وتمضي، حصانُكَ تحتك، إلى التهلكة
رؤاك اندملت رملاً بطينٍ، وحظّكَ
التقاكَ حينما كنتما تفترقانِ
فكلاكما سارَ بنفسهِ صوبَ المصير
المعلّقَ، بانتظاره في خراب الحياةِ،
يشدّهُ اليأسُ بحبلٍ وراءه، وكلما
همّ بالرجوعِ، شدّه من جديدٍ
وسارَ، رأسهُ مرفوعٌ والدنيا ظلام.
من أي أمصار الحياةِ جئتَ؟ لوّحَ
ثقلُ الرزايا وجهكَ، رتوقُ الرداءِ
لم تعُد تبينُ، وكلُّ ما فاتكَ من ألمٍ
ها هو يعودُ من جديدٍ، يُداهمُ
أوشالَ الآمالِ في قعرِ روحكَ
وأنتَ، كنتَ تُسايرُ الذكرى، بلاداً
تبدوُ خلف السنين البعيدة، راياتُ
أقوامٍ بلا هُدى يحثّون الخطى
صوبَ نهر السرابِ، كلابهمُ يلهثُ الجوعُ
في أفواهها، كانوا يأتونَ، حرابُهمُ تلمعُ من بعيدٍ،
فيما لحنُ الفراق يُباعدهم، وأنتَ يُسيّرُ
حصانُك نفسهُ ببطء ويبدو أنه يعدو.
نستهُ المعاني في الطريق
وكان، كلّما كرّت أحلامُه، يسعى بها
يحملها، عابراً حدودَ المدن الكبيرة،
مفتاحاً بجيبهِ لكلّ ضيقٍ، يهمسهاُ
لنفسهِ، كلّ وقتٍ، وكأنّهُ يُغنّي
لكنه لم يَعُدْ يجدها، راحهُ تشقّقت
وتهرّأ لباسُهُ، حتى ظهرهُ انحنى
وكلّت منه العينان، صارَ يُحادث نفسه
وكأنهُ شخصٌ وحيد، جاء من الماضي
نستهُ المعاني في الطريق، علّةُ اليأسِ
أمسكتهُ من أزياقهِ، فيما كان من
الشباك، يرنو، حافياً، يُنقّلُ
أقدامهُ على أرضيةٍ غطّاها الغُبار..
تلك الذكريات، أينها؟ كيف ضاعت؟
كأنها قصورُ رملٍ، وقد تهدّمت
في خياله، تلاشتْ، فيما هو بكلِّ
اوزار الطريق، متعثّراً، يعبرُ الثنايا.
وشجّت هامَه الوعودُ
وكانَ يُتعبُهُ المسيرُ رويداً رويداً نحوَ
خيْط السرابِ، لكي يعرُجَ من جديدٍ
إلى مبتداه، نفسُهُ تريدُ أن تستقرّ
يداً تمدُّ، إلى الوهمِ، لتلمسَ الغصنَ
الطريَّ، لتفزّ الطيورُ بعيداً، فقد
هبّتْ رياحُ السنين عليهِ، وشجّت
هامَهُ الوعودُ، فراحَ بعكّازٍ يسيرُ
يلمُّ يابسَ الأوراقِ، بكيسٍ، ثم
يُفرغُه من جديدٍ، لكي تنثرها الرياحُ
ويبقى مُصغياً لصوتٍ، يبدوُ أنهُ
من الماضي، يأتيه أحياناً، فيصفرُهُ
ولكن فمُهُ الأدردَ، لم يعُد يقوى..
انها عودةٌ أولى، كان الطينُ ينزُّ
واليأسُ ظلٌّ يقيه من الذكرى، يقيه
من سكون الطريقِ، فتبدوُ كأنها ماض
ترفرفُ أعلامُهُ في العتمِ، تناديه.
كان يودّعُ ظلاً في الظلامِ
وحينما حانت حياتُه، كان انتهى
من الروْعِ، وشدّ اليقينَ بحبلٍ
وراءه، ثم سارَ، كان ببطءٍ
يسيرُ، له تلوحُ اللاجدوى من بعيدٍ
ونهارُهُ الذي بدا لتوهِ، ضاعَ
ادلهمّ الغيمُ واسودّ كلّ شيءٍ
في خياله، كان يدري، أنها الذكرى
الأسى الوحيدَ له، خاطره الذي اتكأ
ثم تلاشى، الريحُ هبّت، هدّمت لهُ
أركانَ الحياة، ووضعتْ له اليأسَ
بكاسٍ، ذاقَه، ثم تمدّدَ على الدربِ
أرخى حزامَ عمرهِ، وتبيّنَ النجمَ البعيد.
حتى شُعلة الأسى انطفت
حينما كنتُ – في الأحلامِ – أطرقُ بابَها
والصدى من بعيد يجيبني، فأفزّ من نومتي
الليلُ لم يمضِ كلّهُ، الرحيلُ يدكُّ
بقوةٍ، يستعجلُ القيامَ، فيما كلُّ
ما فيّ ميتٌ، حتى شُعلةُ الأسى انطفت،
وسِرنا حفاةً، في الجنازةِ، نبكي
بصمتٍ، تلهجُ أرواحنا بالدعاء، فيما
كنّا نخطو على طريق التراب، وقد
فاجأنا الفجْرُ، وكأن الحياةَ من جديدٍ
تبدأُ، فاستفاق الميتُ بيننا وسارَ
على الدرب، مدّ يدَه حاملاً
تابوت الخشبِ، ساهماً بحزنٍ، مثلنا.
ضيّعتُ الرؤى كلّها
إلى: سوسن بشير
لمن أكلّم النارَ، لمن أرفعُ الظمأ؟
سائراً، حافياً، رثّ الملابسِ
عصاي أكلَ العثُّ أطرافَها، وفمي
أضحى أدردَ، حتى الكلامُ صارَ فيهِ
غريباً، أرفعُ الرايةَ المنكّسةِ
غير أنها تميلُ من جديدٍ، رمانتي
أكلَ الدودُ قلبَها، ودمي يسيلُ
حامضاً، لمن اذن، أعطي حكمتي؟
ضيّعتُ الرؤى كلَّها، والسريرُ رثّ
لم أعدْ أنامُ، حتى ليلي تعثّرَ
فصرتُ أخلطُ بينه والنهارَ، طالعي
لا يبدو جيداً، أحملُ القربةَ فارغةً
وكلُّ ما كانَ لي، تركتهُ مُلقى، صرتُ
واحداً، أُكبّلُ عِلتي، أُسارعُ في الخطوِ
غير إني صرتُ أبطأ، خيالي فقدتهُ
أجلس هنا، العصا بقربي، أنتظر.
كيفَ عُدتُ القهقرى؟
تعودُ من التيه، خاملَ الخطى
كلُّ شيءٍ فيك يئنُّ، يداك
وقد لوّحتا من بعيدٍ، فيما
يهيمنُ الغبارُ على الوجوه
والعتمةُ تنيرُ الطريقَ، الذي
من أجله أتيتَ، انتفى
كنتُ تحادثُ نفسكَ، تشيّعُ
أحزانكَ ثم تغلقُ الباب خلفك.
كيف عدتَ القهقرى؟ أمن أجل
نخلةٍ؟ أمن أجل كلبٍ كان ينبحُ
طيلة السنين في الخيالِ؟ أمن أجل
وشلة ماءٍ في النهر الذي بانَ
الحصى في قاعهِ وأضحى ماؤُهُ
داكنَ الخضرة، أمن أجلِ
التلال؟ وتلك الزهور في الربيع؟
حيثُ كنتَ تُسعدُ نفسك بها
أغنامُك ترتعُ وأنتَ تبني بيوتاً
من الطينِ وتحلمُ بالسفر؟ وكأن
اليقينَ اختفى، ترمقُ السماءَ من
الشباكِ، ثم ترمي الجريدة ولكنك
لا تستريح، تبقى معلّقاً بخيْطِ
الهمومِ، تشدّك من جديدٍ إليها
لا كلام عندكَ لتقولهُ، لا ليلَ
لترقدَ، لا سرير لتنامَ وتنسى.
أن يرى شيئاً بين السطور..
كان يجلسُ قُبالة نفسه
يظنُّ الحياةَ انتهت،
الذكرياتِ وقد انسربت
خيوطَ السنين وقد تقطّعتْ.
كلّ ما كانهُ، اختفى
حتى أصابعهُ التي يراها
الآن، فيما هو يمسّد شعره
الشائبَ، ليلَهُ، نهارهُ،
أيامهُ التي كان يحسبها
ثم يجدُّ في السيْر بحثاً
عمّا، ربما، ما يراهُ، ما يحسبُهُ
كلاماً، أو حِكَماً من العُمرِ
كلُّ هذا، لم يعد إلا حصالة
آلامهِ، تعبُ العينين في المساءِ
فيما هو يحاولُ أن يقرأَ
أن يرى شيئاً بين السطور.
خيْطاً من الوهمِ كان لديكَ
في حياتك التي كانت، على من تُنحي
باللائمة؟ تسيرُ طويلاً في النهارِ، وفي أحلامك
ترفعُ صوتكَ عالياً لكي تُسمعَ، وكلما
فتحتَ عينيك، عُدتَ وأغمضتهما
لكي تنامَ، يدُك توزّعُ أرزاقها
ثم حين تصحو، تنادي أحلامَك بصمتٍ
وترنو إلى العالم الذي يبدو بهياً
ثم تحملُ كيسَ الرزايا، كيسَ الوصايا
وتمضي، اليقينَ تركتَ على جانب الدرب
أحلامكَ وقد كوّرتها كورقةٍ، الذكريات
أضعتَ، وحينما عدتَ إلى رشدك
نأيتَ قليلاً، وخيْطاً من الوهمِ كان لديك.
————————–
خالد المعالي