينة مدريد لدى منشورات إيسبازا كالبي عام 1934، وهي المذكرات التي أبدت فيها إلى جانب التزامها وانخراطها الذي لم يفت من عضده شيء في تيار النزعة الملكية إيمانها الراسخ بضرورة الحفاظ على القيم التقليدية (الوفاء للزوج، القيام بأشغال البيت في أوقات الشدة والالتزام الشديد بتعاليم الكاثوليكية). هذا ما أثار الجدل حولها في أعمالها على الرغم من كارزماتيتها وشهرتها وتميزها، فأوربا كانت حينها تتحول نحو الحداثة بصورة مريعة وحروب طاحنة بنشوء الدول القومية والإيديولوجيات المتصارعة والدعوات المثيرة لقضايا النسوية وحقوق العمال والطبقية وقضايا رأس المال والاشتراكية وغيرها من القضايا بينما كانت هي تتمسك بالاتجاه المحافظ حيث لم تستطع التأقلم مع المتغيرات و المتناقضات في آن واحد، لكنها بقيت وفية لقيمها التي تؤمن بها وظلت روحها رمزاَ مهماً وحركة مستمرة لمنافسيها وشعلة لمحبيها وكارهيها حيث لم يخفت صداها حتى الآن .
عبدالرحمن السالمي