هل على المجلات/ المشاريع الثقافية أن تشتغل على بناء هوية وطنية أو قُطرية في مسيرتها التي تتوسل التنوير وبناء وعي عربي جمعي وحقيقي يحاول ردم حالة التشظي التي بقي العالم العربي يتخبط فيها ولا يزال؟ أم أن عليها أن تتجاوز في مسيرتها كل التصنيفات الضيقة وتنطلق إلى عالم أكثر رحابة وأكثر توقا نحو تركيب صورة متسعة للمشهد؟
لا تبدو الإجابة على هذا السؤال صعبة ولكنها ليست سهلة على أية حال؟ فالانشغال بالثقافات الوطنية أخذ حيزا أكبر بين ما يمكن أن نسميه مشاريع ثقافية في العالم العربي، فيما بقيت المشاريع التي تشتغل على فكرة أن الثقافة العربية الأشمل محدودة ونادرة في الغالب.
والناظر إلى المجلات العربية سواء تلك التي باتت تشكل أيقونات بارزة وعلامات مضيئة أو تلك التي تظهر بين فينة وأخرى ثم يكون قدرها أن تختفي بعيدا عن أي ضجيج إن التأثير والفعل الثقافي الحقيقي يأتي من المجلات التي يكون مشروعها أشمل وأوسع من حدودها الجغرافية الافتراضية حتى وإن حاولت أن تحصر نفسها في حدود تيار أيديولوجي بعينه، رغم أن هذا يحد من قوة تأثيرها بالضرورة. ويمكن في هذا السياق أن نتذكر مجلات عظيمة في المسيرة العربية أمثال مجلة الهلال ومجلة العربي ومجلة فصول ومجلة شعر ومجلة الآداب ومجلة الكرمل التي تشكل جميعها اليوم تراثا عربيا عظيما لا يمكن تجاوزه.
وفي هذا السياق سارت مجلة نزوى التي نستحضرها اليوم في مناسبة مرور عقدين كاملين على صدور عددها الأول الذي صدر في نوفمبر من عام 1994.
ومنذ العدد الأول كان واضحا أن مجلة نزوى لا تبحث عن تبني مشروع ثقافي ضيق لا يخرج خارج الحدود الجغرافية القريبة بل كانت تنشد أن تكون مشروعا ثقافيا وفكريا عربيا أوسع من أن يكون ضيقا على حدود جغرافية. ولذلك كان من السهل أن يخرج المنتج الإبداعي والفكري العماني إلى خارج الحدود ووراء البحار والصحاري ويستقر في سياقه العربي والإنساني جنبا إلى جنب مع ما تقدمه الثقافة العربية من إنتاج إضافة إلى ما يترجم من ثقافات أخرى. هذا التوازي الذي ظل يحكمه التقييم الفني والمهني وليس الجغرافي والقُطري أعطى مجلة نزوى مكانتها بين المجلات العربية وباتت فكرة النشر فيها أمرا يلح عليه الكتَّاب العرب نظرا لما تتمتع به من رصانة ومهنية.. والاصرار على أن المجلة عربية في المقام الأول خدم الإبداعي العماني كثيرا فلم ينظر إلى ما تنشره المجلة باعتباره نشرا لأولويته المحلية وإنما نشر لقيمته الفنية والإبداعية.
ورغم الظروف التي مرت بها المجلة، والتي يعرفها حتما القائمون عليها أكثر من كاتب هذه السطور، إلا أنها بقيت منارة ثقافية وبقي نهجها ثابتا بعيدا عن المعارك الأدبية التي لا تثري المشهد الثقافي ولا تضيف له وتنطلق من منطلقات شخصية ضيقة. والحق أن رئيس تحريرها (طوال تاريخ المجلة لم يزد عدد طاقمها التحريري بما فيهم رئيس التحرير ومدير التحرير والمخرج والمنفذ عن أربعة أشخاص فقط) لم يتخذها منبرا يطعن به الآخرون، والمتتبع لافتتاحيات رئيس تحريرها طوال عقدين من الزمن لا يجدها تخرج عن النصوص الإبداعية التي تتراوح بين الشعر والنثر والنص المفتوح على مختلف الاحتمالات والقراءات التأملية. ولا يمكن رصد أي افتتاحية في المجلة تطعن بالتلميح أو التصريح في شخص أو مؤسسة أو تيار فكري أو ثقافي إلا ما كان منها في سياق الحوار الثقافي المتزن والحيادي.
وفي هذا السياق لا بد أن نقول أن نتاج العمانيين الإبداعي والفكري والنقدي استطاع أن يجد لنفسه مساحة يستحقها في المجلة ليس لأن المجلة تصدر في عمان وهو أولى بالنشر فيها ولكن من حيث انه استطاع أن ينافس النتاج المقدم للنشر في المجلة ويحجز لنفسه المساحة وسط النتاج العربي الكبير.
ومنذ العدد الأول كتب رئيس تحرير «نزوى» افتاحية حاول أن يوضح فيها توجه المجلة ومسارها المستقبلي فنقرأ له في ذلك المقال «ليس هناك من اتجاه بعينه يملي شروطه ومناخه على مسار المجلة وإنما نحاول في حدود الممكن أن تكون منبرا مفتوحا على أكثر من مدار واتجاه وعلى أكثر من رؤية ووجهة أدب وثقافة في حدود معايير القيم المعرفية المتعددة ، وربما المتصارعة في الإطار نفسه ، من غير أن تسقط في التسطيح باسم هذه التعددية. ليس هناك من اتجاه بعينه يفرض صرامته على المجلة كما تروج لذلك ثقافة الاشاعة في البلاد قبل صدور المجلة أملا في ألا تصدر وبعد بدء صدورها، وكما يروج أولئك الذين يضيقون ذرعا بأي شيء جديد وخارج سياق العادة المتراكمة عبر أزمنة الجمود والتخلف وكما يروج أيضا أولئك الباحثون عن دور عجزوا عن إيجاده على أرض الإبداع والكتابة والحياة فتحولوا إلى نسيج شبحي لإبداعات متوهمة وعلى طريقة (لا ذا وعاه ولا ذا حصل) لم يبق أمامهم إلا سقف الثرثرة ومضغ خرق الكلام البالية». وبعد عشرين سنة يمكن أن نقول أن تلك الافتتاحية/ البيان التأسيسي تحقق إلى حد كبير واستطاعت أن تحافظ على تفاصيله ومنهجه.
واليوم وبعد هذين العقدين وبعد أن حققت مجلة نزوى كل هذا الألق في العالم العربي وفي العواصم الغربية يحق لنا جميعا أن نحتفل بها ونحتفل بالقائمين عليها طوال العقدين الماضيين الشاعر سيف الرحبي رئيس تحريرها والشاعر طالب المعمري مدير تحريرها وهما في أغلب سنوات المجلة كانا إضافة إلى كونهما رئيس تحرير ومدير تحرير محررين ومراجعين ويعملان على استخراج المواد وكل ما يمكن أن يُتصور حدوثه في مجلة حتى وإن كانت فصلية.
لكنَّ الشاعر سيف الرحبي عندما نتحدث دائما عن المجلة وتاريخها والظروف التي مرت بها يذكر شخصية عمانية ويعيد لها الكثير من الفضل على المجلة، وهي شخصية عنيت بالمجلة كثيرا منذ أن كانت مجرد فكرة على الورق إلى أن تحققت على أرض الواقع وكبرت وأينعت وصارت علامة عمانية عربية بارزة في المشهد الثقافي العربي وهي شخصية معالي عبدالعزيز بن محمد الرواس مستشار جلالة السلطان للشؤون الثقافية ووزير الإعلام الأسبق. رئيس التحرير يعيد الكثير من فضل بقاء المجلة على ألقها إلى معالي عبدالعزيز الرواس. وهو يستحق أن يذكر فيما المجلة توقد شمعة لبداية عقد جديد. لكن سيف وطالب يستحقان الذكر والشكر كذلك على «نزوى» التي كبرت وكبرت لكنها بقيت شابة وفاتنة وتراود الجميع للنشر فيها وقراءة ملامحها العذبة.
——————————–
عاصم الشيدي