في الشعر العربي الآن ظاهرة بدأت تتردَّد في أعمال العديد من الشاعرات، إنها الحديث عن الجسد بجرأة وتمرّد، وكأن يقظة أنوثية متأخرة تريد أن تنتقم لمرحلة طويلة من القمع والكتمان القسري.
وإذا كانت أكثر هذه التجارب مملوءة بردة فعل ضيقة الأفق ومليئة بعقد متورمة، بل هي أحياناً استعراض خارج الشعر، إلا أن تجربة الشاعرة السورية مرام المصري حالة لافتة من التحليق بعيداً عن معاناة الأنثى بالمعنى الضيق، لتغدو شاعرة حب بأصفى وأشرس ما في الحب من تجليات.
إنها حالة خاصة متألقة في قصيدة النثر التي تكتبها الشواعر العربيات، ذلك أن تجربتها الطويلة مع الشعر اتسمت بإخلاص تام له، ففيما قدمته انشغال عميق بقصيدة دافئة وحرة، تعمل دوماً على الحفر العميق في الجسد .. وتحويله إلى أغنية متمردة وصادمة:
تشعلني الرغبة/ وتتألق عيناي/ أحشر الأخلاق في أقرب درج / أتقمص الشيطان/ وأعصب عيون ملائكتي/ من أجل/ قبلة/ أو: عرى بنظراته/ نهدي الخجولين/ حولني لامرأة جميلة/ ثم نفخ في جسدي /روحه / هادراً/ رعداً وصواعق
ولعل من النادر أن نقرأ هذا البوح الملهوف لامرأة تتحدث عن أعمق حالات الاضطراب والنزوات، ولا تتورع عن استخدام لغة مكشوفة أحياناً، وتحكي عن تفاصيل حميمة من قلق العلاقة مع الآخر حتى لو كان زوجاً:
ساعدني يا زوجي الطيب/ أن أغلق/ هذه الكوَّة/ التي انفتحت/ في أعلى حائط صدري/ امنعني يا زوجي الحكيم/ أن أعتلي/ كعب أنوثتي/ فعند مفترق الطريق/ شاب / ينتظرني
وقد قدمت في شعرها العديد من القصائد التي تتحدث عن هذه العلاقة المضطربة، ومنحتها الكثير من الملامسة الجميلة.
الجسد في قصائد مرام (وهي شاعرة جسد بامتياز) حزمة من الخضرة والألوان.. آفاق مفتوحة.. ومزيج سحري من البهجة والخيبة والألم.. موجات لا تتوقف من النشوة والإحباط .. وفي هذا ما يؤشر إلى الدلالة الأبدية له.. فهو تكثيف للحياة والموت.. للقاء والفقد الأبديين في هذه الدنيا:
كفقير يأكل/ حتى التخمة/ خوفاً من يوم/ لا طعام فيه/ أنظر إليك/ في حضني..
أو: لملم بيديك/ باقة/ خصري الطرية/ من على السرير/ المليء بأشلاء / الضحايا..
في شعر مرام انتشاء بالأنوثة، فهي مختالة بها.. فخورة .. تراها بؤرة حياة ولذة بلا عُقد، وكذلك الرجل في قصائدها، فهو غيره في أكثر قصائد الشعر النسائي العربية، إنه شريك ..ناسج اللحظات العابقة بالسحر.. وأحياناً بالبلاهة والندم، ولعله أحياناً الطرف الأضعف.. إنه ليس سيداً ولا آمراً ولا ناهياً، إنه ببساطة رجل يحب بكل بساطة وعمق.. ولذة وألم، كذلك المرأة، إنها المانحة والباحثة، والتي لا تكف عن القبض على الحياة حتى اللحظة الأخيرة:
كان بودي منحك/ مروجا عذراء / وجسداً فتياً / وها أنا أمامك يا حب / بجسد/ مرَّ عليه لصوص /الأعوام / وببطن / تكوَّرت الحياة فيه / وبثديين / تفجَّرت منهما مياه بيضاء لأفواه جائعة / لكنني / أمنحك يا حب / شهوتي الجميلة / نضِرة / كعاشقة غرَّة..
وفي هذا الإطار نكون مع العلاقة العاطفية بكل إرباكاتها وسلاستها وآلامها، وهذا ما نجده في تصويرها لمختلف الحالات التي تعبر عن تشابك الخيوط بين الرجولة والأنوثة في إطار شفيف من المهارة التعبيرية:
الرمانة/ المحتفظة بأسرار/ لآلئها/ لاتزال تنتظر/ أن تخلع/ قشرتها اللامعة/ أو: رجل القش/ خدع عصافيري
وهي تتغنى بالرجولة ورموزها بصراحة، وهذا جانب لافت جداً حيث تعمل الشاعرة العربية عادة على التورية، أو الشكوى أو الإحساس بالانتقام أو تحس بالمهانة والغدر بشكل دائم، لكن شاعرتنا تفاجئنا بتغن ٍّ صاف ٍ بالرجولة وتفاصيلها، مع قدر واضح من النزعة الشـَّهَوية، وبإحساس ٍ عال ٍ بالتكافؤ مع الرجل:
كلما غادرني / رجل/ أزداد جمالاً/ أو: امرأة في عرس شهوتها/ تضج بملائكة رجل
وأدوات الشاعرة لافتة بهشاشتها الخادعة الجميلة، فقلما نقرأ شعراً بهذه العفوية والتقشف البلاغي والموسيقي، حيث المفردة السهلة الشائعة، والجملة البسيطة التي لاتلفّ ولا تدور، ولا تتداخل أجزاؤها، لكن مع ذلك فهذا الشعر محتشد بالاختلاف والجدة والجرأة والجمال والدفء، لهذا تحتل قصيدة مرام مكانتها من ذلك الأداء الجديد الذي يغوص عميقاً في الحالات الإنسانية، ويجهد بوضوح إلى تقديم نفسه بلغة تبتعد كثيراً عن الاستعراض البلاغي لتقدم بدلاً منه جملة من التقنيات الخفية، في إطار دائم من حركة المشهد، فتأخذ الكثير من جماليات الثقافة البصرية، فالعديد من قصائدها مشاهد مكثفة من سينما شعرية على الورق، وقد تحولت إلى حالة شعرية:
في الشارع المؤدي/ إلى منزلها/ صالونها مضيء/ طيفها/ يتأرجح/ كقنديل../ تريد من الله/ أن يلوح لها بمروحة/ نسائمه/ أو يبلسم بأنفاسه/ حروقها/ كأم حنون
واللافت تلك العذوبة التي تغلب على الصياغة، فالإطار الذي يجمع التعبير عن لهفة الحب وشهوته وخيباته يمتزج غالباً بأداء ضمني وشفاف كما في قولها:
أنا سارقة السكاكر/ أمام دكانك/ دبقت أصابعي/ ولم أنجح/ بوضع واحدة/ في فمي
في لغة مرام الشعرية صوت رسولي أحياناً كأنه قادم من معبد، لكنه مجاور للشوارع والأسرَّة والنوافذ والحانات، ولعله طالع منها، حيث تكون المرأة خلاصة حياة.. جرحاً مفتوحاً على الأبدية، وحلماً كبيراً في وحشة عالم قاس ٍ:
امرأة كل الرجال أنا ولا رجل لي / امرأة كل البلاد أنا ولا بلد لي / امرأة الأحرف والكلمات / امرأة البحور والجبال/ امرأة اللذات والألم/ أو: أنا التي لم يعد لها وطن سوى / الورق والكلمات/ أنا التي لم /يعد لها سرير/ سوى أرصفة الأمل/ أنا فضيلة الفاضلات / مانحة اللذات والفرح/ رافضة الحرب والدماء / قارئة القلب والروح
وإذا كان البناء الأساسي لقصيدتها يعتمد البساطة الخادعة أي تلك التي تخفي حرفتها ومهارتها تماماً، وترسم مشهدها بتلقائية وعناصر شديدة الألفة، فهي مع ذلك تطور هذا البناء على نحو فيه الكثير من التأمل والإحالات أحياناً، فتغتني القصيدة عندها بالكثير من الخفايا التعبيرية التي تحتاج إلى تأمل وكشف:
الحيطان لها / آذان / تسمعك تئنّ ولا ترد/ تستطيع أن تسرّ لها بكل شيء / تؤكد لك دائماً / بأنها كالحيطان خرساء/ تتحمل ضربات رأسك عليها / وتسندك وأنت تقع / تراك تبكي ولا تأخذك بالرغم /من التصاقك بها / بين ذراعيها../ على الحيطان نعلق ظلالنا / ظلالنا الراقصة والساقطة/ ملابسنا ومساميرنا/ الحيطان لها شفاه/ الحيطان باردة/
شفاهي لا تمنحها/ النار..
أو: أعطني حباً/ كفاف يومي/ ولا تثقل يومي على / قلبي الحزين/ بمثقال ذرة/ خذني .. ولا تضربني بوردة/ غضَّ الطرف عن أخطائي / وابعث برسُل/ قبل أن تطأ أرضي
إذاً من الواضح أن جوهر شعر مرام قائم على هذا العراء الواضح، أنوثة لا تخجل من نفسها، بل تتقدم وتناجي أعمق أسرارها أمامنا، وهذا العراء التعبيري تقابله لغة عارية أيضاً، غير مثقلة بأساطير ومجازات بعيدة، وليس فيها تعبُّدٌ طويل أمام الشكل ومعاناة خـَلقه، إنها ببساطة تعمل على منح العادي والحميم أقصى ما تستطيع ليكون مساحة دهشة وخلق وحياة وجـِدَّة، وهذا رهان قلما ينجح في الشعر، لكن مرام المصري جعلتنا نمسك هذا النجاح بأيدينا.
بيـــان الصفـــدي
شاعر وكاتب من سورية