أود من خلال هذا العنوان طرق مسألة الترجمة، ومن ثمة مسألة الاستنساخ، وعلاقة الأصل بنسخه، من خلال محاولة الإجابة عن سؤال قد يبدو في الظاهر في غير حاجة إلى أن نتوقف عنده، أطرحه في بساطته وتلقائيته: إذا كان المرء قادرا على قراءة النص في لغته، فهل يكون في غنى عن ترجماته؟ هب أن فرنسيا مختصا في الفلسفة القديمة باستطاعته أن يطلع على نصوص أرسطو في لغتها اليونانية، فهل هو في غنى عن ترجماتها الفرنسية؟ وهب أنني، أنا القارئ العربي، أتمكن من دراسة نصوص الفلسفة الإغريقية في لغتها الأصلية، فهل أنا في غنى عن قراءة ما نقله أجدادنا إلى اللغة العربية؟ وافرض أنني أتمكن من دراسة نص ديكارت le discours de la méthode في لغته الفرنسية، فهل أنا معفي من اللجوء إلى ترجمة محمود الخضيري، وجميل صليبا، وعمر الشارني. ولنفترض أن في استطاعتي أن أطلع على نص فينومنولوجيا هيجل في لغته الأصلية، فهل أنا مثلا في غنى عن تفحص الترجمات الفرنسية للنص نفسه؟
سيتردد بعضنا في الإجابة عن السؤال فيما يخص المثال الأخير إن كان قد قرأ مثلي أن بعض الدارسين الألمان يستعينون بترجمة هيبوليت لقراءة النص الألماني. ها نحن أمام حالة تظهر أن المسألة ليست بالبساطة التي تبدو عليها لأول وهلة، وأن الأصل قد لا يغني عن الترجمات، مثلما أن هاته لا تغني عن الأصول. لعل هذا هو السبب الذي يدفع بعض الناشرين إلى نشر ما يطلقون عليه المنشورات مزدوجة اللغة، حيث يقدّمون للقارئ في الوقت ذاته الأصل وترجمته وجها لوجه. صحيح أن هناك من يرى بأن هذه المنشورات مزدوجة اللغة عاجزة عن تبرير ذاتها، إذ يبدو أنها لا تحدد بالضبط من تتوجه إليه. فإذا كان قارئها لا يحسن اللغة–الأصل فهو سيكتفي بالترجمة، وان كان في استطاعته قراءة النص في لغته فقد يكون في غنى عن كل ترجمة.
إلا أن هذا الاعتراض لن يكون مقنعا إلا لمن يتسرع في البت في طبيعة العلاقة التي تربط النص بترجمته، أو ترجماته على الأصح، وهي على ما يبدو علاقة ألفة، أو علاقة وفاء، رغم ما يقال عن الترجمة من عدم وفاء. فان كانت الترجمة تتمسك بهذا التساكن مع «نسختها» الأصلية، فلأن هناك حنينا لا ينفك عند النسخة لأن تعود إلى أصلها وترى نفسها في مرآته. ذلك أن ما يطبع النسخة هو إحساسها الملازم أنها لم تف الأصل حقه. بهذا المعنى فكل ترجمة، مهما كانت قيمتها، فهي دوما استشكالية. ربما لأجل ذلك يصر بنيامين في «مهمة المترجم»(1)، وفي غير ما مناسبة، على التشديد على أن الترجمة لا تغني عن الأصل. لا يعني ذلك أنها تظل دوما دونه، وإنما أنها لا يمكن أن تكون من دونه. إنها ما تفتأ تعلق به.
في «أبراج بابل»(2) يتوقف جاك دريدا طويلا عند معاني عنوان تمهيد فالتر بنيامين la tâche du traducteur الذي تسرعت منذ قليل بنقله إلى عبارة «مهمة المترجم» يقول: «إن هذا العنوان يشير ابتداء من لفظه الأول la tâche إلى المهمة التي أناطنا الآخر بها، كما يشير إلى الالتزام والواجب والديْن والمسؤولية.. إن المترجم مدين…ومهمته أن يسدد ما في عهدته». إلا أن دريدا سرعان ما يدقق عبارته لينزع عن المسؤولية كل طابع أخلاقي فيؤكد أن المدين في هذه الحالة ليس هو المترجم. فالديْن لا يلزم المترجم إزاء المؤلف، وإنما نصا إزاء آخر، ولغة أمام أخرى. لكن من الذي يدين للآخر، أو على الأصح ما الذي يدين للآخر؟
سيجيب بادئ الرأي من غير تردد كعادته أن الأبناء مدينون لآبائهم، والفروع لأصولها، والترجمات للنص الأصلي. بادئ الرأي يأبى أن تكون النسخة في وضع من يسدي المعروف. انه يصر ألا يراها إلا مدينة محتاجة، إلا دون الأصل متوقفة عليه. بادئ الرأي يقدس الأصول. ولكن بما أن النص يطلب ترجمته ويحن إليها، ومن ثمة فهو أيضا مدين لترجماته، ذلك أنه، كما يقول دريدا:
L’original est le premier débiteur, le premier demandeur, il commence par manquer — et par pleurer après la traduction.
« إن الأصل هو أول مدين، أول مطالب، انه يأخذ في التعبير عن حاجته إلى الترجمة وفي التباكي من أجلها». (3)
إنها إذن رغبة في الخروج، وسيقول بنيامين رغبة في الحياة، في النمو والتزايد، رغبة في البقاء survie: فكما لو أن النص يشيخ في لغته فيشتاق إلى أن يرحل ويهاجر ويُكتب من جديد، ويتلبس لغة أخرى، وكما لو أن كل لغة تصاب في عزلتها واكتفائها بذاتها وانطوائها عليها، تصاب بنوع من الضمور، وتظل ضعيفة مشلولة الحركة، متوقفة عن النمو. «بفضل الترجمة، يكتب دريدا،أعني بفضل هذا التكامل اللغوي الذي تزود عن طريقه لغة الأخرى بما يعوزها، وهي تزودها به بكيفية متناسقة، فان من شأن هذا الالتقاء croisement، من شأن هذا التلاقي بين اللغات أن يضمن نمو اللغات وتزايدها».
لا يعمل دريدا في هذا المقطع إلا على توضيح رأي بنيامين الذي يؤكد هو كذلك أن أي نص « يفصح عن حنينه إلى ما يتمم لغته ويكمل نقصها. لذا فالترجمة الحق شفافة لا تحجب الأصل»(4)، إنها تستدعيه وتصبو إليه كل لحظة. ورغم ذلك فهي التي تسمح للنص بأن يبقى وينمو. بيد أن النمو لا يكون كذلك ما لم يكن تجددا وارتقاء.
كتب دريدا في رسالة إلى صديق ياباني شارحا له صعوبات نقل لفظ déconstruction إلى لغة أخرى:» إنني لا أرى في الترجمة حدثا ثانويا أو متفرعا بالقياس إلى لغة أصيلة أو نص أصلي. وكما جئت على قوله منذ وهلة، فان déconstruction هي مفردة قابلة أساسا للإبدال بكلمة أخرى في سلسلة من البدائل. ويمكن أن يتحقق هذا بين لغة وأخرى أيضا. سيتمثل حظ الـ«تفكيك» في أن تتوفر اليابانية على مفردة أخرى ( هي نفسها وسواها) للتعبير عن الشيء نفسه (نفسه وسواه)، للكلام على التفكيك واجتذابه إلى محلات أخرى، وكتابته وخطه في كلمة تكون أجمل أيضا. عندما أتحدث عن كتابة الآخر هذه، التي قد تكون أجمل، فأنا أفهم الترجمة، بدهيا، باعتبارها مجازفة القصيدة وفرصتها» (5). يصر دريدا هنا على التمييز بين الأصل والترجمة من جهة، وبين الأساسي والثانوي من جهة أخرى، فليست علاقة الأصل بالترجمة علاقة أساسي بثانوي، ولا هي حتى علاقة فرع بأصل. كما أن الترجمات أو ما يدعوه دريدا هنا كتابة الآخر، ليست بالضرورة تدهورا وسقطة تبتعد فيها النسخ عن أصولها. إنها اغتناء يحمل المعنى وسواه، بل إنها مجازفة تجتذب المعاني نحو محلات أخرى، وقد تسفر عما لم يكن في الحسبان. لذا يستخلص في مكان آخر : «إن العمل لا يعيش مدة أطول بفضل ترجماته، بل مدة أطول، وفي حلة أحسن mieux ، انه يحيا فوق مستوى مؤلفه» au-dessus des moyens de son auteur (6). بفضل الترجمات إذن فان النص لا يبقى ويدوم فحسب، لا ينمو ويتزايد فحسب، وإنما يبقى ويرقى sur-vit.
كيف نفهم هذا الرقيّ، هذا الارتقاء؟ غنيّ عن البيان أن الأمر لا يتعلق، ولا يمكن أن يتعلق بارتقاء قيميّ بمقتضاه تكون الترجمات أكثر من أصولها جودة وأرقى قيمة أدبية وأعمق بعدا فكريا. المقصود بطبيعة الحال بعبارة au dessus des moyens : فوق طاقة المؤلف. المعنى نفسه يعبر عنه أ. ايكو في حديثه عما كان يخالجه عندما يقرأ نصوصه مترجمة. يقول(7):
« Je sentais comment, au contact d’une autre langue, le texte exhibe des potentialités interprétatives restées ignorées de moi, et comment la traduction pouvait parfois l’améliorer »
« كنت أشعر أن النص يكشف، في حضن لغة أخرى، عن طاقات تأويلية ظلت غائبة عني، كما كنت أشعر أن بإمكان الترجمة أن ترقى به في بعض الأحيان»
لعل أهم ما في اعتراف ايكو هو حديثه عن الطاقات التأويلية التي ينطوي عليها النص والتي تظل غائبة عن صاحبه مغمورة في لغته والتي لا تنكشف إلا في حضن لغة أخرى، ولا تظهر إلا إذا كتبت من جديد. ربما كان هذا هو المعنى ذاته الذي مر معنا حينما قلنا إن النص عندما ينقل إلى اللغات الأخرى فانه يحيا «فوق مستوى مؤلفه». فوق مستواه يعني أساسا خارج رقابته وخارج سلطته autorité من حيث هو مؤلف وauteur . فوق مستواه يعني أنه لا يملك أمامه حيلة. ذلك أن المؤلف سرعان ما يتبين عند كل ترجمة انه عاجز عن بسط سلطته على النص لحصر معانيه وضبطها، والتحكم في المتلقي مهما تنوعت مشاربه اللغوية والثقافية. فالترجمة ترسّب بقايا تنفلت من كل رقابة شعورية، وتجعل المعاني في اختلاف عن ذاتها، لا تحضر إلا مبتعدة عنها مباينة لها، خصوصا عندما تكون مرغمة على التنقل بين الأحقاب والتجوّل بين اللغات. انها تجعل الأصل في ابتعاد عن ذاته يهاجر موطنه الأصلي ومكانه المميز كي يعيش في نسخه، ويتغذى من حبرها حتى لا نقول من دمها.
على هذا النحو فان الترجمة لا تضمن حياة النص، أي نموه وتكاثره فحسب، بل تضمن حياة المعاني والأفكار. كتب هايدغر تقديما لإحدى ترجمات نصوصه إلى الفرنسية: «بفعل الترجمة يجد الفكر نفسه وقد تقمص روح لغة أخرى. وبذلك فهو يتعرض لتحول لا محيد عنه. إلا أن هذا التحول قد يغدو خصبا لأنه يبرز الطرح الأساس للسؤال في ضوء نور جديد»(8). هذا التحول المخصب، وهذا التقمص لروح لغة أخرى هو ما سماه دريدا الارتقاء، ولعله ما نعنيه عندما نقول على سبيل المثال ان فلاسفتنا قد نقلوا الى اللغة العربية حكمة الأقدمين، ولاشك أنه هو نفسه ما يعنيه مؤرخو الفلسفة المعاصرون حينما يرون في الفكر الفرنسي ترجمة للفلسفة الألمانية. بحيث يبدو لهم ما كتبه الفيلسوف الألماني في هذا التمهيد، الذي كتب سنة 1932 ، تنبأوا بما سيعرفه فكره في ترجماته الفرنسية، أقول الترجمات، لأن نصوص هايدغر ما فتئت تترجم وتعاد ترجمتها.
لكن، من الذي يُقدم على إعادة الترجمة؟ انه ، ولا شك، ذاك الذي درس الأصل، واطلع على ترجماته، وتبين أن «السؤال يمكن أن يطرح في ضوء نور جديد»، وأن النص المترجم ينطوي على «طاقات تأويلية» غابت عن المترجمين السابقين، بل غابت عن المؤلف نفسه. فلولا الإطلاع على الترجمات رغم معرفة الأصل، لما كانت هناك إعادة ترجمة.
ها نحن نرى أنه إن كانت الترجمات تعلق بالأصل ولا تقدر أن تحيا من دونه، فلأنه هو أيضا في أمس الحاجة إليها. ان الأصول في حاجة الى النسخ حاجة هاته اليها. هذه العلاقة المتبادلة، هذه الحاجة المتبادلة لا بد وأن تجرنا، شئنا أم أبينا، إلى العودة إلى الأصل حينما نكون في الترجمات، والى الخروج إلى الترجمات حينما نكون في النص. فكما لو أن المعاني هي في حركة الانتقال trans-lation ، وفي لعبة الاختلاف بين النصوص وبين اللغات. هذا ربما هو ما قد يجعل اللجوء إلى الترجمات، وقراءة النص في غير لغته أمرا « يفوق» قراءته في أصله.
على هذا النحو تبدو المنشورات مزدوجة اللغة، لا نشرا للنص ولا نشرا لترجمته، وإنما نشرا لحركة انتقال لا تنتهي بين» أصل» ونسخ. فهي إذن لا تتوجه نحو قارئ لا يحسن اللغة الأصل، ولا نحو ذاك الذي يجهلها، وإنما نحو قارئ يفترض فيه لا أقول إتقان، وإنما على الأقل استعمال لغتين يكون مدعوا لأن يقرأ النص بينهما، قارئ لا ينشغل بمدى تطابق النسخة مع الأصل، وإنما قارئ مهموم بإذكاء حدة الاختلاف حتى بين ما بدا متطابقا، قارئ غير مولع بخلق القرابة، وإنما بتكريس الغرابة، قارئ يبذل جهده لأن يولّد نصا ثالثا بعقد قران بين النصين وبين اللغتين.
لعل هذا الولع بتوليد الإشكالات، وإحداث البون، هو الذي جعل جميع من حاورناهم الآن لا يكتفون بالتأكيد، على غرار بنيامين، أن النسخة لا تستغني عن أصلها، وإنما أن الأصل ذاته لا يُغني عن ترجماته. إنهم لا يكتفون بالتأكيد أن كل كتابة في لغة أخرى تحن إلى الكتابة الأولى، وإنما أن كل كتابة تتجدد في غربتها وبغربتها. كل كتابة في لغة أخرى هي كتابة ثانية، إنها كتابة أخرى. في هذا المعنى كتب امبرتو ايكو : «عندما أقرأ ترجمة شاعر كبير لقصيدة شاعر كبير آخر، فلأنني أعرف الأصل وأريد أن أعرف كيف آلت القصيدة عند الشاعر المترجِم» (9). أو لنقل نحن بلغة دريدا: لأنني أعرف الأصل، وأريد أن أعرف كيف ارتقى.
الهوامش
(1). Benjamin (w), « la tâche du traducteur », in œuvres , Gallimard , « Folio »
(2). Derrida (j), « Des tours de Babel », in Psyché- Inventions de l’autre,
éd.Galilée, Paris ,1987,p211.
(3) ibid,p213.
(4) . La tâche…op cité,p257.
(5). Derrida, « Lettre à un ami japonais, in Psyché- Inventions de l’autre, Galilée, 1987.
الترجمة مأخوذة عن ج. دريدا، الكتابة والاختلاف، ت. كاظم جهاد، دار توبقال، 1989
(6) .Derrida, Psyché…,op cité, p214.
(7). Eco (U), Dire presque la même chose, Expériences de traduction, Grasset,Tr française,2006,p14.
(8) . Heidegger (M), QuestionsI etII, Tel, 1990,p10.
(9) .Eco, op cité.
عبد السلام بنعبد العالي
مفكر من المغرب