في خاتمة كتابه «لن تتكلم لغتي» يعرض عبد الفتاح كيليطو لترجمة متى بن يونس لـ«فن الشعر» متوقفا عند اقدام متى على ترجمة «طراغوديا» بالمديح، و«قوموديا» بالهجاء، ليتساءل في النهاية «عما اذا كانت ترجمة أخرى متاحة له آنئذ؟».
نعلم أن المترجمين في الحقبة ذاتها، وفي مجال آخر غير مجال الأدب والشعر، قد واجهوا الغرابة نفسها والصعوبات ذاتها، الا أنهم لما استشعروا أن لغتهم المتداولة لم تكن تفي بالمطلوب، استحدثوا ألفاظا، ونحتوا مفهومات وأرغموا اللغة العربية على «استضافة الغريب» والذهاب نحو الآخر، فتكلموا عن الكم والكيف والأيس والليس، والمائية والماهية، بل انهم، في البداية على الأقل، ارتضوا لكلمات «غريبة» أن تقتحم لغتهم فاستعملوا أسطقس وقاطيغورياس وهيولى…
هذا ما يؤكده أبو نصر الفارابي اذ يقول:» والفلسفة الموجودة اليوم عند العرب منقولة إليهم من اليونانيّين. وقد تحرّى الذي نقلها في تسمية المعاني التي فيها أن يسلك الطرق التي ذكرناها. ونحن نجد المسرفين والمبالغين في أن تكون العبارة عنها كلّْْها بالعربيّة. وقد يُشركون بينها . منها أن يجعلوا لهذين المعنيين اسما بالعربيّة: فإنّ الأسطقس سمّوه «العنصر» وسمّوا الهيولى «العنصر» أيضا – وأمّا الأسطقس فلا يسمّى «المادّة» و«هيولى» – وربّما استعملوا «الهيولى» وربّما استعملوا «العنصر» مكان «الهيولى». غير أنّ التي تركوها على أسمائها اليونانيّة هي أشياء قليلة.
تشير جملة اعتراضية في هذا النص المقتبس عن كتاب الحروف إلى طرق سلكها الناقلون في تسمية المعاني الفلسفية، فما هي هذه الطرق التي انتقلت بها المفهومات إلى اللغة العربية؟ يجيبنا الفارابي على هذا السؤال في الكتاب نفسه: «وكذلك إن حدثت الفلسفة احتاج أهلها ضرورة إلى أن ينطقوا عن معان لم تكن عندهم معلومة قبل ذلك، فيفعلون فيها أحد ذينك. فإن كانت الفلسفة قد انتقلت إليهم من أمّة أخرى، فإنّ على أهلها أن ينظروا إلى الألفاظ التي كانت الأمّة الأولى تعبّر بها عن معاني الفلسفة ويعرفون عن أيّ معنى من المعاني المشتركة معرفتها عند الأمّتين هي منقولة عند الأمّة الأولى. فإذا عرفوها أخذوا من ألفاظ أمّتهم الألفاظ التي كانوا يعبّرون بها عن تلك المعاني العاميّة بأعيانها، فيجعلوها أسماء تلك المعاني من معاني الفلسفة.
فإن وُجدت فيها معان نقلت إليها الأمّة الأولى أسماء معاني عاميّة عندهم غير معلومة عند الأمّة الثانية وليس لها عندهم لذلك أسماء، وكانت تلك المعاني بأعيانها تشبه معان أخر عامّيّة معلومة عند الثانية ولها عندهم ألفاظ، فالأفضل أن يطّرحوا أسماءها وينظروا إلى أقرب الأشياء شبها بها من المعاني العامّيّة عندهم فيأخذوا ألفاظها ويسمّوا بها تلك المعاني الفلسفيّة.
….. فإن كانت فيها معان لا توجد عند الأمّة الثانية معان عامّيّة تشبهها أصلا – على أنّ هذا لا يكاد يوجد – فإمّا أن تُخترَع لها ألفاظا من حروفهم، وإمّا أن يُشرَك بينها وبين معان أخر – كيف اتّفقت – في العبارة، وإمّا أن يعبَّر بها بألفاظ الأمّة الأولى بعد أن تُغيَّر تغييرا يسهل به على الأمّة الثانية النطق بها.ويكون هذا المعنى غريبا جدّا عند الأمّة الثانية، إذ لم يكن عندهم لا هو ولا شبهه».
ما يثير الانتباه في نص المعلم الثاني هو اعتبار ما يدعوه المعاني العامية المنهل الأساس والقاسم المشترك الأوحد الذي يمكن أن تستقى منه الألفاظ. فلا ذكر هنا لما قد يكون من التقاء للثقافتين، العربية واليونانية، لحقول ثقافية أخرى، كحقل ما سمي في ثقافتنا الكلاسيكية «أدبا».
ستضع الأقدار فيما بعد كتاب فن الشعر في يد فيلسوف، ولكن ليس لترجمته هذه المرة، وانما لتلخيصه والوقوف على محتواه.
في الأدب والارتياب يتوقف عبد الفتاح كيليطو، بعد بورخيص، عند الصعوبات أو الحرج الذي لقيه صاحب تلخيص ما بعد الطبيعة في التعامل مع كتاب أرسطو في فن الشعر. وعلى رغم ذلك فبامكاننا أن نقول ان صاحب فصل المقال كان حاسما في موقفه النهائي مع مصنف المعلم الأول إلى حد أنه سمح لنفسه بالقول:
«وكل ذلك الذي ذكر غير موجود مثاله عندنا، اما لأن ذلك الذي ذكر غير مشترك للأكثر من الأمم، واما أنه عرض للعرب في هذه الأشياء أمر خارج عن الطبع، وهو أبين، فانه ما كان ليثبت في كتابه هذا ماهو خاص بهم، بل ما هو مشترك للأمم الطبيعية».
يتخلص ابن رشد اذن من الصعوبات التي تواجهه بالجزم بأن ما يشذّ عن الطبع هو الشعر العربي. نتصور الحرج الذي يجد فيه الفيلسوف المسلم نفسه وهو يجزم بـ«أن ما عرض للعرب في هذا السياق أمر خارج عن الطبع» وفي الوقت ذاته لا يملك الأدوات اللغوية لتقويم الترجمة وإرجاع الأمور إلى طبيعتها.
لعل ذلك هو ما سيجعل كثيرا من الباحثين يأسفون فيما بعد على هذا الموقف، بل ان منهم من سيعتبر هذه العثرة الرشدية ضربة كبرى للأدب العربي، بل للثقافة العربية بمجملها. هذا ما يعبر عنه عبد الرحمن بدوي في تصديره للكتاب اذ يقول: «يخيل الينا أنه لو قدر لهذا الكتاب أن يفهم على حقيقته وأن يستثمر ما فيه من موضوعات وآراء ومبادئ، لإعانة الأدب العربي بادخال الفنون الشعرية العليا فيه، وهي الماساة والملهاة، منذ عهد ازدهاره في القرن الثالث الهجري، ولتغير وجه الأدب العربي كله».
ما يؤخذ على الفيلسوف المسلم هنا ليس قصورا في ما ندعوه ترجمة أدبية، اذ أنه ليس هو مترجم الكتاب الذي، كما نعرف، هو متى بن يونس الذي لم ينقله عن اليونانية وانما عن السريانية، ما يؤخذ عليه هو عدم تمكنه مما يدعوه ياكوبسون الترجمة البين- سيميائية intersémiotique.
نعلم أن الكتاب المعني بالأمر يدور حول المسرح، أي بالضبط حول فن لم تتمكن الثقافة العربية من أن تعرفه قبل القرن التاسع عشر. تشاء الصدف أن تظهر صعوبة ايصال الفن المسرحي نفسه، صعوبة الترجمة بين دلالات ثقافية، ولكن هذه المرة بين ثقافتين معاصرتين هما: الثقافة اليابانية والثقافة الأوروبية. قد نتساءل :لماذا بالضبط هذه الاحالة المتكررة إلى المسرح وأساسا كخصوصية ثقافية تتعذر ترجمتها؟
ربما نجد جوابا عن هذا السؤال في هذا الحوار الذي يتخيله هايدغر بينه وبين ياباني حيث يقول الياباني: «ان ما يظهر على السطح في العالم الياباني أوروبي تماما، أو ان شئتم أمريكي. أما خلفية العالم الياباني، أو لنقل إن ما يجعل العالم الياباني كذلك فبامكانكم أن تختبروه في مسرح النو NO ». ثم يبين الياباني خصوصيات هذا المسرح، ولعل أهمها هو فراغ خشبته، ليخلص إلى القول: «ان الفراغ بالنسبة لنا نحن اليابانيين هو أسمى اسم يمكن أن يطلق على ما تحبون أن تعنوه بلفظ الوجود». لعلنا نتبين هنا كيف يمكن للمسرح بالذات أن يعبر عن خصوصية ثقافية ما دام يبلور ليس فحسب مفهومات عن الزمان والمكان، بل أيضا عن الوجود واللاوجود.
الحوار المشار اليه عنونه هايدغر» حوار الكلام بين ياباني وسائل يسأل». يتعلق الأمر بطرح الصعوبات التي تواجه الياباني وهو يسعى إلى نقل مصطلح ياباني وهو الإيكي IKI إلى اللغة الألمانية قصدَ تقريب السائل من معناه.
يبدأ الياباني بأن يعترف لمحاوره بالقول : «منذ لقائتا مع الفكر الأوروبي، اتضح عجز لغتنا». ثم يعرض الوضع المحرج الذي تعيشه الثقافة اليابانية، التي تجد نفسها مضطرة إلى تبني مفهومات الميتافيزيقا الغربية، والخوف الذي يصاحب هذه العملية التي لا مناص منها. فكأن الثقافة اليابانية تجد نفسها مضطرة لأن تلجأ للفكر الغربي ليزودها «بالمفاهيم الكفيلة بفهم ما يأتيها من فن وشعر»..
تضعنا ترجمة المفهوم الإيكي، الذي يعني «الاشعاع الحسي الذي يمكّن شيئا من اللامحسوس أن يتجلى بفضل فتنته التي لا تقاوم»، تضعنا هاته الترجمة في مواجهة الإشكالية التالية: تصدر ثنائية محسوس/لامحسوس عن تصور خاص بالإستيطيقا الغربية، ولا تصيب فعلاً قصد الكلمة اليابانية. والإستيطيقا الغربية تظلّ، في واقع الأمر، مشروطة بالميتافيزيقا التي أنتجتها، الميتافيزيقا الغربية، تلك الميتاقيزيقا التي تظل محكومة بألفاظ تقابلية مثل: المعقول والمحسوس.
ينمو الحوار بين السائل الألماني والياباني فيقترح هذا الأخير ترجمةَ «الإيكي» بـ ما يفتن بلطف Qui vient charmer avec grâce، إلا أنهما سرعان ما يتبينان أنها هي الإستيطيقا الغربية نفسها، إذ تدفع الذاكرة فوراً إلى استحضار ما كتبة شيلر وكانط عن «اللطف» في علاقته بالموضوع الجمالي.
هذا التخوف الذي يتمخض عن الحوار من أن تمتص الثقافة الغربية المعاني اليابانية هو ما يدفع هايدغر، سواء في هذا النص أو في نصوص أخرى مثل «كلام أنكسمندر وما الذي ندعوه تفكيرا؟ إلى ألا ينظر إلى الترجمة إلا باعتبارها سعيا نحو الآخر، بالمعنى الجذري لكلمة سعي. ومن هنا تأكيده، في نص ماهي الفلسفة على سبيل المثال، على أولوية الإصغاء للكلمات اليونانية بآذان يونانية، والانتقال إلى الموطن الأصل، وهو ما تشير اليه العبارة التي يبرزها في نص كلام أنكسمندر: «أن نترجم أنفسنا» إزاء الكلام المترجم Nous traduire، وهي العبارة التي ينبغي أن نتلقاها هنا في معناها القضائي: أعني أن نمثل أمام ذلك الكلام ونخضع لاستنطاقه.
وهكذا لن يتمكن القولان الألماني والياباني أن يتواصلا ويتصلا ويقيما على مسافة أساس من القرب، الا عبر فحصهما قياسا إلى سياقات وتقاليد موغلة في القدم، واخراجهما عن سياقتهما المغلقة ودعوتهما للغريب وإلى الغريب.
فعوض جر الآخر نحو الذات، واقامة نظرية في الترجمة تسعى لأن تلغي الاختلاف الثقافي واللغوي وتحاول أن تنقل النص من لغة إلى أخرى من غير أن يبدو أنه انتقل بحيث ينطق النص المترجم لغة المترجم، ويفصح عن ذاتـه، وينتمي إلى ثقافتـه، عوض هذه الترجمة التي تروم قهر المسافة بين المترجم والمؤلف، وإلغاء الاختلاف بين اللغة الأصلية واللغة المترجمة، عوض هذه الترجمة التي تنفي ذاتها كترجمة، وتسعى أن تقدم نصا «كأنه لم يترجم»، نصا يمحو فعل الترجمة، نصا لا نشتم فيه رائحة اللغة الأخرى، رائحة «الأجنبي»، رائحة الغرابة، رائحة الغيرية، رائحة الآخر، رائحة الاختلاف، عوض هذه الترجمة تقوم ترجمة ترمي إلى أن تفتح الثقافة، تفتح النصوص على الخارج، وبلغة هايدغر ترجمة تكون عملية «تحويل». إلا أننا لا ينبغي أن نفهم التحويل هنا في اتجاه واحد. إن الترجمة لا تحول النص المترجَم فحسب، فهي عندما تحوله تحول، في الوقت ذاته، اللغة المترجِمة.
على هذا النحو ينبغي للترجمة أن تكون استشكالية لا تدّعي قهر كل الصعوبات، ومحو كل المسافات، وإلغاء جميع الاختلافات. إذ لا مفر لها من أن تعلن انهزامها أمام ما تتعذر ترجمته، وما يشهد على غرابة وبعد ومسافة وغيرية، وبالتالي على امتناع عن الرضوخ والانصياع، امتناع عن الضم والابتلاع. معنى ذلك أن عليها أن تعترف بالآخر كآخر. يقول غوته في هذا الصدد: «لا ينبغي أن نخوض في عراك مباشر مع اللغة الأجنبية، ينبغي أن نتوصل إلى ما لا يقبل فيها الترجمة، وأن نبدي شيئا من الاحترام إزاءه، إذ في هذا تكمن قيمة كل لغة، ويتجلى طابعها الخاص. حينما نتوصل إلى ما تتعذر ترجمته آنئذ، وآنئذ فحسب، يدرك وعينا الأمة الأجنبية واللغة الأجنبية». معنى ذلك أن الوقوف عند ما تتعذر ترجمته ليس مجرد مواجهة لصعوبات لغوية تنم عن ضعف المترجم وعدم تمكنه. فليس المترجم هو من يقف عاجزا، وإنما هي اللغة ذاتها التي تقف أمام الأخرى، إنها الثقافة ذاتها التي تقف أمام الأخرى. على هذا النحو، فليس الأمر عجزا، وإنما هو إدراك لـ»آخرية» الآخر. معنى ذلك أن التقريب ما بين اللغات الذي تتوخاه الترجمة هو، في الوقت ذاته، إبعاد، وأن الترجمة، إذ توحّد بين اللغات، تعمل بالفعل ذاته على خلق الاختلاف بينها وإذكاء حدته. فليست الترجمة خلقا للقرابة فحسب، وإنما هي أيضا تكريس للغرابة. إنها استضافة، لكنها دوما «استضافة غريب».
مفكر من المغرب