القصد من وراء اختيار هذا النص طبيعة النص ذاته, فهو نص مفتوح على أسئلة متناسلة, منها ما يمس محور هذه المداخلة, ومنها ما يثير أسئلة جذرية انسحبت على خصوصية النص الروائي, أو خصوصية الكتابة السردية عامة, فضلا عن خصوصية التجربة الفلسطينية والعربية في مواجهة حضارية تلخصها مقولة »هاملت« الشهيرة: (أكون أو لا أكون), وفعل الكينونة هنا هو الوجود الدال على هويتي الحضارية, في تفاعلاتها مع (الآخر) دون مسخ أو تشويه, ودون تعصب أو تضخم مرضي.
هذه الأسئلة, وغيرها, تمت صياغتها, سرديا, في هذا النص المتميز في التجربة السردية- الروائية خاصة- العربية الحديثة والمعاصرة.
»إخطية« عنوان يحتاج الى وقفة متأنية. والعناوين عند إميل حبيبي تحتاج إلى دراسة مستقلة, وتكفي الاشارة الى »سداسية الأيام الستة« الصادرة بعد هزيمة 1967, والتي تم من خلالها توظيف حرب الأيام الستة من خلال أضلاع وزوايا النجمة السداسية للعدو الصهيوني, أما »المتشائل«, فهي تركيب للتشاؤم والتفاؤل من خلال الشخصية المركزية (أبوسعيد) التي أصبحت- وهي ذات التاريخ العربي العريق- على هوية جديدة- أصبحت شخصية اسرائيلية بالرغم عنها, فهل تتشاءم أم تتفاءل? وفي ؛سرايا بنت الغول« يقدم لنا خرافة ؛لونجة« بطبعة فلسطينية.
وجدير بالذكر أن هذه العناوين تظل مشدودة الى تجنيس مميز قصده الكاتب قصدا من خلال العناوين الفرعية, فـ»سرايا بنت الغول« هي خرافية, أولا ورواية ثانيا حسب هذا الترتيب القصدي, أو قد, من جهة أخرى, يمتنع قصدا, عن تجنيس نصوصه كما هو الشأن في نصه هذا, نص »أخطية«.
ما دلالة العنوان? لا يجب أن نذهب بعيدا في التأويل من خارج النص, بل إن السارد, في هذا العمل يكفينا شر السؤال, مقدما لنا دلالة الاسم داخل النص, أي يصبح صوتا سرديا قبل أن يكون اسما منتسبا الى حقل اسم العلم المرجعي علما بأن هذا الاسم- اسم العلم- الذي يحمله النص يحتاج الى تفكيك معجمي يضيء دلالات الاسم وأبعاده السردية والفكرية.
إخطية: من خطأ./ الخطأ والخطاء: ضد الصواب/ أخطأ نوؤه: إذا طلب حاجته فلم ينجح ولم يصب شيئا/ الخطاة: أرض يخطئها المطر ويصيب أخرى قربها/ خطئ الرجل يخطأ خطأ وخطأة على فعلة: أذنب/ والخطأ ما لم يتعمد, والخطء ما تعمد/ الخطيئة: الذنب على عمد/ الخطء: الذنب في قوله تعالى: »إن قتلهم كان خطأ كبيرا«, أي إثما, وقال تعالى: »إنا كنا خاطئين« أي آثمين/ وقولهم: ما أخطأه! إنما هو تعجب من خطئ لا من أخطأ… الخ.(1)
يقوم النص على حدث مركزي هو كالتالي: اضطراب حركة السير عند عمود ضوئي بسبب ظهور شخص غريب عن المكان, غريب بهيئته (ملثم بكوفية), فأشاع الفوضى والخوف في هذا الفضاء الذي أصبح شبيها بالجسد المصاب- كما عنون بذلك السارد أحد اقسام نصه- ب-(جلطة) توقفت فيها حركة السير, وتعبأت, بسببها, كل مكونات ؛الكيان الصهيوني« وتنوعت التأويلات بين ارجاع هذا الشخص الى الصحون الطائرة, أو من جهة ثانية, ربطه بالوهم والاستيهام, أو غيرها من التأويلات التي أجمعت على غرابة الشخص والحدث واللحظة, دون نسيان تعطل اشارات المرور التي غابت عن الكثيرين بسبب الهاجس الأمني المتحكم في كل حركة أو نأمة.
حدث بسيط قد لا يتجاوز زمنا لحظيا محددا, غير أنه يكون سببا في تفجير العديد من المواقف في الماضي والحاضر, سببا في استدعاء التاريخ, تاريخ فلسطين, العملي والوطني والجهوي والانساني, يكون سببا في تحويل هذه اللحظة الى سرد يقوم على (التداعي) والاستذكار لهذا التاريخ, من خلال استحضار لحظات القوة ولحظات الضعف أيضا, الى حد تحويل النص الى سرد أولا وبحث في هذا السرد ثانيا, وإذا كانت (الرواية البحث) من أهم منجزات الرواية التجريبية (الحداثية) في أوروبا (Grillet/Butor) الخ فان إميل حبيبي- وهذا مربط الفرس- يقدم لنا تجربة في الرواية- البحث من عمق التراث السردي, قبل أن يلجأ الى دعامة- دون الغاء عنصر التفاعل الذي لا مناص منه- حداثية اسقاطية, لم يتردد في السخرية منها داخل نصوصه, معتبرا هؤلاء مجرد مساكين يستحقون الرثاء »فيما يتظاهرون به من معاصرة, شأنهم شأن المقطوع من شجرة, أو الذي نسي قديمه فأضاع جديده«.(2)
الحدث المركزي, إذن, في الرواية هو جلطة توقف فيها السير, سير التاريخ قبل أن يتوقف سير السيارات! وإذا كان السارد قد روى لنا ما جرى في تلك اللحظات من حالة استنفار للعدو بحثا عن الرجل الملثم, فإن السارد, وهو قابع في سيارته منتظرا نهاية هذه الميلودراما, في هذه الأثناء ترك لنفسه العنان الى أن حلت المفاجأة المجسدة في امرأة ممزقة الملابس, تحمل طفلة صغيرة وتهرول وسط السيارات المتوقفة, لم يكن الوجه غريبا عنه, إنها هي.. اخطية, إخطية, التي مازالت كما هي, ملامحها لم تتغير, كبروا وظلت هي هي بالرغم من وجودها في هذا الوضع الملتبس, وفي هذه الأثناء غادر السارد سيارته المشلولة مطاردا ؛إخطية« التي اختفت في الزحام.
هكذا يمكننا أن نطلق على الرواية عنوانا موازيا هو: البحث عن إخطية, مما يبرر اطلاقنا على هذا النص: الرواية- البحث. كيف تم انجاز »البرنامج السردي» في هذا النص?
يخضع هذا »البرنامج السردي« لرؤية سردية تقوم على المكونات التالية:
1 – المكون »الأوتوبيوجرافي« الذي لا يكتفي فيه السارد باستخدام ضمير المتكلم, بل يستخدم هذا الضمير من خلال التماهي مع شخصية الشاطر- وهي متجذرة في التراث العربي والانساني- الذي يتوزع بين سفور الشنفرى وقناع أبي الفتح الاسكندري, بين طرائف »أشعب«, وذكاء أبي دلامة وسخرية أبي الشمقمق, بين علي الزيبق وحمزة البهلوان (العرب) بين جحا وأبوزيد الهلالي, فتيان العرب في زمن العرب المتجدد في هذا النص الذي تقمص فيه السارد مواقف هذه الشخصيات محولا وجودها التاريخي الى وجود حي, لا يتردد فيه السارد بالتصريح بانتمائه الى هذا المعسكر, معسكر العيارين مستشهدا بأحد شعرائهم في البيت الشهير:
ويقول الفتى إذا طعن الطعـ
ـنة خذها من العيار (3)
والتماهي بهذه الشخصيات يقوم على توظيف موقفهم الحكائي, بل إنهم يتحولون الى محكيات صغرى تسهم في بناء المحكي الأكبر, محكي البحث عن ؛إخطية«, إنه سرد ينبع من صلب الحكاية قبل أن يكون مجرد اقتباس أو توظيف ساذج.
2 – والمرجعية السردية عند السارد تدور في هذا الفلك, ومن ثم , فانه لا يتردد في التصريح بأسلافه في السرد, فهو, أحيانا, الجاحظ الثالث, وأحيانا أخرى »المسعودي« الذي »كان, رحمه الله, شديد الملاحظة, مهتما بالتفاصيل, دقيقا في وصف العمران والخراب, وتحديد العمار والعقاب وملاحقة المنابت والمصائر«(4) وبجانب هذين المرجعين انتشرت أسماء الشعراء والناثرين على اختلاف مدارسهم واتجاهاتهم, يفتتح الروائي نصه بالأبيات الرائعة للمتنبي التي مطلعها:
لك يا منازل في القلوب منازل
أقفرت أنت وهن منك أواهل
وينتهي هذا النص بالأبيات المؤثرة لـ»عمرو بن معد يكرب« والتي من بينها:
ذهب الذين أحبهم
وبقيت مثل السيف فردا
وعلى امتداد هذين الاسمين انتشرت أسماء العديد من الشعراء مشكلين سياقات ومواقف خرجت من جبة السرد والسارد (ابونواس/ ذو الرمة/ شعراء مجهولون).
وبين الجاحظ والمسعودي برزت أسماء المؤرخين (الطبري) والرحالين والكتاب والاخباريين والخطباء, فضلا عن النصوص الدينية والاسلامية والعبرية, وتراث ألف ليلة وليلة وأرشيفات التاريخ القديم والحديث, والخرائط الطبوغرافية لتحول الفضاءات وأسماء الأماكن… الخ.
إنها مرجعية سردية غنية بل مترعة بالعديد من الحكايات والأساطير والطرائف والنوادر.
3 – غير أن هذه المرجعية – وهذا هو سر جمالية هذه الرواية أو هذا النص- السردية الغنية لا تبقى حبيسة التاريخ, وبالتالي ليست مجرد تضمين أو اقتباس- مهما بلغ اتقانه- بل تصبح هذه المرجعية السردية المنتسبة الى الماضي لغة يومية أو واقعا معيشا.
وهذا ما يدفعني الى تبني مقولة »لوكاتش« الشهيرة حول »الرواية التاريخية« التي مثلت, بالنسبة الينا, في نماذجها الدالة, لحظة ما أسماه ب-؛الايقاظ الشعري للناس الذين برزوا في تلك الأحداث, وما يهم هو أن نعيش مرة أخرى الدوافع الاجتماعية والانسانية التي أدت إلى أن يفكروا وأن يشعروا ويتصرفوا… «.(5)
4 – و»إخطية« هي هذا المعيش الذي يحول المحكي التاريخي الى محكي يومي انطلاقا من الأصول الأولى للطبراني (6) الى آخر نبتة من برتقال »اليوسفي« الشهير بـ»فلسطين«, كيف يتم هذا التحويل من ؛التاريخي« الى اليومي? الاجابة عن هذا السؤال تتلخص في الوسائط التالية:
أ – تحويل الشاطر ذي المرجعية التراثية الى شاطر ينتسب الى واقع فلسطين, واقع النفي والهزيمة والتقتيل اليومي, هكذا تم الزج بين المتمرد التراثي والعامل »عطية« المنضم الى »البروليتاريا« المنظمة. وتم في نفس السياق تحويل صحائف الأولين الى صحف النضال اليومي مثل جريدة »الاتحاد« لسان الحزب الشيوعي الفلسطيني, كجريدة علنية, أو من خلال جريدته السرية »نضال الشعب«.(7)
فهذا الشاطر يحمل, طبعا, القليل أو الكثير من شخصية السارد المتماهية – كما سبقت الاشارة- مع كل مهمشي ومتمردي التاريخ العربي والانساني الى اللحظة الحالية, إلى حاضر الرواية.
ب – وقد دعم هذا التوجه اليومي انفتاح الزمن الروائي الذي ألغى فواصل الزمن عن طريق خلق اللحظات المضمخة بحمولات نفسية وسردية وإيديولوجية فالسارد لا يكل من الانتقال عبر الأزمة المغرقة في القدم, والأزمنة الحديثة والمعاصرة مقدما الموقف الدال أو الحدث المؤثر أحيانا, أو أحيانا أخرى, يقدم لنا المزيج الممتع بين الحميمي والموضوعي.
الزمن هو زمن البحث عن »إخطية«, سواء تعلق الأمر بأسفار التاريخ, أو تعلق ذلك بسجون العدو ومعتقلاته الحالية, بحث دائم, سواء تعلق بالأسطورة أو الخرافة, أو تعلق الأمر بالجيران الأقربين الذين كانوا يسكنون »حيفا«, الحنين الدائم الذي لم يغادره بتاتا دون أن يغادر »حيفا«.
واستثمار العجيب – والتراث مليء بكتب العجائب- والغريب يجعل مكونه الخارق في خدمة هذا اليومي, وكأن السارد يلح على الامكانات الخارقة لهذا الشعب في مواجهة المحتل, بل إن »إخطية« عجيبة من هذه العجائب, بحكم تحولاتها وتجلياتها في كل الأزمنة والأمكنة من هذا الوطن, وطن فلسطين, كما أن هذا الاستثمار يخفف من حدة »السياسي« أو الايديولوجي من ناحية, ويؤسس- من ناحية أخرى- مشاتل سردية تنمو, بانتظام, عبر حكاية السارد اثناء بحثه عن »إخطية«.
ج – ولو حاولنا الانتقال, في السياق ذاته, إلى الجانب الأجناسي لوجدنا أن ساردنا لا يكتب نصا تاريخيا, بل انه يقدم لنا, وهذا يؤكد على واقعية نصه, علما ولوكاتش لا يفرق بين الرواية التاريخية النموذجية والرواية الواقعية- نصا سرديا مفتوحا- كما سبقت الإشارة- على كل الاحتمالات والأسئلة الاجناسية.
) فهو نص لا يحمل هويته الأجناسية على ظهر الغلاف, في حين نجد هذا التجنيس في احدى الصفحات الداخلية تحت عنوان دال: احتراس يحذر فيه من مغبة القراءة التي تطابق بين ما في النص وما في الواقع.
) ويكشف الكاتب عن أسباب التأليف التي تدور حول الرغبة في أن يبقى حاملا لحنينه الى وطنه (حيفا) داخل هذا الوطن, وهنا الاشكالية الأساسية, لأن الحنين عادة يكون للمغترب, في حين نجد كاتبنا يحاول أن يحافظ على طبيعة هذا الحنين دون تزييف أو تغيير, فالنص, إذن, هو استرجاع- من جهة- لصورة الوطن, واستنباتها- كما يجب أن تكون- من جهة ثانية.
) وبالرغم من هذه الاشارة إلى روائية النص, فان معماريته تقوم على دفاتر ثلاثة, وكل دفتر من هذه الدفاتر يحمل عتبته أو نصه الموازي الدال:
الدفتر الأول يحمل عنوان (شخوص) مذيلا بفقرة من مروج الذهب (المسعودي) حول أيام »المعتضد« العباسي وحكايته مع الشخص الغريب الذي كان يظهر له في منزله بصور مختلفة بالرغم من اقفال الأبواب والبيوت.
والدفتر الثاني معنونه بـ»إخطية« مذيل ببيت لـ»نصر بن يسار« من جهة, وقولة لـ»ماسيلاس« من جهة ثانية.
أما الدفتر الثالث, فعنوانه »وادي عبقر« مذيل ببيتين لـ»عمرو بن معديكرب«.
ان هذا التبويب للنص يدفعنا الى الوقوف قليلا عند دلالة الدفتر عوض الفصل او القسم, أو الاكتفاء بالرقم على سبيل المثال.
استعمال (الدفتر) يؤكد على ما سبقت الاشارة اليه من تجذر النص في الحكاية اليومية, فالدفتر أقرب الى العفوية (دفاتر التلاميذ), أقرب الى البراءة, وهو بالإضافة الى هذا وذاك, الفضاء الأول للحميمية, الصفحات الأولى للحب والرغبة والطموح الى التأدب, الدفتر يختلف عن المذكرة واليوميات, وهو يختلف عن السيرة, بالرغم من توظيف لعناصر »أتوبيوغرافية«, ويختلف عن الاعترافات كذلك بالرغم من استعماله للبوح والهمس أحيانا, والصراخ أحيانا أخرى, يختلف عن كل ذلك في كونه- وهذا ما يجمع الأنماط الثلاثة السابقة- لا يخضع لتخطيط مسبق, بل هو وليد هذه الرغبة في الحكي دون رقابة أو حواجز أو – من ناحية ثانية- السير على نموذج مسبق في الكتابة.
ولذلك كانت هذه الدفاتر بمثابة تسجيل حكائي لـ»إخطية« في الذاكرة والوجدان, في التاريخ والأسطورة, لدى المنفي والمقيم, الطفل والشيخ, الحجر والشجر, المهاجر والعائد..
الدفاتر هي محاولة للحفاظ على هذه الذاكرة خوفا من التشويه والضياع, تشويه الذكرى وضياع الدليل, ضياع »إخطية«.
د – وكان من الطبيعي أن يجسد هذا المعمار الثلاثي- الدفاتر الثلاثة- مستويات أخرى من الحكاية, تلك هي مستويات المعجم السردي الذي كان يقود عملية التأليف أو الحكي عبر الوسائط التالية:
– السجالية التي كانت وراء الاثبات والدحض والتأويل. فالمعرفة, معرفة شرعية وجود إخطية تتجاوز إخطية ذاتها. ومن ثم فإثبات هذه الشرعية هو إثبات لشرعية الوجود ذاته. فلم تعد »إخطية« شخصية من شخصيات الرواية او النص, بل أصبحت قضية الوجود أو عدم الوجود كما سيتضح لنا لاحقا.
– والسجالية استوحاها السارد من أسلافه, من تراثه الذي يتنفسه يوميا دون أن يكون واجهة متحفية, يقول عن »المسعودي«- مثلا- »وهذه الدقة تعلمتها من المسعودي«.(8), وبامكان القارئ أن يرجع الى صفحات عديدة من النص, وان لم يكن النص برمته, القائم على هذه السجالية المستوحاة من كتابات الأولين المعاصرين.
– السخرية العالية التي تظل مشدودة إلى الطابع السجالي, سخرية تسفه الأطروحات السائدة عند العدو ومن يدور في فلكه من عسكريين ومستشرقين واصحاب النوايا السيئة, وقصيري النظر وجاهلين ومتجاهلين… الخ, والسخرية عند السارد تقوم على الآتي:
) السخرية المستوحاة من المسرود التراثي بحكاياته الغنية وشخصياته المتجددة (ظهور الأحابيش السود أيام المسعودي, وظهورهم لحظة جلطة المواصلات).
) السخرية القائمة على المفارقة اللفظية, والنص يمتلئ بمعجم خصب لهذه المفارقات اللفظية التي تحتاج الى حصر خاص لمتابعة حالات التصحيف والمزج والاختصار, غير أنه تجب الاشارة الى أن المفارقة اللفظية تخص حالتين:
1 – حالة اللغة العبرية بهدف تسفيه الأطروحات الصهيونية وحلفائها, مثلا العلاقة بين الشلباك والسافاك.. بل ان ساردنا لا يتردد في التعليق الساخر على هذه العلاقة بقوله: »ويختلف المستشرقون هنا أيضا, على حق البكورة: هل هو للبيضة أم للدجاجة«.(9) كما انه لا يتردد في تفسير او تأويل بعض الجمل أو الأسماء المنحوتة مثل »أم كور« مبرزا أن »كور« تظل مبهمة. فهي إما دلالة على »كوربوريشن« أي شركة, أو انها من »كور« العبرية »التي تعني البرد, فيصبح اسم الشركة (الأمريكي البارد) وهو جائز اجتزاء كما قيل لي, والله أعلم«.(10)
2 – حالة اللغة العربية التي تقوم فيها المفارقة اللفظية على الانتصار لهذه اللغة وابراز معدنها الغني سواء على مستوى الحوار اليومي أو الصورة الأدبية, في الشعر والنثر والمثل المتوارث والبلاغة اليومية. وتكفي الاشارة الى بحثه- وهو لا يتردد في الرجوع الى القواميس والمعاجم العربية الشهيرة- حول عنوان هذه الرواية في صفحات مختلفة مترسما في ذلك أساليب عديدة ابتدعها النحويون والبلاغيون والشعراء من نحت وقلب وافتراض واهتدام ومعارضة أو تناص, كما يطلق عليه الآن, في سياق حوار متفاعل بين الانساق والمصطلحات والأساليب والصيغ والمحكيات.
إن عنصر السخرية بمفارقاته اللفظية من جهة, أو بأحداثه المروية على لسان السارد بعد أن- من جهة ثانية- استدعاها من تراثه, أو من خلال المواقف التي وجد نفسه- من جهة ثالثة- فيها من خلال مآزق مبكية مضحكة, أقول بأن هذه المواقف شكلت »باروديا« ساخرة تتوزع بين الهجاء أحيانا, ورص المستملحات أحيانا أخرى, في سياق الدفاع عن (الذات) ومواجهة الآخر في آن واحد. ألم يقل »لوكاتش« في كتابه المعنون بـ»نظرية الرواية« إن السخرية محاولة لتجاوز »تعاستنا الحاضرة«. السخرية نوع من التسامي لمعرفة الواقع أولا, وتجاوزه ثانيا.
والسارد يقدم لنا الكثير من المواقف الساخرة التي قد تعكس لحظات دالة تكشف عن رغبة في نقد الذهنيات السائدة, فيها الذهنيات التراثية سواء تعلق الأمر بـ»الأنا« أو بـ»الآخر«, »فمسكين الدرامي«, لم يكن مسكينا- كما جاء في بعض النصوص, بل كان ساكن الجأش مؤمنا بحرية مسكنه حين قال:
إذا هي لم تحصن أمام قبابها
فليس بمنجيها بنائي لها قصرا (11)
أما سخريته من »الآخر« فهو يصوغها في شكل معارضة ساخرة بين »الخمار الأسود« و»حزام العفة«:
قل للمليحة في الخمار الأسود
ماذا فعلت بناسك متعبد
قد كان شمر للصلاة ثيابه
حتى وقفت له بباب المسجد
أما شاعرهم فيقول:
قل للمليحة في حزام العفة
ماذا فعلت بناسك متعبد
قد كان أرخى للصلاة ثيابه
حتى شمرت له بباب المعبد? (12)
من هي »إخطية« إذن? الاجابة المؤقتة عن هذا السؤال تعود الى النص ذاته. فالسارد قد قدم لنا العديد من المؤشرات دارت أساسا حول الخطأ والخطيئة مع التفريق بين الخطأ (وهو العمد) والخطء (ما يتعمد). من الذي أخطأ? فليتبوأ مقعده بالنار, أما الذي لم يفعل ذلك متعمدا, فإن المعنى بذلك: نحن جميعا. كلنا أخطأنا في حق »إخطية«. وبالرغم من عدم خضوع كلمة »إخطية« للاشتقاق القاموسي, بحكم خلوها منه نهائيا, فإنها تظل منتسبة الى مرجعيتها الأنثوية, هل هي امرأة? هل هي شخصية الرواية الأساسية? لماذا تحولت »إخطية« الى سروة (شجرة السرو العالية), الفتاة السمراء التي كان يتمناها الجميع? ما العلاقة بين السارد و»سروة« التي كانت الدليل الوحيد للوصول الى »إخطية? « لماذا تعرضت لذلك الحادث المأساوي بعد أن اقتربت من الوصول الى حقيقة »إخطية«, فسقطت من أعلى شجرة سرو- ويا للمصادفة الغريبة بين الاسم والشجرة على صخر بحري نقي »غسلها ماء الشلال منذ بدء الخليقة« (13) هل ماتت »سروة? «
هل انتهت »إخطية«?, لا أعتقد ذلك, فالسارد لم يتردد في القول بأن سروة بدت له مثل »راقصة حبشية في غلالة بيضاء في قصر الرشيد ببغداد, أحيانا, وأحيانا كأنها مارية القبطية. وكانت كليوباترة, وكانت خيالا, وكانت بعيدة المنال. كانت أشبه بما كانت تملأ قلوبنا شوقا اليه مما هو آت من أمور مدهشة.. وقعت سروة فوق صخرتها: راقصة سمراء في غلالة حمراء سيابة, سيابة.. وعادت الصخراء ملساء, عذراء, كما كانت منذ بدء الخليقة« (14), هل كانت »سروة« هي التي »تعرف قصر الغول دون غيرها كما عرفته »لونجة« في الأسطورة«. (15) هل هي حقيقة أم خيال? »إخطية عظم من عظامي ولحم من لحمي, أم تكون خرجت إليهم من صدري, كما خرجت »منيرفا« من اصبع »جبتير« لتهديهم الى المعرفة«. (16)
ها هو المكان الذي يشهد على »إخطية« من جديد, ولم تعد هذه الأخيرة ملكا للذاكرة, بل اصبحت بداية للخلق, والسارد يمارس بدون هوادة, في نصه, »طوبونيميا« جديدة لا يمل فيه من ارجاع الاسم الى أصله, والمسمى الى تاريخه, والكلمة الى لغتها.. فـ»فلسطين« ليست هي »ازرايل« (17), و»عباس« ليس هو »اباس« (18), وشارع الجبل »ليس هو شارع »الأمم المتحدة« (19).. ولو حدث هذا التغيير وقبله السارد ستصبح إخطية« فعلا خطيئة لن تلد ؛إلا سفاحا«.(20)
إن »إخطية« ليست خطيئة, بل نحن الذين جعلنا منها خطيئة, ولو لم نتعمد ذلك, علما أننا قد تعمدناه مرات عديدة وما علينا إلا أن نبحث عن الخطيئة الأولى والثانية.. إلى ما لا عد له ولا حصر من أخطاء ارتكبناها اتجاه »إخطية«. ما هي إخطية إذن? إنها هي البلاد التي تحمل جرحها السري النازف باستمرار, والتي لا يتردد كل من مر بها أن يقذفها بصفات ونعوت الخطيئة.. من المخطئ إذن? بل من يمثل هذه الخطيئة? ومن المؤكد أن »إخطية« لو كانت خطيئة لانتهت منذ أمد طويل, ولكن أن تبقى »إخطية« ويذهب الآخرون, فذلك هو الدليل على أننا نحن الذين نحمل الخطيئة ونعيد إنتاجها باستمرار ونخلعها على من نريد.
ينهي السارد الدفتر الثالث بتوزيع جديد لبيت »عمرو بن معديكرب«
(ذهب الذين أحبهم
وبقيت مثل السيف فردا
في فضاء النص
لعل الخلاصة المركزية المستخلصة من هذا النص المميز, تكمن في كونه يعد محاولة تأصيلية لردم الهوة بين السارد وتراثه, بين المتلقي وتراثه السردي. ومن ثم فـ»إميل حبيبي« لا يعتبر نفسه معاصرا يحاور تراثا, بل يعتبر نفسه ساردا يسرد كما يجب أن يسرد, وصوتا يتكلم لغته السردية كما يجب أن تكون, عاجلا أو آجلا, بغض النظر عن الزمن السارد, إذن بهذه المواصفات يصبح ساردا صالحا لكل الأزمنة.
في قصة »سرايا بنت الغول« يقدم لنا المؤلف في المقدمة هذه الرؤية البليغة التي جعلت من التراث شجرة إجاص يجب أن تثمر إجاصا »دون أن تثمر باذنجانا« (21)
الهوامش
1 – لسان العرب/ المجلد الأول من الألف الى الراء, ص854/ 855.
2 – الرواية: ص61.
3 – الرواية: ص61.
4 – الرواية : ص35.
5 – جورج لوكاتش: الرواية التاريخية/ ص46. (دار الرشيد/ العراق. 1980).
6 – الرواية: ص17.
7 – نفسه: ص:50 – 5.
8 – الرواية/ ص40.
9 – نفسه/ ص37.
01 – نفسه ص36.
11 – الرواية: ص62.
12 – نفسه: ص61.
13 – نفسه: ص48.
14 – نفسه.
15 – الرواية: ص83.
16 – نفسه: ص66.
17 – نفسه: ص65.
718- نفسه: ص73.
19 – نفسه: ص25.
20 – نفسه ص72.
21 – المقدمة/ ص15.
عبدالرحيم مؤذن كاتب وباحث من المغرب