تعيد "باب الشمس" (1) قراءة تاريخ فلسطين من خلال سرد حكاياتهم التي تتناسل من بعضها بعضا على طريقة "الف ليلة وليلة"، حكاية تطلع من حكاية الى أن نصل في النهاية الى لحظة التحام الراوي بمن يروي عنه وله، خصوصا أن الراوي في هذه الرواية الكبيرة هو جزء من الحكاية نفسها يروي للآخر ولنفسه وكأنه شهرزاد التي فيما هي تروي لشهريار حكاياتها الكثيرة التي تتوالد كل ليلة تتذكر حكايتها هي وتتساءل عن مصيرها الشخصي عندما تنتهي الحكايات وينتصب الموت المهدد في النهاية.
ينسج الياس خوري من كسر الحكايات الشخصية للفلسطينيين مادة روايته مقيما معمارا تتداخل فيه حكايات شخصياته وتتراكب ويضيء بعضها بعضا ويوضح البقع الغامضة في بعضها الآخر. واذا كانت الحكاية المركزية في الرواية هي حكاية يونس الأسدي، الرجل الذي يرقد في مستشفى الجليل فاقدا وعيه، فإن حكاية الراوي نفسه، أو حكايات أم حسن وعدنان أبو عودة ودنيا وأهالي مخيم شاتيلا، لا تقل مركزية عن تلك الحكاية الأساسية التي تشد الحكايات الأخرى الى بعضها بعضا، والتي يقوم الكاتب بتضمينها في جسد حكاية يونس الأسدي وتوزيعها على مدار النص للوصول في النهاية الى لحظة الموت وصعود الحكاية الى أعلى، والي سدة التاريخ المخادع الذي يهزم الكائنات.
تقوم رواية "باب الشمس" على واحدة من حكايات المتسللين الفلسطينيين، الذين كانوا يحاولون العودة الى فلسطين بعد ضياعها عام 1948 فقد شاعت في بداية الخمسينات ظاهرة العائدين خفية الى وطنهم بعد الطرد الأول. أعداد كبيرة ممن سئموا أيام المنفى الأولى كانوا يتسللون عبر الحدود والأسلاك الشائكة وخطر الموت لكي يعودوا الى قراهم المهدمة وبيوتهم التي سكنها آخرون، يهود وعرب، ليعودوا ويطردوا مرة أخرى أو يقتلوا على الحدود بين "اسرائيل" والدول العربية المحيطة. لكن حكاية رجل المقاومة المتسلل يونس الأسدي تتحول في الرواية الى حكاية عشق ورمز صمود وشكل من أشكال المقاومة الديموغرافية للوجود الصهيوني. وهكذا وعلى مدار ثلاثين عاما، وأكثر يذرع الأسدي الجبال والوديان بين لبنان والجليل الفلسطيني ليلتقي زوجته نهيلة في مغارة سماها "باب الشمس" وينجب من زوجته عددا كبيرا من الأولاد والبنات مبقيا صلة الوصل بين الفلسطيني اللاجيء والباقين على أرضهم. وإذ يحول الياس خوري حكاية المتسلل الى نموذج تاريخي، ثم يقوم بتصعيد هذه الحكاية لتكون مثالا ورمزا، تحضر الحكايات الأخرى التي يرويها الراوي (د. خليل) عن جدته وأبيه وأمه وعشيقته شمس، أو يرويها على لسان الآخرين معن صادفهم أو سمع عنهم من الفلسطينيين، لتعود الحكاية الرمزية من ثم الى أرضها الواقعية وزمانها الراهن.
تتجاذب رواية الياس خوري قوتان: قوة الترميز التاريخي من خلال حكاية أبي سالم الأسدي وزوجته نبيلة، وقوة الحكايات اليومية الأخرى التي تشدنا الى فجائعية الواقع وماساته وعنف التاريخ الذي كتب حكاية الفلسطينيين بحروف من دم. ومن هنا يتجادل التاريخي مع اليومي في عمل روائي يكثر من ذكر كلمة التاريخ على لسان الراوي الذي تتصفى من خلاله كل الحكايات.
"الوهم يعطينا شعورا بأن الحي يرث حيرات كل الآخرين. لذلك اخترعوا التاريخ. أنا لست مثقفا، لكني أعرف أن التاريخ خدعة كي يتوهم الإنسان أنه عاش منذ البداية، وأنه وريث الموتي". (ص 25)
"هذا هو التاريخ ستقول لي. لكني لم أعد معنيا بالتاريخ، حكايتي معك يا سيدي ليست محاولة لاستعادة التاريخ." (ص: 310).
يحاول الراوي الذي يستخدم دواء الحكاية ليوقظ يونس الأسدي من نومه الذاهب باتجاه أرض الموت، أرض الأبدية البيضاء بتعبير محمود درويش في قصيدته "جدارية"، أن يسائل مفهوم التاريخ عن تراجيديا الفلسطينيين المستمرة بسرد قصص لا تحصى عن الخروج الكبير عام 1948، عن حكايات اللاجئين خارج أرضهم، وعن ضحايا المجازر أثناء الخروج وبعده. وهكذا تطلع الحكايات المأساوية بعضها من بعض في عمل روائي يهدف الى إخبارنا عن عسف التاريخ وقسوته وعنفه وتنكيله بضحاياه. وعلى الرغم من تشديد الراوي على وهم التاريخ فإن الوقائع التي يسردها، والقصص التي يضمنها حكاية يونس الأسدي والتي تتوزع فصولها بين قصص الآخرين، تعيدنا على الدوام الى ملموسية التاريخ وحضوره الضاغط في رواية "باب الشمس".
إنها اذن رواية عن التاريخ، عن استعادته ومحاولة تراءته من خلال سرد القصص التي تحتشد في هذا العمل لتفيض من بين ثنايا الكلمات وتعيدنا الى كتاب التاريخ نفسه الذي استعان به الياس خوري كثيرا لكتابة "باب الشمس" (2). لقد وظف الكاتب الوقائع التي أوردتها كتب التاريخ والوثائق والحكايات التي سمعها من أفواه الفلسطينيين، الذين كانوا ضحايا التاريخ، ليدعم حكايته الرئيسية عن يونس الأسدي، العائد الذي عاد الى فلسطين ولم يعد، ولكنه استطاع أن يحضر من خلال زوجته وأبنائه الذين أنجبهم منها في رحلاته من لبنان الى مغارة باب الشمس. وبهذا المعنى تتحول حكاية يونس الأسدي التي لا تعدو أن تكون مجرد حكاية من بين حكايات كثيرة عن المتسللين الفلسطينيين. الى حكاية رمزية عن البقاء والصمود رغم المجازر والمذابح التي ارتكبتها الصهيونية بحق الفلسطينيين. إنها تعبير رمزي، محايث للتاريخ ومتجاوز له في آن، عن بقاء أكثر من ربع مليون فلسطيني بعد نكبة 1948 على أرضهم وتناسلهم ليصبحوا مليونا بعد حوالي نصف قرن من الزمان. فهل قصد الياس خوري الى التشديد على الصراع التاريخي، بين الفلسطينيين والاسرائيليين، الذي يرتكز بصورة أساسية على المسألة الديموغرافية؟ لا تحاول الرواية، في عادتها السر دية الكثيفة، أن تقدم اجابات على سؤال التاريخ ونهاياته، ولا تسعي الى فتح صفحتها الأخيرة على أفق المستقبل الذي يبدو غائما ملبدا بالشكوك زمن كتابة الرواية (3)، بل إنها تسعي، على النقيض من ذلك، الى تذويب سؤال التاريخ في ثنايا الحكايات. إنها مشغولة بفهم التاريخ وبإيجاد تفسير لما حدث من قبل، ويحدث الآن، عبر استعادة الحكايات، جميع أنواع الحكايات التي يسردها الراوي على مسامع يونس الذي لا يسمع في غيبوبته التي طالت وقادته الى أرض الموت في نهاية الحكاية. لكن هذه الحكاية لا تسعف الراوي في إدراك ما حدث والتوصل الى أسبابه. بهذا المعنى تبقى الحكايات مجرد بقع على جسد التاريخ لا تفسره ولا تجعل الراوي يدرك معنى الهزائم وتراجيديا عيش الفلسطينيين المستمرة ويمكن أن نؤول كلامه التالي الموجه الي يونس الفارق في غيبوبته، في هذا السياق:
"انا لم أكن مهتما بالحكاية، أنت تعتقد أنني بحثت وسألت كي أجمع حكايات الغابسية، وهذا غير صحيح يا سيدي الحكايات جاءتني دون أن أسعي اليها جدتي كانت تفرقني بالحكايات، كأنها لم تكن تفعل شيئا سوى الكلام. وأنا معها أتثاءب وأنام، والحكايات تطمرني. أشعر الآن أنني أزيح الحكايات من حولي كي أرى، فلا أرى سوى البقع، كأن حكايات تلك المرأة تشبه البقع الملونة التي تطفو حولي. لا أعرف قصة كاملة." (ص: 348).
يمثل الكلام السابق تعبيرا مختزلا شديد الايجاز عن الرواية كلها. إنها في الحقيقة طوفان من الحكايات التي تتقاطع فيما بينها لتقدم صورة غير مباشرة لتاريخ الفلسطينيين بعد النكبة. صحيح أن الياس خوري يختار أبناء الجليل ليقدم حكاياتهم، لقرب الجليل الفلسطيني من لبنان وتشابه اللهجات فيما بين أهل الجليل والشعب اللبناني، الا أن سلسلة الحكايات التي يرويها الراوي، على لسانه أومن خلال اتاحته الفرصة لعدد من الشخصيات الثانوية لتروي قصصها الشخصية، هي عينات تمثيلية من الحكاية الكبرى للفلسطينيين. هكذا سقطت فلسطين وتشرد أهلها، تقول "باب الشمس" من خلال قصص يرويها الراوي وشخصياته التي يروي عنها ولها، وهذه هي التراجيديا الفلسطينية التي يمثلها اللاعبون الفعليون على أرض المأساة وزمانها الواقعي. ومن هنا يبدو التاريخ، الذي يصفه الراوي خليل، بأنه مجرد وهم، أكثر ملموسية وخشونة. إن الحكايات هي التاريخ الفعلي، وحاصل جمع هذه الحكايات الصغيرة يساوي الحكاية الكبرى للجوء والهزيمة والموت.
ثمة موت كثير في رواية الياس خوري مما يطبعها بسوداوية غامرة يصعب نسيانها، ومن هنا عظمتها وقدرتها على اعادة النظرفي تاريخ المأساة الفلسطينية من وجهة نظر الحاضر الملعون المفتوح على زمان غامض ومجهول. وقد ساق الكاتب وصفا لعمليات الاعدام الجماعي التي نفذتها العصابات الصهيونية عام 1948 بحق أهالي بعض القرى الجليلية ليصل الى الموت التراجيدي لآلاف الفلسطينيين في مخيمي صبرا وشاتيلا على أيدي الجيش الإسرائيلي وقوات الكتائب. إن "باب الشمس"، على قدر ما هي رواية الحياة والصمود في وجه الموت، هي رواية الموت المجسد الذي يزلزل كيان القاريء ويدفعه الى استذكار الطقس العنيف للموت الفلسطيني. ثمة موت يذكر بالموت، ومجازر تتبعها مجازر، رغم الأمل الذي يمثله إصرار يونس الأسدي على نهب المسافات وعبور الخطر للوصول الى زوجته نهيلة وانجاب عدد كبير من الأبناء والبنات لتحقيق طقس التواصل بين الفلسطينيين على أرضهم وفي شتاتهم. لكن الياس خوري، اذ يشدد على أسطورية علاقة يونس بنهيلة وطقسية التواصل الروحي والجسدي بينهما، يخلص روايته من لغة الشعار السياسي. إن نبرة "باب الشمس" خفيضة ومنكسرة، فهي تحكي عن الهزيمة وانسداد الأفق، عن صعود المشروع الصهيوني ودخول المشروع الفلسطيني في نوبة من السبات، ولهذا فهي تنتهي، رغم اصرار خليل على انتشال يونس من غيبوبته، بالموت.
يستعير الياس خوري تقنية "باب الشمس" من رواية ايزابيل الليندي "باولا" حيث تقوم الأم بالحديث مع ابنتها الذاهبة في غيبوبة عميقة بفرض انتشالها من أرض الموت، وهوالأمرالذي يفعله الياس خوري في جعله الطبيب – الممرض خليل يحكي مع يونس المصاب بغيبوبة عميقة عله يعيده من أرض الموت كذلك. وبغض النظر عن أهمية استعارة التقنية فإن الكاتب لا يجعل من التقنية وسيلة للتعبير عن أثر علاج الغيبوبة بالكلام، أو التعبير عن الرغبة العارمة في منع الأحباب من الذهاب وتركنا وحيدين على هذه الأرض، بل انه يستخدم الحكاية وسيلة للم شتات الحكايات الكثيرة للفلسطينيين في زمان دخول مشروعهم الوطني ما يشبه الغيبوبة التي دخلها المناضل الفلسطيني يونس الأسدي. ان كاتب "باب الشمس" يجعل من سقوط يونس في بئر الغياب ترميزا للشرط التاريخي الراهن الذي تمر به القضية الفلسطينية. ومن ثم فإن التقنية لا تشكل جوهر الرواية، بل هي مجرد وسيلة لتغريب التعبير المباشر عن قضية الشعب الفلسطيني المشحونة بالسياسي والشعاري والايديولوجي، وهي عناصر كانت ستفقد "باب الشمس" شرطها الروائي لو أنها تسربت بصورة مفرطة الى شبكة الحكايات التي يقيمها الياس خوري في هذا العمل الروائي المركب. إن الكاتب يعيد تقطيع حكاية يونس الأسدي، الذي انتقل من "الجهاد المقدس" مع عبدالقادر الحسيني الى "كتائب الفداء العربي" الى حركة القوميين العرب الى قيادة اقليم لبنان في حركة فتح (ص:35)، علي مدار العمل بحيث لا تبدو "باب الشمس" مجرد حكاية رمزية عن رجل أصر على التواصل حتى مع أرضه التاريخية والرمزية. وقد سعى الياس خوري، لتحقيق ذلك،الي جعل تلك الحكاية شكلا من أشكال الحكاية الإطارية، التي نعثر عليها في "ألف ليلة وليلة" وتتناسل منها حكايات كثيرة تنشد اليها بحبل سري ويمكن تأويلها عبر اعادة ربطها بتلك الحكاية الإطارية. ان حكاية يونس الأسدي هي حكاية الشعب الفلسطيني الرمزية، لكن الحكايات الأخرى، التي يرويها د. خليل ليونس المستلقي على سرير مستشفى الجليل في مخيم شاتيلا، تعيد موضعة تلك الحكاية الرمزية ضمن شرطها التاريخي. يتحول الرمز في الرواية الى جزء من اليومي والتاريخي عندما تغمره الحكايات الأخرى التي لا تنتمي الى عالم البطولي والأثيري وغير المجسد.
لقد تمثلت استراتيجية الياس خوري في "باب الشمس"، بجعل الحكايات تنداح في دوائر (ولنتذكر كلام د. خليل عن الحكايات التي يزيحها من حوله ليتمكن من الرؤية والفهم)، في عدم السماح لأية حكاية من الحكايات بتبوء مركز الصدارة في السرد. وعلى الرغم من أن حكاية يونس ونهيلة تشكل الحكاية الإطارية في العمل فانها لا تتفوق على الحكايات الأخرى من حيث مركزيتها، وهي مثلها مثل حكايات د. خليل وأمه وجدته، وأم حسن ودنيا وعدنان أبو عودة وشمس وأهالي الغابسية والكويكات..الخ، تنويع على الحكايات التي لا عد لها لفلسطينيين تشردوا وعذبوا وماتوا وأصبحوا بلا مستقبل، وهم لذلك يعيشون في الحكاية وللحكاية، يجترون ماضيهم ويسقون صورته ماء (كما كانت تفعل جدة د.خليل اذ تسقي صورة والده الميت بالملعقة على جدار بيتها في شاتيلا) عل ذلك لماضي ينهض من جديد ويحتل الحاضر.ومن هنا تام الياس خوري بتذويب حكاية يونس في حكايات لآخرين عبر عملية التقطيع التي خلصت الرواية من لإملال وجعلت القاريء ينشد الى خيوط الحكاية لتي لا تكتمل إلا بموت يونس الأسري في نهاية "باب الشمس" بعيدا عن أرضه وأبنائه وأحفاده.
الهوامش:
1- الياس خوري، باب الشمس، دار الآداب، بيروت الطبعة الأولى 1998.
2- يستخدم الكاتب حكايات سمعها من عشرات من أهالي مخيمات برج البراجنة وشاتيلا ومار الياس وعين الحلوة، كما يعود الى الوثائق التاريخية والكتب والمقالات التي تروي تاريخ فلسطين وتسجل وقائع الزمان الفلسطيني الحديث. انظر شارات الكاتب في الصفحة الأخيرة من الرواية.
3- كتبت هذه الرواية قبل بدء الانتفاضة الفلسطينية الأخيرة (انتفاضة الأقصى)، في زمان أوسلو وسلامه غير الممكن، ولذلك بدت رؤيتها سوداوية رغم المطر الذي يغسل الراوي في نهاية الرواية.يقول د. خليل مخاطبا طيف يونس الأسدي الذي مات في النهاية: "أقف هنا والليل يغطينى، ومطر آذار يغسلني، وأقول لك لا يا سيدي، الحكايات لا تنتهي هكذا، لا.
أقف، المطر حبال تمتد من السماء الى الأرض، قدماي تغرقان في الوحل، أمد يدي، أمسك بحبال المطر، وأمشي وأمشى أمشي."(ص: 537).
فخري صالح (كاتب وناقد من الاردن)