مرة واحدة كنت بالقرب من عمان….
حدث ذلك في مطلع العام 1981 عندما زرت محافظة " المهرة " اليمنية الجنوبية (كانت يومها تسمى "المحافظة السادسة") في معية ثلة من الطلبة العرب المبتعثين الى عدن.
كنت، حينذاك "طالبا" من نوع خاص، أتلقى اقساطا كثيفة من العزلة والضجر والصمت أكثر مما أتلقى " العلوم " التي جئت للنهل منها، وكانت تلك " علوم " السمة المميزة للعصر، الطابعة متنه وحواشيه بتوقيعات الثلاثي: ماركس، انجلس، لينين على ما لقننا اياه، بإيمان العجائز الوطيد، اساتذة روس والمان،شرقيون ويمنيون " جنوبيون " متدرجون في مراقي "الاشتراكية العلمية".
كان ابتعاثي الى عدن المحروسة بأنصال الرواسي البركانية نوعا من العقوبة لشخص يقيم في مدينة يلعلع فيها كل شيء: الرصاص، القصائد، النساء، الشعارات، ملصقات الحياة والموت، التواريخ التي تكتب والتواريخ التي تمحى، لذلك تصرفت كما يتصرف المنفي: عداء وتجاهل للمكان الجديد واحتشاد بالحنين المرسل على عواهنه الى بيروت.
ولا أملك، الآن، سوى الاسف على خيلاء الفتوة التي جعلتني امشي على الأرض مرحا، منصرفا عن تقري الأزمنة المتعاقبة على الصهاريج الحجرية التي قورتها الجن، والروح الباسلة التي تناضل في الا شجار القليلة، والصلة التي تتجاوز التطير بين النافذة والغراب الاسود والصمت البليغ الذي يفرض نفسه سيدا أوحد على الظهيرات، والخلخال الفضي الذي يلمع في كاحل فضيم لامرأة تصعد الهوينى الى الحافلة العمومية والعيون السود الكحيلة التي طورت في احتجاب الجسد معجما خاصا لتراسل الاشواق وروائح البخور والعطور الشرقية الثقيلة المعششة ببعض الحوانيت الباقية من الحقبة الكولونيالية والخط البحري لشركة الهند الشرقية. وليس بلا دلالة ان تحضر عدن مقرونة بالجنة مرة، واخرى بالجحيم.
كما انه ليس بلا دلالة، عجائبية هذه المرة، ان تطيح المصائر بعلي سالم البيض آخر زعيم اشتراكي لليمن لاجئا سياسيا الى عمان !
لكنني، اليوم، لست في وارد استعادة صورة "اليمن الجنوبي" في ذهن الفتى النزق الذي كنته الا كمدخل لعمان.
وهو مدخل يبدو غريبا للوهلة الاولي.
فلم يكن هناك ما يجمع " اليمن الجنوبي" بعمان الا التنافر والخيارات المشدودة على طرفي نقيض ففيما " الاباضية " هي المذهب السائد في عمان فان الغلبة للسنة الشوافع في جنوب اليمن.
وفي الوقت الذي كانت فيه عدن تولي وجهها شطر " الكتلة الشرقية " كانت عمان تدير وجهها جهة الغرب. في عدن كانت د" الاشتراكية العلمية " تجرب حظها العاثر في افقر مصر عربي وسط صراع الاجنحة الدامي في " الحزب الاشتراكي" فيما كانت ممسقط تخرج من وراء استار العزلة القاسية التي فرضها عليها انحطاط مصائر التاريخ وتجتث آخر المتمردات الكبرى في شبه الجزيرة العربية، حاثة الخطي للحاق بالعصر في طوره الغربي. وبسبب بقايا الثورة في ظفار وبيارقها المهزومة وكتبها الحمراء المبعثرة ذهبت الى "المحافظة السادسة " في ركب فتيان من الطيف العربي الواسع متطوعين بحماسة ثورية لتعليم الصغار والاميين من اهل الصقع ولا من الظفاريين مبادئ القراءة والكتابة.
وكانت تلك أقرب نقطة من عمان.
بل لعلها النقطة التي عبرت منها بعض الهجرات التاريخية للقبائل العربية الجنوبية التي هجرت مرابعها بعد انهيار سد مأرب واستقرت في عمان.
ويبدو أنني لم آنس في نفسي ميلا للتعليم ولا للبقاء في ذلك المكان فقفلت عائدا الى عدن.
ومذ ذلك انتهى تماسي العابر مع عمان.
كان الشعر والعمل الصحفي هما اللذان حملاني الى الاماكن التي زرتها وليس طلب الرحلة في حد ذاتها، فالحياة العربية العاصفة والمنشقة على نفسها تجعل الرحلة، حيث ترغب، دونها خرط القتاد.
فالشعر إذن، هذا الشغف العربي الذي لم تفتح له همة، كان بوابة دخولي الى عمان، فمسقط، عاصمة الديار العمانية، بادرت منذ عامين الى اقامة مهرجان شعري سنوي ينظما "النادي الثقافي" وهو مؤسسة حكومية تعني بالنشاطات الثقافية، بذلك تكون مسقط هي العاصمة الوحيدة في شبه الجزيرة العربية التي تستضيف مهرجانا مكرسا للشعر غير مصحوب بعدة المهرجانات الثقافية من فنون وفلكلور وترفيه.
وأحسب إن الأمر بادرة من الكتاب والشراء العمانيين المنضوين في " النادي الثقافي " ممن عرفوا الحياة الادبية العربية بتنوع صورها واتجاهاتها.
هكذا انطلقت من لندن الى ممسقط على متن " طيران الخليج " لسبع ليال بقين من شهر فبراير 98بصحبة الشاعر الفلسطيني محمد القيسي في رحلة استغرقت ثماني ساعات ونصف من الطيران المتواصل، كانت مثالا للعبور الخارق من الارض التي يهدر حدها بحر الظلمات الى الارض التي يسرح على حوافها خليج عمان خفيفا، أزرق كالأبد.
غادرنا لندن في مساء رمادي بارد ووصلنا مسقط في صباح مكلل ببركات الشمس التي كان لها في تلك الديار، شأن سائر بلاد الشرق العربي، معابد وتهاليل.
كانت في استقبالنا، بعد أن دلفنا الى قاعة المطار، موظفة سراء ترتدي زيا حديثا محتشما وتغطي رأسها بإحكام، لم يكن صعبا التعرف الينا، فلم تصل الى مطار مسقط في ذلك الصباح المبكر سوى الطائرة القادمة من لندن وليس بين ركابها ذوو الغلبة الانجليزية والهندية، ربما، سوى نحن الاثنين. قادتنا الموظفة الى قاعة خاصة واحضرت لنا قهوة سألتنا ان نرتاح ريثما تهيئ معاملات الدخول.قلت للشابة: هل أنت سودانية؟
فضحكت، واجابت بحركة من يدها: لا، لا، بل عمانية !
ثم أردفت: أمي ايرانية الأصل ووالدي عماني.
سألتني وهي تبتسم: ولم ظننت أنني سودانية؟
لم أقل لها: ان ذلك بسبب سمرتها الداكنة وملامحها الافريقية، بل قلت ربما بسبب لهجتك، فلست على معرفة باللهجة العمانية.
ويخيل الي ان مظن سؤالي لا يتعلق باللون والملمح فقط بل ايضا بما وقر في ذهني عن بلدان الخليج لجهة الاعتماد المفرط على العمالة الخارجية.
وستبرهن لي الايام التي قضيتها في ربوع هذا البلد انني مخطئ. فأوجه الشبه بين عمان واخواتها في " مجلس التعاون الخليجي" ليست كبيرة، خصوصا، على هذا الصعيد، وسيتعين علينا ان نرى عمانيات وعمانيين يعملون في مرافق شتى جنبا الى جنب مع عرب وأجانب، فالخطاب السياسي الرسمي الذي وقعنا على شذرات منه هنا وهناك يدرج الاعتماد على العمالة العمانية مدرج الهدف الوطني العالي.
فرغنا من قهرتنا فعادت الشابة وقد أنجزت جانبا من معاملاتنا، فمهرنا جوازات سفرنا بالاختام الرسمية وهممنا بالخروج، لكن أحد افراد الشرطة طلب، في اللحظة الاخيرة، ان يرى الكيس البلاستيكي الذي يحمله محمد القيسي فوجد فيه " زجاجة" سوداء الغلاف، اسكتلندية المنشأ.
قال الشرطي: ان ادخال المشروب الى عمان ممنوع من قبل المسلمين. فرد القيسي: ولكنني ابتعتها من الطائرة الخليجية القادمة الى عمان ولم يقل لي أحد ما اذا كان المشروب ممنوعا هنا أم لا. فقال الشرطي: هذه هي التعليمات.
لاحظت اننا نحمل جوازي سفرنا بأيدينا، القيسي يحمل جواز سفر اردنيا وأنا جوازا بريطانيا.
الهذا، يا ترى، لم يطب الشرطي ان يرى شيئا من امتعتي مع انني كنت أحمل كيسا مطابقا للكيس " المشبوه" الذي يحمله زميلي؟ هكذا عن لي ان أتساءل فيما بعد.
كان على القيسي ان يحضر "مراسم " اتلاف الزجاجة الاسكتلندية سوداء الغلاف امام ناظريه ولكنه أعفي، أقله، من دفع الغرامة البالغة خمسة ريالات عمانية، أي ما يعادل خمسة عشر دولارا، نظرا لكونه شاعرا!
في باحة المطار الخارجية كان راشد المكتومي مندوب "النادي الثقافي" وثلاث كاتبات عمانيات يستقبلوننا، وقد تساءلوا عن سبب تأخرنا في الخروج فأبلغناهم بحديث "الزجاجة" فضحكوا قائلين ان هذا ما جرى للشعراء العرب "المسلمين" الذين حلوا قبلنا.
"مسقط" و "مطرح"
استغرقت الرحلة من مطار "السيب" الى فندق "الانتركونتيننتال" الواقع على "ساحل القرم" في العاصمة نحو عشرين دقيقة.
كانت المنطقة التي تمر بها السيارة منبسطة وخالية من العمران الذي اخذ يلوح ويكثف كلما اقتربنا من الساحل.
تقع مسقط على خليج عمان، في الجزء الجنوبي مما يسمي بـ "ساحل الباطنة" وتتصل شرقا بسلسة "جبال الحجر" التي تشكل قوسا عظيما يتجه من الشمال الشرقي للبلاد الى جنوبها الغربي.
والعاصمة العمانية تتكون، كما خبرنا لاحقا، من مدينتين اثنتين واحدة تدعى "مسقط" والاخري تبعد عنها نحو ميلين وتسمى "مطرح". والاثنتان تحتلان شريطا ساحليا ضيقا يقع تحت انظار الجبال الجرداء.
في الاولي تقع المرافق السلطانية والحكومية ويندر فيها وجود سكن أهلي أما الثانية فتتوافر على الاسواق الشعبية والسكني معا، وتختلط فيها سحن بشرية متنوعة، وان كان الملمح الآسيوي (الهندي) هو الغالب.
وباستثناء القصر والمرافق السلطانية وبعض اسواق "مطرح" وحاراتها القديمة فان أحياء العاصمة الاخري مثل "روي" و "ساحل القرم" و "الخوير" و "بوشر" حديثة العهد، ومعظمها تم تشييده بعد عام 1970، فحسب بعض المنشورات الحكومية التي تتحدث عن "النهضة"، وهي مصطلح يثير الى تسلم السلطان قابوس مقاليد الحكم في البلاد، فان العاصمة لم يتجاوز امتدادها على الساحل اكثر من نصف ميل في العهد السابق. عهد والد السطان قابوس المتسم بالغموض والعزلة فقد كانت رقعة العاصمة في العهد السابق مضغوطة بين قلعتي" الجلالي" و" الميراني " اللتين ترجعان أصداء الصراعات الداخلية والخارجية على المكان. وبهذا المعنى تعتبر مسقط بأحيائها الجديدة وحدائقها المستنبتة ومشبكات اتصالها وطرقها من احدث العواصم العربية منا.
ولا يخفى على الناظر، وهو يعبر شوارعها أن يلحظ نظافتها الاستثنائية، وليست النظافة متأتية من قلة الحركة (وهذه ظاهرة لافتة للنظر) بل من الجهود البلدية المبذولة على هذا الصعيد، والحال، فليسس غريبا أن تشاهد اكثر من يافطة مكتوب عليها "ممنوع البصق في الشوارع"، وقد انتهى الى علمنا ان البلدية تفرض غرامة مالية على كل من يضبط " متلبسا " بهذا الفعل القبيح!
لكن مسقط الحديثة لها أفتها ايضا، وهي آنة عربية الطابع، فكأن التحديث، في التصور العربي، هو قطع حبل السرة مع البيئة وخبرات الماضي واستجلاب مواد وانماط بناء وعيش "عصرية " لا تستقيم مع المحيط الطبيعي.
وفي مقالة للباحث هلال بن علي الهنائي يرى ان التطورات المعمارية التي شاعت مؤخرا في بلدان الخليج العربي تميزت باغفال الكثير من مبادئ اقتصاديات الطاقة التي تمت بلورتها عبر الزمن في الانماط المعمارية المحلية.
حدث ذلك على الرغم من كفاءة هذه الانماط المعمارية التقليدية في توفير بيئة حرارية ملائمة في جو المنطقة القاسي خلال مئات عديدة من السنين.
ونتج عن إهدار هذا الإرث، كما يرى الهنائي، إسرافا كبيرا في توليد واستهلاك الطاقة الكهربية لمواجهة الاحتياجات المتزايدة للبناء ونمط العيش الجديد والتي وصلت، في سلطنة عمان على سيبل المثال، إلى استهلاك 70% من الطاقة الكهربائية المولدة لتكييف المباني الحديثة ذات الكفاءة الحرارية المنخفضة.
ومشكلة عمان على هذا المستوى اكثر إلحاحا من سائر بلدان الخليج العربي الأخرى، نظرا لكون المخزون النفطي في السلطنة يقدر بحوالي 40 عاما، وهي فترة اقل من العمر الافتراضي لاي مبنى حديث. فالتحديث لم يقتصر على اهمال مواد البناء المستنبطة من البيئة والاستعاضة عنها بالاسمنت والحديد بل طاول، دون شك، إسلوب البناء التقليدي ونمط المعيشة نفسها.
ومن المؤكد آن التغلب على الحرارة العالية والرطوبة القياسية، خصوصا في المناطق الساحلية، كان هاجس العمارة التقليدية، فها هو ماركو بولو يصف مدينة "هرمز" العمانية في كتاب رحلته الى الصين فيقول،فالحرارة التي تنجم هنا مفرطة ولكن القوم يتزودون في كل بيت بنوافذ يدخلون بواسطتها الهواء إلى مختلف الطوابق والى كل شقة من شقق المنزل حسب الإرادة. فلولا هذه الوسيلة ما امكن العيش بتلك المنطقة ".
وهأنذا بعد ماركو بولو بقرون عديدة وفي فصل من أجمل فصول عمان، هو فصل الربيع، اجلس مع رفاقي الشعراء العرب والعمانيين في صالة من صالات " الانتركونتيننتال " العديدة في جو من التكييف الصناعي الذي تكتم هديره الكهربي التكنولوجيا الحديثة. ويمكن لنا ان نتخيل أي صورة من صور الجحيم ستكون عليه الحياة في هذا الطود الاسمنتي المحكم الاغلاق اذا ما انقطع التكييف الصناعي في صيف تتجاوز فيه الحرارة خمسين درجة مئوية مصحوبة برطوبة تبلغ نحو سبعين في المائة؟
رحلة مالك بن فهم
أزعم ان عمان ظلت حتى عهد قريب من اكثر الاقطاع العربية غموضا. اذ قلما يصادف المرء اسمها او صورتها في اخبار العرب التي لا تكف عن ادهاشنا بمدى سوئها، وفي الحال العربية فان " اللااخبار" هي حسب المثل الانجليزي، أخبار جيدة، مع ان الناس في داخلية عمان ما
يزالون الى يومنا هذا يبادرون الضيف بالسؤال عن الاخبار!
غير أن " غموض " عمان ليس متأتيا من قلة " الأخبار " فقط بل من الموقع الجغرافي والتكوين المذهبي وانكفاء البلاد على شؤونها ايضا. ولكننا اذا عدنا الى المراجع التاريخية العربية وادبيات الاخباريين العرب سنجد لها ذكرا حميدا، وقد نفاجأ ايضا اذا عرفنا انها كانت، يوما "مبراطورية" ذات شوكة تمكنت من بسط نفوذها على شرق افريقيا ووصل مجالها الحيوي الى الهند والصين.
ولنبدأ من حيث يرد اول ذكر لها في الوثائق التاريخية.
ويبدو، حسب ما جاء عند وندل فيليس الذي وضع كتابا عن تاريخ عمان لا ينقصه الهوى والابتسار، ان بطليموس هو أول مؤرخ أجنبي يأتي على ذكرها.
وهناك بعض الروايات التاريخية تشير الى وجود مملكة مزدهرة في عمان قبل وقوع الغزو الفارسي في عهد " قورش العظيم " الذي كانت من جملة مآثره اعادة اليهود الى فلسطين بعد سبيهم على يد نبوخذ نصر الكلداني.
اما المؤرخ العماني الامام نور الدين السالمي فيشير في كتابه القيم " تحفة الأعيان بسيرة أهل عمان " الذي أهدانيه حفيده زاهر السالمي فيرجع اول وجود عربي في عمان الى فترة متقدمة على الاسلام، فيقول " وسمعت من يدعي المعرفة بذلك يقول: ان ذلك كان قبل الاسلام بألفي عام وذلك بعدما أرسل الله على سبأ سيل العرم وخرجت " قبائل " الأزد منها الى مكة وارسلوا روادهم في النواحي يرتادون الأمكنة، وتفرقوا من هنالك الى الاطراف وخرج مالك (بن فهم في جملة من خرج الى (جبال) السراة، ثم منها الى عمان ".
ومن المستبعد أن تكون هجرة الازد قد حدثت قبل الاسلام بألفي عام والمرجح، حسب اكثر الروايات تطابقا، بأنها حدثت في القرن الثامن قبل الميلاد.
اما قصة خروج مالك بن فهم زعيم قبائل الازد العربية الى عمان التي ترد عند اكثر من أخباري عربي بينهم المسعودي والسجستاني فهي على قدر معتبر من الطرافة والدلالة في آن.
فيروى ان ابناء اخي مالك بن فهم كانوا يسرحون بأغنامهم على طريق بيت جار لهم كانت لديه كلبة تنبحهم وتفرق شمل غنمهم كلما مروا، فما كان من احدهم الا ان رماها بسهم فقتلها. فرفع صاحب الكلبة الامر الى مالك فغضب وقال: لا أقيم ببلد ينال فيا جاري مثل هذا. ثم خرج من أرض السراة فيمن أطاعه من قومه ومن اتبعه من احياء " قضاعة " وسار متوجها الى عمان تاركا وراءه بني أخيه الذين اعتدوا على كلبة جاره.
وقد اعتزل عنهم ابنه جذيمة الابرش بن مالك فيمن والاه من الازد وسافر الى أرض العراق.
ويروى ايضا ان ابل زعيم الازد بعد ان قطة شوطا بعيدا عن "السراة" حنت الى مراعيها واقبلت تتلفت نحوها فأنشد مالك قصيدة منها هذا البيت:
فحني رويدا واستر يحي وبلغي
فهيهات منك اليوم تلك المألف
عبر مالك بن فهم في مسيرته الشاقة من "اليمامة" في أرض الحجاز الى "قلهات" القريبة من ميناء "صور" العماني مارا بحضرموت فوادي مسيلة ومنه الى "سيحوت".
وقد بلغه ان جيشا عرما من الفرس يعسكر في عمان فبعث برسالة الى "المرزبان" عامل الملك الفارسي على عمان يقول له فيها "لا بد لي من المقام في قطر من عمان وان تواسوني في الماء والمرعى، فان تركتموني طوعا نزلت في قطر من البلاد وحمدتكم وان أبيتم أقمت على كرهكم وان قاتلتموني قاتلتكم، ثم ان ظهرت عليكم قتلت المقاتلة وسبيت الذراري ولم اترك احدا منكم ينزل عمان أبدا". فرفض عامل الملك الفارسي طلبه فاستعد مالك لمقاتلته، وقيل ان الجيش الفارسي المرابط في عمان كان يبلغ زهاء ثلاثين ألف رجل فيما لم تتجاوز عزوة مالك بن فهم عشرة آلاف.
ويفيد بعض الروايات ان القتال بين الجيشين الذي دارت رحاه بالقرب من مدينة "نزوى" في وسط عمان، استمر نحو اربع سنوات كانت الغلبة فيه لاتباع مالك بن فهم، فاضطر "الفرس" الى عقد هدنة بين الطرفين لكن هذه الهدنة نقضت لاحقا فعاد رجال مالك الى منازلة الفرس وهزموهم مرة اخرى.
وحسب وندل فيليبس فان مالك هو اول حاكم عربي مستقل بسط نفوذه على ارجاء واسعة من عمان واستمر حكمه حسب الروايات العربية زهاء سبعين سنة وقتل خطأ على يد اصغر ابنائه واكثرهم حظوة لديه وقد بلغ من العمر العشرين بعد المائة.
والى مالك بن فهم ينسب بيت الشعر العربي القائل:
أعلمه الرماية كل يوم
ولما اشتد ساعده رماني
وتلك اشارة محزنة الى السهم الذي اطلقه عليه ابنه الصغير عندما كان مولجا حراسة مقره ظانا انه متسلل يريد الغدر بوالده !
ويبدو ان مالك بن فهم قد بسط نفوذه على البر والبحر وصارت تنسج حوله الاساطير، فها هو المؤرخ نور الدين السالمي ينقل في مؤلفه "تحفة الاعيان بسيرة أهل عمان" حديثا اورده المؤرخ العماني العوتبي في كتابه "الأنساب" عن ابن عباس يقول ان مالك هو الذي جاء ذكره في القرآن بانه كان يأخذ كل سفينة غصبا.
ويحيلنا هذا الى قصة موسى والخضر.
يقول السالمي في الرواية المعنعنة "فانطلق موسى والخضر ويوشع بن نون، حتى اذا ركبوا السفينة ولججوا خرق الخضر السفينة وموسى عليه السلام نائم. فقال اهل السفينة ماذا صنعت؟ خرقت سفيتننا واهلكتنا. فايقظوا موسى وقالوا ما صحب الناس اشر منكم. خرقتم سفينتنا في هذا المكان، فغضب موسى حتى قام شعره فخرج من مدرعته واحمرت عيناه واخذ برجل الخضر ليلقيه في البحر فقال "اخرقتها لتفرق أهلها لقد جئت شيئا امرا". قال له يوشع يا نبي الله اذكر العهد الذي عاهدته. قال صدقت. فرد غضبه وسكن شعره وجعل القوم ينزفون من سفينتهم الماء وهم منها على خطر عظيم وجلس موسى في ناحية السفينة يلوم نفسه، يقول لو كنت في غنى عن هذا في بني اسرائيل اقرأ لهم كتاب الله غدوة وعشية فما ادناني الى ما صنعت؟ فعلم الخضر ما يحدث به نفسه فضحك ثم قال "ألم أقل انك لن تستطيع معي صبرا".
أحدثت نفسك بكذا وكذا؟ قال موسى "لا تؤاخذني بما نسيت ولا ترهقني من أمري عسرا". فانطقوا حتى انتهوا الى عمان وكان الملك يريد ان ينتقل منها وكان كلما مرت سفينة اخذها وألقى أهلها، فاذا الناس على ساحل البحر لا يدرون ما يصنعون فلما قدمت سفينتهم قال أعوان الملك: اخرجوا عن هذه السفينة. قالوا ان شئتم فعلنا ولكنها مخرقة، فلما رأوها وخرقها قالوا لا حاجة لنا بها. فقال اصحاب السفينة جزاكم الله عنا خيرا فما صحب قوم قوما اعظم بركة منكم، واصلح الخضر السفينة فعادت كما كانت".
ولم يكن الملك الذي يأخذ كل سفينة غصبا سوى مالك بن فهم.
×××
الاخباريون العرب مولعون بالاسطوري والخارق. ولم يشاءوا ان يتركوا عمان دون نصيبها من القصص العجيب.
مثل ذلك ما يرويه العوتبي في "الانساب" عن مرور النبي سليمان بن داود صاحب الجن في عمان فيقول "ان سليمان بن داود عليهما السلام سار من ارض فارس في قلعة اصطخر الى عمان نصف يوم ونزل موضع القصر من سلوت من عمان، وهو بناء جديد كأنما رفع الصناع أيديهم منه في ذلك الوقت واذا عليه نسر فسأله نبي الله عليه السلام عنه فقال: يا نبي الله اخبرني ابي عن ابيه عن جده انه عهده على هذه الحال، فقال في ذلك بعض الشياطين الذين صحبوا سليمان عليه السلام:
"عدونا من قرى اصطخر.. الى القصر فقلناه
فان نسأل عن القصر.. فانا قد وجدناه
وللشيء على الشيء.. مقاييس واشباه
يقاس المرء بالمرء.. اذا ما المرء ما شاه"
لكن القصة عند هذا الحد لا تبلغ الدلالة المتوخاة منها، وليس علينا ان ندقق في خبرها من زاوية صدقه او واقعيته او كون الشياطين تنشد شرا بالعربية، ركيكا الى هذا الحد فما هذا مربط الفرس.
ذروة القصة او خبرها هو ان سليمان بن داود اقام في عمان عشرة ايام وأمر الشياطين ان تحفر الف نهر في اليوم، فكانت حصيلة الزيارة عشرة آلاف نهر تفجرت في انحاء عمان !
فهل هذا الذكر العابر لسليمان بن داود وبضعة اخبار يهودية أخرى ما دفع المؤرخ اللبناني المرموق كمال الصليبي الى توسيع فرجار حفرياته اللغوية، في تقصيه اصل التوراة، ليطال عمان ايضا؟
"اباضية" لا "خوارج"
المؤكد، في تاريخ عمان، ان مالك بن فهم ومن خلفه من زعماء الازد لم يبسطوا نفوذهم على كامل الأرض والسواحل العمانية فملكوا شطرا كبيرا منها وظل الفرس يملكون بعض السواحل. ولا تثير الروايات الى مواجهات كبرى بين العرب والفرس بعد واقعة مالك بن فهم، بل يبدو ان التعايش والتبادل التجاري ظلا قائمين بين الطرفين.
ولن تتبدل هذه الحال الا مع انتشار الدعوة الاسلامية وبلوغها اطراف شبه الجزيرة العربية، ومن بينها عمان.
وفي صدد اسلام عمان هناك روايات عديدة يوردها المؤرخ العماني الامام نورالدين السالمي في مؤلفه "تحفة الاعيان" نقلا عن مؤرخين واخباريين عرب عديدين وان كانت الروايات، كلها تجمع على حدوث ذلك في اواخر عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وكلها يجمع على ان عمرو بن العاص كان رسوله الى ابني الجلندى حاكمي عمان في تلك الآونة.
ولا يحدثنا السالمي عن العبادة التي كانت سائدة في عمان قبيل وصول عمرو بن العاص اليها ولكن يبدو انها مماثلة لما كان سائدا في شبه الجزيرة العربية يومذاك حيث اختلطت الوثنية "عبادة الاصنام" بالمسيحية واليهودية، وفي الحالة العمانية يمكن ان نزيد الزرادشتية بسبب وجود الفرس فترة طويلة هناك.
والمؤكد ان اسلام القبائل العربية العمانية تم طوعا. فلم يكن مع عمرو بن العاص رسول النبي محمد جيش ولا قوة عسكرية، ففاوض عبد وجيفر ابني الجلندى وعرفهما على مبادئ الاسلام فاستجابا اليه بعد تلكؤ خصوصا عندما علما بأمر الزكاة والخراج وما شاكل ذلك من جبايات، وبقي ابن العاص عاملا على عمان حتى بلغه نبأ وفاة الرسول فقفل راجعا الى المدينة يرافقه عبد بن الجلندى الذي سلم على ابي بكر وبايعه.
وهناك رواية تفيد ان القبائل العمانية ارتدت بعد وفاة الرسول مع من ارتد من القبائل العربية، فحاربها ابوبكر، لكن نور الدين السالمي ينفي ذلك بحمية ويرده تخرصا لا اساس له من الصحة.
وليس من صلب اهتمامي التاريخ ولا اقتفاء أحداثه ونوازله ولا هذا من أدب الرحلة ولا من دأبها لكنني وجدت نفس ملزما الغوص في بطون كتب عديدة لاستخلاص ما يعين على بناء مسرح للاحداث ذات الدلالة الخاصة التي شهدها هذا البلد العربي النائي. فقد اكتشفت ان ذخيرتي من اخبار عمان وأحوالها لم تكن اكثر من شذرات وشظايا ليست كلها صحيحة، على كل حال.
من ذلك، مثلا، ما وقر في أذهاننا أنه البلد الذي اعتصم به "الخوارج" بعد حادثة "التحكيم" بين علي بن ابي طالب ومعاوية بن ابي سفيان وما جرى بعد ذلك في واقعة "النهروان".
و "الخوارج" مصطلحا، يلحظ كما يقول الباحث صالح بن احمد الصوافي في كتابه "الامام جابر بن زيد العماني وآثاره في الدعوة"، "اولئك الذين خرجوا من "الكوفة" الى "النهروان" وكان ذلك في اول امرهم… ولم يكن خروجهم في ذلك الوقت خروجا عن الدين او مروقا عن الجادة بل العكس هو الصحيح، فعلي بن ابي طالب لما سئل عنهم ووصفوا بالكفر امامه قال بل من الكفر فروا ونفى عنهم النفاق. غير انه من الثابت بعد ذلك افتراق امر هؤلاء الخوارج، لانه بعد واقعة "النهروان" عمد البعض الى سلوك طريق لا يتفق مع الاصول الصحيحة للشريعة واحدثوا في الاسلام حدثا كبيرا بما استحلوا من اعراض المسلمين بالسيف وتكفير اهل القبلة الذين لا يذهبون مذهبهم.
وتفرق هؤلاء الخارجون الى فرق عديدة كان منها الازارقة والصفرية والنجدات وهؤلاء هم الذين اصبحوا يعرفون بالخوارج. اما "الاباضية" فهم لا يرون رأي الخوارج بل يرونهم مارقين عن الدين.. ورغم انهم يوالون "المحكمة" الاولي وعلى رأسهم عبدالله بن وهب الراسبي الا انهم لم يوافقوا الازارقة ومن والاهم من بعده بل تبرأوا منهم.
×××
ويعاني العمانيون الذين يعنيهم الامر من هذا الاعتقاد السيار في اوساط السنة العرب ويرون ذلك مثالا على سوء الفهم والاحتطاب ليلا. فالمراجع التراثية العربية تقرن "الاباضية"، وهي المذهب الحاكم في عمان، بالخوارج، ولم يشذ عن هذا الصراط مؤرخ معتبر من عيار ابن خلدون ولا حتى المعاجم المصنفة اليوم.
ففي "موسوعة المورد" يرد تحت كلمة "الاباضية" ما يلي: "فرقة من الخوارج تنسب الى عبدالله بن اباض الذي انشق على الخوارج الاكثر تعصبا عام 684 للميلاد. ثارت على الامويين وسيطرت فترة من الزمن على اليمن وحضرموت وعمان وانتشرت تعاليمها انتشارا واسعا بين البربر في شمال افريقيا. ويتواجد الاباضيون اليوم في عمان، في المقام الاول، وفي تونس والجزائر".
وفي كتاب "الفرق بين الفرق" جاء تحت بند "الاباضية" ما يلي: "اجمعت الاباضية على القول بامامة عبدالله بن اباض وافترقت فيما بينها فرقا يجمعها القول بأن كفار هذه الأمة – يعنون بذلك مخالفيهم – براء من الشرك والايمان وانهم ليسوا مؤمنين ولا مشركين ولكنهم كفار. واجازوا شهادتهم وحرموا دعاءهم في السر واستحلوها في العلانية.
وصححوا مناكحتهم والتوارث منهم وزعموا انهم في ذلك محاربون لله ولرسوله ولا يدينون دين الحق". ويستخلص الدكتور ألبير نصري نادر محقق كتاب "الملل والنحل" لعبد القاهر البغدادي الصادر عن دار "الشرق" اللبنانية ثلاثة مواقف مهمة للاباضية تفردها عن سائر الفرق الاخري هي:
1- عدم قبول الاباضية بالقدر على ما قالت به المعتزلة.
2- الانسان غير محاسب عن التوحيد ما لم يأته نبي يعلمه بان الله واحد لا شريك له.
3- يجوز ان يأمر الله بحكمين متضادين في شيء واحد.
ويتصدى الامام نور الدين السالمي المؤرخ العماني الذي تكررت الاشارة اليه في هذه الرحلة، بعصبية، للخلط الشائع بين "الاباضية" و "الخوارج" قائلا: "اطلاق لفظ الخوارج على الاباضية أهل الحق والاستقامة من الدعايات الفاجرة التي نشأت عن التعصب السياسي أولا ثم عن المذهبي ثانيا لما ظهر غلاة المذاهب، وقد خلطوا بين الاباضية والأزارقة والصفرية والنجدية. فالاباضية أهل الحق لم يجمعهم جامع بالصفرية والأزارقة ومن نحا نحوهم إلا انكار الحكومة (يعني التحكيم) بين علي ومعاوية. واما استحلال الدماء والاموال من أهل التوحيد والحكم بكفرهم كفر شرك فقد انفرد به الأزارقة والصفرية والنجدية وبه استباحوا حمى المسلمين. ولما كان مخالفونا لا يتورعون ولا يكلفون أنفسهم مؤنة البشر عن الحق فليقفوا عنده ".
ولكن بماذا ينفرد " الاباضية " عن السنة والشيعة ليكونوا مذهبا اسلاميا خاصا؟
يجيب عن هذا السؤال نور الدين السالمي نفسه في مبحث من مباحث كتابه،" تحفة الأعيان " بالقول: (…) وأهل عمان هم أهل الطريق القويم واهل الصراط المستقيم الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم ودعا العرب والعجم اليه وجاهدهم عليه حتى دخلوا فيه رغبا ورهبا، وعليه لقي ربه , صلى الله عليه وسلم، وعليه نص الخليفتان الراضيان حتى لقيا ربهما (يقصد ابوبكر وعمر) وعليه مضى عثمان بن عفان في صدر خلافته حتى غير وبدل فقاموا عليه وعاتبوه فتوبوه فرجع الى تغييره ثم عاتبوه فتوبوه ثم عاد الى تغييره واعذروا الى الله حتى عذروا بين الخاص والعام وطلبوا الاعتزال عن أمرهم فأبى فاجتمعوا عليه وحاصروه حتى قتل في داره، ثم اجتمعوا على علي بن أبي طالب فقدموه وبايعوه على القيام بما يرضي الله ومضى على ذلك ما شاء الله من الزمان وقاتل أهل الفتنة القائمين لقتاله المتسترين عند العوام بطلب دم عثمان حتى قتل منهم ألوفا وهزم صفوفا ثم رجع القهقري وحكم الرجال على حكم أمضاه الله، ليس لأحد ان يحكم فيه برأيه، فعاتبوه فلم يعتبهم وخاصموه فخصموه فكانت لهم الحجة عليه، فهم ان يرجع اليهم ويترك ما صالح عليه البغاة من التحكيم في حكم الله فقامت عليه رؤساء قومه فأطاعهم وعصى المسلمين فاعتزلوه بعد ان خلع نفسه بتحكيم الرجال في إمامته وهو يظن أن الأمر باق في يده وهيهات".
والواضح أن الفئة التي وفضت التحكيم وعاتبت علي بن ابي طالب عليه قد نصبت على نفسها إماما هو عبدالله بن وهب الراهبي الذي سار علي الى جماعته وقاتلهم في موقعة " النهروان".
ويبدو ان علي بن أبي طالب قد أباد طائفة كبيرة منهم ولم ينج الا نفر قليل، ولكن اتباع هذا الفريق الاسلامي في عمان ظلوا متمسكين برأيهم وعمدوا الى انتخاب أئمة منهم حكموا بينهم طوال قرون عديدة ولم تقتطع الخلافتان الاموية والعباسية وما تلاهما من أمراء طوائف واعراق الشرق ان يفرضوا رأيهم او حكمهم على عمان.
وبمختصر القول فان " الاباضية " تفردت في معارضة قيام الحكم الاسلامي على أساس الوراثة او على أساس الشوكة الاجتماعية وقالت بمبدأ انتخاب الافضل والاصلي، وبحسب العرف الساري يخضع انتخاب الامام الى مشروط صريحة منها: أن يكون ذكرا بالغا، والا يكن مصابا بعاهة جسدية، وان يكون ورعا تقيا وان ينال سهما وافرا في الانتخابات.
ولا يستفتى في شأن امامة الامام جمهرة الناس بل العلماء منهم الذين لهم الحق في نزع الامامة عنه متى حاد عن الجادة. وللامام الحق في تفويض السعلة الى خليفة يختاره شريطة الا يكون من صلبه.
لكن بعد 900 سنة من حكم الائمة في عمان ظهر خلال حكم اليعاربة اتجاه لتوريث الابناء منصب الامامة وقد بدأ بعد وفاة الامام اليعربي الثاني سلطان بن سيف حيث خلفه في الامامة ابنه يعرب بن سطان.
البرتغاليون واليعاربة
هناك بضع عاديات يمكن لزائر " مسقط " ان يذهب اليها ويقف من خلالها على شيء من تاريخ هذه العاصمة التي عرفت الغلبة يوما والغلب يوما آخر، الانتشار الى حدود الصين وشرق افريقيا حينا والانكفاء وراء أسرارها حينا ثانيا وذلك تبعا للأحوال الدولية والاقليمية من جهة وأحوال السر والممالك العمانية التي تعاقبت على حكم البلاد من جهة ثانية.
وفي الايام التي قضيتها في مسقط حاولت أن ألم بشظايا من تواريخ مبعثرة مكتوبة مستعينا بالعيان والملاحظة والسؤال. فضلا عما أمكنني الحصول عليه من مراجع مكتوبة كما أكون تصورا تاريخيا متعمقا لتاريخ هذا المكان الغامض.
ولشد ما أدهشني ان اكتشف قلة ما تبقى من آثار الممالك المتعاقبة على حكم "مسقط " سواء تعلق الامر بأسرة " اليعاربة " التي يرجع اليها الفضل في طرد البرتغاليين من عمان وتوحيد البلاد تحت رايتهم، أم ما يتعلق بـ " أسرة البوسعيد " التي حكمت منذ عام 1749 وما تزال على رأس البلاد الى يومنا هذا.
لكن ما يثير الدهشة اكثر هو ضالة المادة التاريخية المكتوبة عن عمان خصوصا، بأقلام عمانيين معاصرين.
فباستثناء كتابي " تحفة الأعيان بسيرة أهل عمان " للامام نور الدين السالمي وكتاب " نهضة الأعيان بحرية عمان " لابنه ابي بشير، فانك غير واجد سوى شذرات ومقالات لا تبني سياقا متكاملا لتاريخ هذا البلد الذي كان جزءا حيويا وفاعلا في محيطه منذ اقدم العصور. وقد احتاجني الامر الى صحبة ولم أطل حتى وجدتها.
هكذا لم أكن وحيدا في استطلاع المكان والوقوف على معالمه بل رافقني مثقفون عمانيون عرفت بعضهم بالاسم والنتاج الادبي من قبل مثل الشاعر سماء عيسى والفنانة التشكيلية نادرة محمود والقاص محمود الرحبي وآخرين تعرفت اليهم هناك وهؤلاء هم الأحدث سنا وتجربة مثل الشاعر عامر الرحبي والكاتب مرهون العزري.
بفضل هؤلاء جلت في " مسقط " و" مطرح " والأحياء الجديدة التي تسمى " مدنا " كـ " مدينة الاعلام " و "المدينة الدبلوماسية " التي تضم مباني الهيئات الدبلوماسية الاجنبية وسكن الدبلوماسيين و"الحي التجاري" التي تضم المجمعات التجارية الكبيرة ومؤسسات المال العمانية وبورصة "مسقط " والأسواق الشعبية.
وكل " مدن " العاصمة العمانية يمكن ان تستنفد زيارتها في ساعات قليلة، فالمدينة رغم ما هي عليه من " مدن " تظل صغيرة بالقياس الى العواصم العربية غير الخليجية ولا يتجاوز عدد سكانها، بما في ذلك العمالة الأجنبية، نصف مليون نسمة.
أما ابرز ما تقع عليه العين من الأثر القديم فليس هناك اهم من قلعتي " الجلالي " و" الميراني "
و" حصن مطرح " وقد أنشأ البرتغاليون هذه المعاقل العسكرية الثلاثة خلال احتلالهم للشواطئ العمانية.
فقلعة "الجلالي" شيدت عام 1578 فيما انشئت قلعة " الميراني" في عام 1588، وذلك على اثر محاولة العثمانيين السيطرة على الميناءين.
ولم أقف على ذكر لتاريخ انشاء " حصن مطرح " ولكنه لا يتجاوز، على الاغلب، حدود هذين التاريخين " والقلعتان مشيدتان على مرتفعين صخريين يتحكمان بالمدخل المائي للعاصمة ولا يمكن الوصول اليهما الا عبر ممرات ضيقة، وهما يمثلان نموذجا لعمارة القلاع البرتغالية في القرون الوسطى.
ومن نافلة القول انهما شيدتا في هذين الموقعين الحيويين لأسباب دفاعية، فبامكان المدافع المنصوبة في الكوات صد أي هجوم أو تسلل الى المدينة عن طريق البحر. فالسيطرة البرتغالية على قسم من الشواطئ العمانية والتي استمرت نحو 140 عاما لم تكن محكمة على الدوام ولا حالت دون الهجمات المتكررة التي قام بها العمانيون او القراصنة او القوى الطالعة على المسرح الاقليمي كالعثمانيين مثلا لطرد البرتغاليين من عمان.
وللملم بقسط من تاريخ عمان لا يمكن النظر الى القلعتين المتقابلتين دون ان يتذكر الرؤوس التي جندلت فيهما والاجساد التي ألقيت منهما الى البحر والمؤامرات التي حيكت للوصول اليهما او في داخلهما. ولعله يتذكر بصورة خاصة اقتحامهما على يد الامام سلطان بن سيف اليعربي, لينطوي بذلك، والى الابد، الاحتلال البرتغالي الوحشي لعمان مؤذنا، في الوقت نفسه، بأقول نجم الامبراطورية البرتغالية لا في جنوب الجزيرة العربية فحسب بل في شرق افريقيا والمحيط الهندي ايضا، ليصعد في سماء المنطقة نجم امبراطورية جديدة هي الامبراطورية العمانية التي ظلت تحتفظ الى عهد قريب باملاك لها في زنجبار لم… التي لابد ان تكون الفتاة العمانية افريقية الملامح التي لاقتنا في المطار تتحدر، هي وعشرات الوجوه" الافريقية التي تراما في مسقط، من هناك والى هاتين القلعتين و" حصن مطرح " هناك البناء الحديث اللافت للنظر مثل مبنى "بلدية مسقط " الذي فاز بجائزة المدن العربية عام 1994 وهو مزيج من المعمار الاسلامي والمعمار الحديث. فضلا عن مبنى " الاوقاف والشؤون الدينية " في " الخوير" الذي ينبثق ببياضا وزرقة قبتيه الخفيضتين وسط خضرة مستنبتة جاعلا في الفراغ المحيط متكأ مريحا للعين. والابيض لون سائد في المعمار العماني الجديد فيما اللون الاشهب هو السائد في المعمار القديم.
الذاهب الى " مسقط " لا يصيب من شخصية المكان العماني الا لمحات ولا يظفر من تواريخه وثقافته واجتماعه، الا كل ما يؤيد اللحظة الراهنة المنخرطة في معمعة التحديث.
فهي اليوم شأنها شأن الحواضر العربية المستحدثة هجينة نوعا، مختلطة الوجوه والطرز وان كانت على قدر ممتاز من حسن التنظيم والتخطيط، ويتوجب على المرتحل الى عمان قصد تقري شخصية المكان وبس نبضا ان يمضي الى داخلية البلاد.
ولن تكون له وجهة افضل من " نزوى ".
فهذا اسم علم في التاريخ العماني له رجعه القوي في المدونات التاريخية العربية والعمانية التي ارخت لسيرة وأحوال هذا الشطر من ديار العرب.
ومن حسن حظنا ان القائمين على "مهرجان مسقط الشعري الثاني " جعلوا واحدة من امسياته تعقد هناك، هكذا انطلقنا ثلة من العشراء العرب تضم عبدالرزاق عبدالواحد (العراق)، ممدوح عدوان (سوريا)، المنصف المزغني (تونس)، محمد القيسي ( فلسطين) وكاتب هذه السطور يقودنا الى رحاب المدينة الشيخ سالم العبري مسؤول الانشطة في " النادي الثقافي" وكان خير الرفيق والدليل، لالمامه بالحواضر العمانية من جهة ولكونه من سكان المناطق القريبة من
" نزوى " من جهة ثانية.
تبعد " نزوى " عن العاصمة العمانية نحو 170 كيلومترا تربط بينهما طريق تتسع في قسط منها الى خطين فيما بقي القسط الاكبر خطا واحدا، ولكنه حديث على العموم، مزود بالشواخص والاشارات المرورية التي تنبه السائق الى مخاطر او مفاجآت الطريق وتحدد الوجهة الرئيسية والوجهات الثانوية التي تتفرع منها، وهو أمر قلما تصادفا في الطرق العربية على هذا النحو الدقيق.
ويحاذي الطريق، الذي شق في أرض منبسطة نسبيا، سلسلة "جبال الحجر" أدت الطابع التراكمي، التي تقطع تراصها ثغرة هنا وثغرة هناك، وهذه السلسلة الجبلية جرداء عموما لا ينبت فيها سوى القليل من النباتات الشوكية، جبال شاهقة، حادة لا يكاد يطير اليها الطير، تخلف في النفس انقباضا واحساسا بالحصار، فليس ثمة مجال لتسريح النظر فهو اما مصطدم بهذا الطود الراسخ او متطلع الى السماء، وحيثما يممت ستظل الجبال ترقبك بحدقاتها القاحلة.
وقد كنت أحسب قبل زيارتي الى عمان ان تكرار لفظة "الجبال" في قصائد الشاعر العماني سيف الرحبي ووسمه عمله الأخير بها، مجرد رمز او مجاز حتى طالعتني هذه السلسلة الجبلية، الفريدة من نوعها، بحضورها الا محيد عنه.بحضورها ألا محيد عنه.
ولا ينعدم وجود تلال وتلعات صغيرة عند أقدام الجبال الضخمة تبدو لناظرها أشبه بتكوينات عائلية، فخلفها قمم السلسلة الجبلية تعلو أو تدنو والتلاع الصغيرة متكئة اليها او طالعة من رحمها القاسي.
وحيثما تتواجد قرية بمائها الشحيح ونخيلها وبيوتها القليلة يكون على هذه التلاع ابراج مراقبة صغيرة ترابية اللون مثل التي يردها المرء في القلاع والحصون التي تكثر في "داخلية عمان ". وحسبما فهمنا من الشيخ سالم العبري فان لهذه الابراج أهميتها الدفاعية ايام الاضطرابات الأهلية التي كانت تشهدها عمان في غيبة الحكم المركزي، فقد كان شائعا ان تتبادل القبائل الغارات على خلفية التنابذ العشائري والمذهبي.
ولا تفصح المصادر العمانية التاريخية عن سبب هذه الانقسامات التي شغلت البلاد طويلا ولكنها ترجع، على الأرجح، الى انقسام القبائل العمانية الى عربية جنوبية، أصلها اليمن، وأخرى من وسط وشمال الجزيرة العربية واقسامها مذهبيا، كذلك الى "سنة" و"اباضية" وان كان للأخيرة، غالبا، سدة الحكم وصولجانه، لكن البلاد سرعان ما تلتئم لحمتها كلما هددها غاز او مشى اليها مجتاح.
ولا ينبغي ان يفوت عن البال، تماما، الباعث المذهبي او القبلي في اشعال فتيل الاضطرابات والمنازعات الحادة مهما كانت الاقنعة السياسية أو الايديولوجية، التي تتخذها لنفسه، وفي السجل العماني والعربي آيات كلاسيكية على ذلك.
ويلفت نظر المرتحل على طريق مسقط – نزوى حفاظ القرى على الطابع العماني في المعمار واللباس رغم زحف الاسمنت ومظاهر التحديث على هذه الدساكر التي بالقليل من الماء، القليل حقا، ابتدعت طراز حياة متعمقا مع الطبيعة القاصية وتحدياتها واستنبتت في السفوح وما تركته الجبال من انبساط، خضرة تقتات منها وتفيء الى ظلالها، فليس نادرا ان تجد الصحون اللاقطة للبث الفضائي تستدير بأجرامها المتباينة حجما صوب جهة من السماء وغالبا ما يكون ذلك في الجهة المقابلة لسلسة الجبال، كذلك ستلحظ الاعلانات والعلامات التجارية لسلع لا تفتأ تخترق حصانات الهوية والثقافة وأنماط العيش الخاصة.
وبامكانك أن ترى الصبية يروحون ويغدون بجلابيبهم والرجال بأزيائهم العمانية الجميلة المكونة من "دشداشة" بلا ياقة وعمامة ملونة او بطاقية دون عمامة يسمونها "الكمة" بعضهم يتزنر بحزام عريض يتوسطه خنجر فضي معقوف ويحمل بيده قضيبا خيزرانيا او عصا يمكن له ان يتوكأ عليها وبعضهم الآخر من دون الخنجر والعصا ولكن، قط، ليس من دون العمامة او "الكمة". وان صادفت رجلا في "داخلية عمان" يرتدي ثيابا "افرنجية" فهو، قطعا، ليس عمانيا. حتى في العاصمة فان قلة من الشباب العماني يرتدون مثل هذه الثياب. وكم كانت دهشة كبيرة ان أرى الصديق الشاعر سيف الرحبي مرتديا الزي العماني، وقد شعرت للوهلة بأن هناك "خطأ" ما.
ووجدت الزي العماني الذي استجملته على الآخرين غريبا بل غير مصاقب البتة لسيف الرحبي، فهو صرم شطرا كبيرا من حياته في منافي الجبر والاختيار، ولم يعد الى بلاده، نهائيا(!) سوى منذ حوالي 7 سنوات ليؤسس ويرأس تحرير الدورية الثقافية المرموقة "نزوى" المسماة على اسم ونية المدينة العمانية العريقة.
كما ان لقاءاتي السابقة بسيف الرحبي وهي كثيرة، تمت كلها على "أرض محايدة" لا تستوجب التسربل بالزي الوطني.
"نزوى" بيضة الاسلام
ندخل "نزوى" ظهرا، الشمس تتوفر فوق هذه المدينة الترابية المتكئة، برسوخ، على حواف الجبال، فتعبق رائحة القداسة، فجأة تطلع لك "نزوى" من كتاب التاريخ، ولولا أعمدة الكهرباء والطرق المسفلتة والسيارات الحديثة التي تجوب شوارعها وبضعة اعلانات سفيهة لسلع غربية لقلت بأن "نزوى" ما تزال في زمن الائمة الكبار: أشجارالنخيل المباركة، قاتمة الخضرة، تترامى حولها والقلعة والحصن يذخران الشوكة والمنعة من دون بهور القوة وصلافتها.
لا عليك من ضخامة معمار القلعة والحصن وغلظة الاسوار فذلك لا يتناقض الا ظاهريا مع السكينة التي ما تبرع ان تتحسس دفقها في الحنيات والمنعطفات والأزقة والاسواق الظليلة وفي هويني حركة الاجساد وملامح العابرين بلا جلبة من طرف في المدينة الى آخر. فاذا مضيت الى الاسواق ستهب عليك، فجأة، روائح الافاوية والبخور والاعشاب والهال وماء الورد والعطور الشرقية وسترى أمام المحال الصغيرة الباعة في ازيائهم العمانية بعضهم يبيع من دون مساومات حادة مع المشتري، كعادة الأسواق العربية، وبعضهم الآخر مستكين الى النداوة التي تمنحها ظلال السوق.
ومن الصعب ان تتفادى غواية اللعبة الابدية بين الظل والضوء، بين الحر والنداوة خصوصا في هذا المكان الذي تحكم فيه الشمس، مع الجبال، حصارا لا فكاك منه فتأخذ في رصد تراقص الاضواء المتسربة من الفتحات والكوى العالية والأزقة الضيقة.
فبمجرد انتقالك من الساحة الى "السوق الشرقي" مثلا، ستعبر من الضوء الوهاج الى الظلال والرطوبة، فكأنك تنقل الخطي بين عالمين يتبادلان لعبة يعرف الجدار والكوة والزقاق والنوافذ العالية قانونها جيدا. وسيبرهن بناء القلعة على الاستعدادات الكبيرة لصد هجوم الشمس الذي لا يفل له ساعد واستثمار الحد الاقصى للظلال في القيظ الذي يدمغ بخاتمه اللهاب معظم شهور السنة.
وفي الساحة الصغيرة التي تتفرع منها مداخل الاسواق المصممة على النمط العماني القديم تشعر لوهلة بأنك وسط ديكورات لفيلم تاريخي، فاللون الترابي الموحد وجدة ونظافة المعمار، ورؤوس اشجار النخيل التي تلوح من بعيد ومن خلفها الجبال تدفعك لان تحاول تقري الجدران بيديك لتقف على حقيقتها هذا ما قلته للشاعر التونسي المنصف المرغني الذي لم يتوقف عن التقاط الصور بكاميرته الصغيرة، المثيرة للشفقة، فوافقني قائلا: فعلا كانها صفحة من كتاب "ألف ليلة وليلة".
لم يكن المرغني وحده الذي "يطقطق" بكاميرته بل سرعان ما لحق بنا فوج سياحي ياباني كبير شرع أفراده على الفور باعتلال كاميراتهم وأخذوا يمسحون المكان بأعينهم الصغيرة وعدساتهم سواء بسواء.
×××
سأترك لهذه الذكرى التي تهب، فجأة، ان تستولي علي وأن تسترد أبوابا كبيرة لخانات وحصون وبيوتات وجهاء وأكابر، خشبها مشقق النسيج لكنه صامد للعوادي تثوي فيه مسامير بطبعات صدئة سيئة الاستدارة ومزاليج ضخمة تقلب عليها الحر والقر والمطر والريح والنسيان، سأتذكر ايضا بوابة صغيرة في الجانب الايمن من الباب الكبير تفتحها يد غضة فتصدر أنينا كأنين ناعورة عربية مهجورة رأيتها في ظاهر غرناطة يوما.
سأترك للذاكرة ايضا ان تمعن في التداعي: دخان شفاف يتصاعد من أثاف أمام بيوت طينية بعلو قامة رجل وروائح مختلطة: لبن مخيض، صابون جلبه مسافرو الليالي، قمر غامق الخضرة يشوى، شاي بالقرفة، ثمة شمس هائلة وهاجة تبسط احكامها على المشهد الصامت.
كيف انبثقت هذه الذكرى وأنا أجلس مستظلا حائطا بالقرب من "السوق الشرقي" في "نزوى" ومما تألفت، ومن أين جاءت: أمن قرى "حوران" التي عبرها عمي "موسى" على صهوة حصانه الاسحم وانا مرتدف خلفه أطالع بعين الطفل الذي كنته بيوتا طينية وأخرى كحلية الحجر يتصاعد فوقها الدخان وأبقارا تقضم الاعشاب الكثيفة على حواف السواقي واشباه المستنقعات، وفي البعيد تنداح أصوات أراغيل ومواويل شجية، وفي واحدة من هذه القرى يترجل عمي المهرب الاسطوري (في نظري آنذاك) أمام بيت كبير من الحجر له باب خشبي كبير ذو مزاليج حديدية واحدها بطول ذراع رجل وفي الجانب الأيمن بوابة صغيرة ذات مزلاج حديدي صغير يعبرها، هو، متطامنا واعبرها انا دون ان أنحني؟
أم جاءتني هذه الذكرى من زيارة مبكرة لواحة "الأزرق" الأردنية حيث ينبثق الماء بمعجزة وسط الصحراء فيصنع حياة خضراء في قلب الصفرة والهجير والصمت والانقطاع. ثمة قلعة كبيرة ايضا (أو لعلني أظنها كذلك) وبيوت من الحجر الابيض المصفر ببوابات خشبية كبيرة يدخلها الفارس على صهوة جواده؟
أم لعل هذه الذكرى الباغتة انضفرت من قراءات الأسفار ووصف مدائن الأحلام: سرقند، بخاري، غرناطة، فاس، بغداد؟
أو قد تكون ذكرى باقية من حياة سابقة عشتها محاربا في جيوش الاسلام التي فتحت مدنا اسطورية ووصلت بقاعا لم تطأها حوافر الخيول العربية من قبل؟
لن اصر على محاصرة هذه الذكرى وردها الى منشئها الأول. لا جدوى من ذلك ولا ضرورة أيضا.
يكفيني هذا الاثر البهيج لخلخلة الذاكرة وتقطع سلسلتها المحكمة، يكفيني ان تكون بوابة في "نزوى" قد جعلتني أعيش أزمنة هنا وهناك في اللحظة نفسه.
×××
لكن ليس هذا ما توحي به لك قلعة "نزوى" وانت تقف ضئيلا أمام جرمها الحجري الهائل.
لا، لا ألفة بينك وبين هذه الكمأة الحجرية الهائلة، لا تجدي المقارنة ولا فائدة من حذاقة الذاكرة، فليس لها، اغلب الظن، مثيل في أي مكان آخر، لا لأنها كبيرة، فهناك قطعا ما هو اكبر منها حجما ولا لاعجازها الهندسي فهناك دون ريب ما يبرزها على هذا الصعيد ولكن لأنها نسيج وحدها، فهي لا تشبه القلاع العربية والصليبية التي رأيتها في الأردن (قلعة الكرك، قلعة محجلون، قلعة الأزرق.. الخ) ولا تشبه أيضا قلعة حلب التي وقفت ذات يوم بعيد، تحت أسوارها المتطاولة ولا تشبه قلعة "أرنون" التي شهدت مقتلة كبيرة للفلسطينين والاسرائيليين في غزو عام 1982م ولا قلعة "صيدا" التي تتلاطم تحتها أمواج المتوسط ولا قلعة المذبحة الشهيرة في القاهرة.
ولا تشبه حتى قلعتي "الميراني" و "الجلالي" في مسقط اللتين بناهما البرتغاليون.
انها ابنة المكان العماني بامتياز.
ابنة حجره وجصه وأخشابه.
ابنة سؤاله الوجودي والروحي المقتفي تأويلا خاصا للرسالة المحمدية.
ابنة تحدي ضعفه وهوان أمره.
سيداخلني تهيؤ انني اسع وأنا ألج بوابة القلعة التي يربض أمامها مدفعان على قاعدتين حجريتين، الامام سلطان بن سيف اليعربي وهو يحث رجاله على منع اعجوبة تسير بها الركبان، فها هم المهندسون والصناع والعبيد المجهولون يرفعون البناء أعلى فأعلى تحت حدقة الشمس الملتهبة والامام الاسطوري يستزيد. فهو عائد لتوه من موقعة "ديو" التي هزم فيها البرتغاليين في واحدة من اكبر قواعدهم العسكرية في آسيا واغتنم ثرواتهم وسبل بعضا من ذريتهم البيضاء وجاء بمدافعهم أيضا ليحصن داره بما لا قبل لاحد به، قبل ان يكر كرته القاتلة عليهم في مسقط ويفنيهم عن بكرة أبيهم، ولكنني اسمع ايضا أنين الأجراء والعبيد وهم يرفعون بناء سيظن الأهلون الذين لم يشهدوا ملحمة الحجر هذه انه من صنع الجن، لا الأيدي التي براها الحجر وأفناها التراب وصارت نسيا منسيا.
×××
لم نكن نظن ونحن نغادر "مسقط" الى "نزوى" اننا سنكون ازاء واحدة من أكبر مفاجآت عمان بل لعلها الأكبر طرا، فقصاري ما حملني اليه الظن هو اننا نساق الى دسكرة أو بلدة قديمة رفعها المديح الأهلي المبالغ به الى مصاف الحاضرة.
فلم نكد نسمع مذ حللنا في "مسقط" سوى حماسات مفرطة لـ "عاصمة العلم" و "عاصمة عمان القديمة" و "بيضة الاسلام" و "الشهباء" فقلت في نفسى ان القوم يحتاجون الى نوع من "قيروان" أو "قرويين" او "كوفة" أو "فسطاط" خاصة بهم.
ولا أظن أن شيئا ابعد من هذا دار في خلد رفاق رحلتي من العرب، فهم نزلوا عند رغبة القائمين على "النادي الثقافي" لقراءة قصائدهم في بقعة نائية لا يعلمون من أمرها شيئا.
ولعلهم اعتبروا الرحلة بمجملها تضحية تكافئ أريحية المضيفين هكذا تلقينا صدمة الجمال والفرادة والمنعة التي كانت تعدها لنا "نزوى" كاملة ومن حيث لم نحتسب.
وها نحن أمام بوابة القلعة ينتظرنا رهط من رسميي الولاية بكامل أوصافهم: اللحى الخفيفة، الدشداشات البيضاء النظيفة القصيرة نوعا (سنة تقتدي برجال الاسلام الأول) العمامات الملونة، أحزمة الجلد العريضة المزركشة يتوسطها خنجر فضي معقوف مرصع بلآلئ صغيرة تلمع في الشمس، عصي الخيزران الرفيعة تهتز في الأيدي السمر النحيفة.
عبرنا من فورنا الى مضيف داخل القلعة مستطيل الشكل مفروش بالسجاجيد والبسط وبعض الأرائك، خلعنا احذيتنا واتخذنا لنا مجلسا في المضيف ذي النداوة المنعشة، فدار السلام والكلام والتعارف والسؤال عن الأخبار على الطريقة العربية التقليدية.
لاحظت ان عاداتنا في بادية الشام شبيهة بالعادات العمانية خصوصا لجهة "السؤال عن الأخبار" بعد ان يكون الضيف استقر في مجلسه وتخفف من وعثاء السفر.
"وش علومك"؟ هكذا يسألون عندنا الضيف القادم من بعيد. و "العلوم" جمع "علم" و"العلم" هو الخبر.
ورغم الهاتف النقال أو "البيجر" الذي تلمحه مشبوكا بالحزام، قريبا من الخنجر، فان "السؤال عن الاخبار" مايزال يجري على ألسنة العمانيين.
سؤال فقد وظيفته في عصر التوطين ومشاريع الاسكان الكبرى والمياه المحمولة الى البيوت والستلايت والهواتف النقالة وخل مجرد ترصيع للكلام. مجرد حلية رسبت في دارج القول من زمن التنقل والغزو والاهتداء بالنجوم والثارات التي لا تطويها الأيام.
تبدأ الضيافة العمانية بالحلوى التي تعرف على نطاق واسع في بلدان الخليج باسم (الحلوى العمانية) وهي مكونة من النشا الممزوج بالدقيق والسمن البلدي والسكر وحب الهال والزعفران وماء الورد تقدم في طاسات وتؤكل بالأيدي.
والطازجة منها لها ملمس الجيلاتين وذات رائحة دسمة مستحكمة. وقيل لنا ان الحلوى التي تصنع في "نزوى" هي "الحلوى العمانية" بامتياز، فالولاية مشهورة بصناعة ماء الورد الذي يستخدم في الحلوى، بل يكاد ان يكون "ماء الورد" حكرا عليها.
وضعت أمام كل اثنين او ثلاثة منا طاسة من الحلوى فمددنا أيدينا الى الكتلة البنية اللزجة الرجراجة ذات الرائحة النفاذة بشيء من التردد. التقمنا لقيمات صغيرة واكتفينا لفرط دسمها. كان مضيفونا العمانيون مستغربين، على الأرجح من ترددنا أمام هذه الحلوى ذائعة الصيت المصنوعة على نحو مخصوص وبعناية فائقة من أجلنا. كانت معدتي مضطربة بسبب السفر وتغيير طبيعة الطعام ومع ذلك التقمت من الحلوى أكثر مما فعل زملائي. فجريا على عاداتنا البدوية فان رفض تناول الطعام أو الشراب عند مضيفك، أيا كان السبب يعد إهانة بالغة، وفي الزمن الماضي كانت مثل هذه الفعلة تعتبر اضمارا للشر. وبعد الحلوى، جيء لنا بالقهوة، والقهوة العمانية صفراء، خفيفة، كثيرة الهال شبيهة، عموما، بما يصنعه الخليجيون على عكس قهوتنا في بادية الشام، فهي سوداء، كثيفة يزيد هالها أو يقل حسب المنزلة الاجتماعية للمضيف. فحب الهال كان، ولعله مايزال، من أغلي المطيبات ثمنا.
لم يطل بنا المقام في مضيف القلعة، فما ان فرغنا في مراسم الضيافة حتى انطلقنا نجوب في أرجائها يتقدمنا دليل سياحي عماني محترف.
كان لابد أن نسمع شرحا مختصرا عن اسم "نزوى" وموقعها على الخريطة العمانية وشيئا من تاريخها قبل الولوج في متاهة القلعة. فولاية "نزوى" حسب دليلنا، تشكل همزة وصل بين مناطق السلطنة المختلفة (الداخلية، الظاهرة، الجنوبية) يبلغ عدد سكانها اليوم ستين ألفا موزعين على 43 قرية وبلدة فضلا عن المدينة نفسها.
ومن اسماء "نزوى" الذائعة "بيضة الاسلام"، والبيضة حسب لسان العرب هي الساحة، كما انها تسمى أيضا "قصبة عمان" وتلقب كذلك "عاصمة العلم"، والعلم هنا، يعني علوم الدين، ففي المدينة كان يتم انتخاب وتنصيب الأئمة على مدار تاريخها الاسلامي.
وبهذا فهي شبيهة، اليوم، بـ "دالأزهر" في مصر مع فارق ان دور علماء "الأزهر" يقتصر على الافتاء في شؤون الدين واسداء النصح للحاكم فيما الامام في المذهب الاباضي كان حاكما دينيا ودنيويا معا، وقد استقل بالحكم فيما يسمى بـ(داخلية عمان) استقلالا كاملا عن السلطان في "مسقط" بين عامي 1920 و1955 وكان آخر امام مستقل هو محمد بن عبدالله الخليلي الذي تعاون مع السلطان سعيد بن تيمور من أجل اخراج السعوديين الذين احتلوا واحة البريمي بعد تفجر أزمة "واحة البريمي" مع السعودية.
وهكذا يتبدى معنى مقولة "من يحكم نزوى يحكم عمان". وفي "نزوى" بضعة مساجد تاريخية مهمة مثل سجد "الشواذنة" الذي أعيد ترميمه في سنة 107 هجرية ومسجد "سعال" الذي شيد في السنة الثامنة للهجرة فضلا عن بضعة حصون وقلاع أخرى اهمها قلعة "تنوف" و "بيت الرديدة".
التجليات السبع للقلعة
من يحكم "نزوى" يحكم عمان ومن يحكم القلعة يحكم "نزوى". فالقلعة بهذا المعنى هي واسطة عقد البلاد ان لم تكن حجر سنمارها أيضا.
وهي الاثر الدفاعي الاضخم في كل عمان والأكثر فرادة في جنوب شبه الجزيرة العربية على ما يقول العارفون بشؤون هذه المنطقة. والحال، ليس غريبا ان ينسب الأهلون بناءها الى "الجن" كدأبهم امام الظواهر الخارقة، من ذلك، مثلا، ما حصل في عصرنا الراهن عندما أسقط مقاومو "الجبل" الاخضر طائرة حربية بريطانية اثناء مواجهات 1957، فقيل، والعهدة على الرواة، ان الجن كانت تحارب الى صف الشيخ سليمان بن حمير المناهض للانجليز.
ترافق بناء القلعة مع لحظة نهوض عمانية حاسة تولى زمامها الامام سلطان بن سيف اليعربي الذي تولى الامامة عام 1649م ولكن قبله كان سلفه الامام ناصرين مرشد قد مهد الطريق لهذه النهضة من خلال توحيده البلاد، وسيكون على الامام سطان بن سيف ان يخرج البرتغاليين من مسقط وهي آخر معاقلهم في الجزيرة العربية. وقد أمكن بناء القلعة الذي استمر اثنتي عشرة سنة بفضل الغنائم التي عاد بها الامام اليعربي من حملة "ديو".
ويتكون هذا الصرح المعماري المهيب من مبنى دائري كبير مشيد بالحجر والجص العماني يبلغ ارتفاعه نحو 115 قدما بقطر 150 قدما.
نصعد الى أعلى القلعة بواسطة سلم ضيق يتخذ شكل حرف "الحاء" حيث يوجد عند كل منعطف من السلم باب غرضه اعاقة المقتحمين المفترضين. ويبلغ عدد المنعطفات سبعة (هل الرقم مجرد مصادفة أم يرمز الى ايام الخلق السبعة؟) تحميها فتحات ضيقة من أعلى القلعة يمكن للمرابطين فيها ان يسكبوا من خلالها الدبس المغلي على المتسللين كما يوجد تحت كل منعطف بئر وأمامها باب أو متاريس. فان افلت مقتحمو القلعة من الدبس المغلي الذي ينهال عليهم من الفتحات في الأعلى سقطوا في البئر، وان نجوا من الاثنين عرقلتهم البوابة، واذا تمكنوا من تجاوز ذلك في المعطف الاول تلقاهم الثاني وهكذا دواليك.
ويبدو ان تصميم القلعة قد أخذ في الاعتبار امكان اقتحام بوابتها المنيعة فهيأ مصائد داخلية قاتلة للمقتحمين.
وبالصعود الى المنعطف السابع نكون قد وصلنا الى سطح القلعة، او منصتها، حث تطالعنا فتحتان مغطاتان بشبك من الحديد الثقيل تفضيان الى حجرتين عمق كل منهما خمسة أمتار قال لنا أحد زملائنا العمانيين انهما كانتا تستخدمان كزنزانتين.
وقد ذكرني ذلك بزنارين قصبة غرناطة سوى ان الاخيرة تحت سطح الأرض.
لا توجد أية مرافق على هذا السطح الحجري الواسع سوى تلك المهيأة للدفاع او لتزويد الحامية بالاحتياجات الضرورية مثل بئر الماء وبضعة مخازن للأسلحة وأخرى للراحة، ويحيط بمنصة القلعة سور دائري ارتفاعه عشرة أمتار مزود بفتحات سفلي للمدافع عددها 24 تكفل انتشار القذائف من جميع الجهات كما يمكن لرماة البنادق ان يطلقوا نيرانهم عبر 480 مرمى صغيرا في القسم العلوي من السور الذي يمكن الصعود اليه من خلال 40 درجا ضيقا منتشرا على مدار المنصة.
وحسب دليلنا العماني فان قلعة "نزوى" اكتست خصوصيتها الحربية من كونها جارت التطور الذي عرفته حرب مدفعية الابراج في ذلك الزمن.
ومن الواضح ان الفكر الهندسي العماني كان على دراية بهذه النقلة الحاسمة في الحروب فجاء تصميمها ليستوعب المعطيات الهندسية التي أفرزها دخول المدفع الى برج القلعة سواء تعلق ذلك بصلابة البناء أم قدرته على امتصاص الارتجاجات.
فالقلعة تتمتع بقدر كبير من المتانة. فهي تنهض على أسس راسخة عمقها نحو ثلاثين مترا تحت الأرض وبامكان جسمها الظاهر ان يمتص الارتجاجات الناجمة عن اطلاق أعيرة مختلفة من المدافع. ويشهد على متانة بنائها، حتى بمعيار زمننا هذا، ما يرويه وندل فيليبس الذي يقول ان الصواريخ المضادة للدبابات التي اطلقت عليها أثناء حرب الجبل "الجبل الأخضر" قد ارتدت عنها دون أن تنال منها شيئا على ما يبدو.
ويتميز بناء القلعة، رغم ضخامته واتساقا الهندسي وتعقيد تصميمه الداخلي، بالتقشف من الناحية الزخرفية والتزيينية وهو بذلك ينسجم مع الرسالة التي يبثها لناظر: المنعة.
ولا يتوقع المرء من صرح كهذا أي انشغال جمالي قد يعطي انطباعا بميل القوم، وهم في لحظة مواجهة حاسة مع البرتغاليين، الى الدعة واللين.
غير ان التقشف صارم حتى في المرافق الداخلية الحميمة التي لا يصلها نظر العدو أو المتطفل مثل القسم الخاص بعائلة الامام. فلا ترى في غرفة نوم القائد السياسي والعسكري والديني للبلاد أي مظهر يدل على الرفاه، فهي ضيقة، خفيضة السقف، عادية الجدران الا من بعض كوى صغيرة توضع فيها آنية للزينة، لا يميزها نقش ولا تنطوي على زخرفة، لكن اللافت للاهتمام فيها وجود فتحة صغيرة تتصل، حسبما أكدت التنقيبات، بسرداب يقود الى خارج القلعة، والفتحة مغطاة ببساط عند اقدام السرير لا يمكن للناظر أن يلحظها. ومن الواضع أن ترتيبات اعاقة الاقتحام المفترض والنجاة منها، في حال نجاحه، هي في أساس التصميم الداخلي للقلعة، وليس هناك أهم من الامام وعائلته لتوفير سبيل النجاة أمامهم عندما يقع ما يستدعي ذلك.
وتتصل غرفة النوم بحمام يستمد ماءه من بئر داخلية تنضح بأدوات مخصصة لذلك وتجري في قناة صغيرة مكشوفة لتصب في صهريج من اللبن في داخله تنور لتدفئة الماء.
فالنظافة أساسية في حياة المسلم اليومية وعمادها الماء. وهذا رغم شحه متوافر في القلعة، فهي تستقي من سبع آبار موجودة فيها (الرقم سبعة يتكرر مرة أخرى) فضلا عن عين ماء جارية تحتها، وترفع المياه من الآبار الى الأماكن العليا بواسطة حبال تدور على عجلة مثبتة في سطح القلعة.
وكما هي عادة المعمار العربي والاسلامي فليس هناك ذكر لمهندس القلعة.
لا أحد يعرف من هو الذي خطط متاهتها الداخلية في منتهى الدقة حاسبا حسابا للظلال والأضواء، الرطوبة والقيظ، التسلل والمصائد والنجاة.
بقي اسم الذي أمر ببناء القلعة واسماء شعراء ومداحين كالوا الثناء للامام اليعربي واندثر اسم مهندسها.
ألم نقف على هذا الغياب – الحضور للمهندسين العظام الذين خططوا جوامع القاهرة الفاطمية والسلوكية و "القيروان" و "القرويين" و "الجامع الأموي" بل و "قصر الحمراء" بكل اعجازه الجمالي؟ فلماذا يبقى اسم الشاعر ويغيب اسم المهندس؟
هل ذلك لاننا أمة ترى بناء الكلمات هو الأجدر بالبقاء بينما بناء الحجر زائل؟
فان لم يكن الامر كذلك فلماذا لا نقع على ذكر لمن رفع في هذا المكان العسير معجزة من حجر؟
ينتهي تطوافنا في القلعة ولا ينتهي الأثر الذي يتركه فيك باب من أبوابها صد الريح وتقلبت عليه متوالية النهار والليل عبر القرون. نقف تحت سورها العظيم وتكون الشمس قد جازت كبد السماء ومالت الى الغرب لكن نورها وحرارتها ما يزالان على عزيمتهما الاولي. نقول وداعا للاقواس والظلال التي تتراقص في باحاتها المكشوفة. نقول وداعا للابراج التي تبسط سيطرة غير مرئية على المدى.
ونقول وداعا لمهندسها وعمالها وعبيدها وحاميتها الذين يمكن لمن توقف ورأى وانصت ان يرى اشباحهم ويستعيد أصواتهم وهم يصنعون معلقة فذة من الحجر والجص والتراب. نمضي الى موعد مضروب مع وجهاء "نزوى".. ونتطلع الى الهيولي الحجرية الرابضة في الخلف.
"فلح دارس": نعمة الماء
بالقرب من "فلج دارس" أولم لنا والي المدينة بحضور وجهائها العشائريين والدينيين.
تحت ظلال الاشجار التي تستقي من أقدم "أفلاج" عمان واكبرها كان القوم ينتظرون مجيء الشعراء العرب، فما أن رأونا قادمين حتى هبوا على أقدامهم هبة رجل واحد. كان من الصعب علينا ان نفرق بين مقاماتهم ومراتبهم الاجتماعية. فهم يتزيون بالزي نفسه، كلهم بثياب بيضاء وعمامات ملونة على الرؤوس وخناجر معقوفة في وسط الأحزمة والعصي في ايديهم ولهم تلك السحنة الهادئة التي يتميز بها المنسجمون مع محيطهم.
وجريا على العادة العربية كان علينا ان نسلم عليهم واحدا واحدا وكانوا ينوفون عن الأربعين.
فرغنا من السلام وظل القوم واقفين كل يتبادل الحديث مع القريب منه ونحن في حيرة من امر هذا الوقوف.
فهل ينتظرون، يا ترى، ضيوفا غيرنا؟
لكن أحدا لم يأت.
وطال الوقوف.
كنا، المنصف المرغني، محمد القيسي وانا نقف متجاورين، وبالتأكيد كنا متعبين بعد طوافنا في القلعة والاسواق.
ولما لم يكن المرغني على بينة بالعادات العربية الشرقية فقد جلس على الأرض بعد وقوف طال فتحولت اليه نحو ثمانين عينا. ولكيلا أترك زميلي التونسي في حرجه فقد جلست أنا الآخر رغم معرفتي بما تنطوي عليه هذه الفعلة من خرق لسنة الاحترام بين الرجال فتبعني القيسي وظل مضيفونا واقفين ولكن أعينهم المستنكرة قد تحولت عنا، فهم، لا ريب، شفعوا لنا ضعف تضلعنا بالعرف والعادة وليس أدل على بعدنا عن منابتنا الاولي من ثيابنا "الافرنجية" وشعورنا المتبعة التقاليع الحديثة. وقد هيأ لنا حرج موقفنا ان الوقوف سيطول أبدا حتى وصلت القصاع الكبيرة التي تطوها الخواف المشوية على الطريقة العمانية فتداعى الجمع الواقف الى الجلوس فسمع خفق للدشاديش وتحرك الهواء الساكن.
لكننا لم نمد أيدينا الا بعد ان طلب الينا العمانيون القريبون منا ان نفعل.
فيكفينا حرج واحد!
قال لي احد مضيفينا بعد ان عرف انني أردني ان هذه الأكلة عند العمانيين هي في منزلة "المنسف" لدى الأردنيين. لكني رأيتها لا تشبه المنسف الا في اشتمالها على اللحم والأرز، والحقيقة انها تشبه اكثر ما يسميه بعض بدو الأردن بـ" المزروب".
وهذا ضرب خاص من ثمري اللحم حيث تدفن الذبيحة او بعض أجزائها في حفرة تجمر حطبها تماما وتترك ليستوي اللحم ببطء. وقد يستغرق الامر ليلة او بعضها بحسب حجم ونوع "المزروب" فيها. والعمانيون يفعلون الشيء نفسه على نطاق واسع ولكن لحم الذبيحة يترك لمدة يوم وليلة ثم يتخرج من الحفرة المخصصة لهذه الغاية ويوضع فوق الأرز المخلوط بحب الهال والزعفران والزبيب. فما ان تمد يدك الى أي جزء منه حتى ينسل لينا.
وبطبيعة الحال فان الاكل، هنا، يتم بتحلق مجموعة حول القصعة، وكما هو الأمر مع "المنسف" ايضا، يكون الأكل بالأيدي.
لكن الغريب ان العمانيين يضعون الفاكهة، قبيل الفراغ من الطعام، على القصعة نفسها فيمكن لك ان تخلط العنب والبرتقال وما صادف من فاكهة الموسم مع الأرز واللحم او ان تكتفي بالفاكهة وحدها. فرغت من الطعام واستبدت بي الرغبة، بالتدخين، وكانت علبتي أمامي فمددت يدي اليها لكن جاري العماني نبهني الى ضرورة تأجيل ذلك.
فسألت جاري: وهل التدخين ممنوع؟
فقال لي: لا ليس ممنوعا ولكنه مكروه، وبيننا كما ترى، رجال دين على رأسهم قاضي الولاية، فيستحسن والحال هذه ان تؤجل السيجارة الى حين تغادر.
لم يكن امامي سوي الامتثال.
وكنت لاحظت وأنا أضع علبة السجائر امامي عددا من العيون تطالعني وما ان أمسكتها بيدي حتى توسعت الحدقات اكثر خشية وقوع المكروه !
ولعلهم كانوا يظنون انني سأشعل سيجارة ولكنني ارحتهم من ذلك الحرج فرفستها في جيبي.
وقد علمت ان التدخين ممنوع في جميع المحلات والدوائر العامة، وباستثناء المثقفين الشباب الذين التقينا بهم في مسقط فان غالبية العمانيين الاباضيين لا يدخنون.
ويبدو ان زميلي العماني الذي نبهني الى الامتناع عن التدخين لم يرد ان يصدمني، فالحقيقة التي عرفتها، لاحقا، ان التدخين محرم عند "الاباضيين". فأبو بشير محمد شيبة ابن المؤرخ والامام الكفيف نور الدين السالمي يثير في كتابه "نهضة الأعيان بحرية عمان" الى الحد الذي كان يوقع على مرتكب جرم التدخين في عهد الامام سالم بن راشد الخروصي وهو يتراوح بين عشر وعشرين جلدة قدام الملأ. ولما سارت الامامة الى سلفه الخليلي اكتفى، فقط، بحبس المدخن!
×××
كان الغداء الذي دعينا اليه قريبا من "فلج دارس" وهو أكبر أفلاج عمان، و "الأفلاج" خصيصة عمانية بامتياز.
فليس هناك طريقة للاستقاء والري مماثلة لها في العالم. فليس "الفلج" عين ماء جارية تضبط مياهها في قنوات ولا هي آبار ايضا، ورغم بساطتها الظاهرة فهي معقدة لجهة الوصول الى الماء وتقنيته، والواضح ان الامر يحتاج الى معرفة بطبقات الأرض التي تتجمع فيها المياه.
و "الفلج" في "اللسان" هو بمعنى الفلق او الشق ولكنه، في الواقع، ليس أي شق عادي، فمبدأ "الفلج" يقوم على حقيقة ان مستوى الطبقات الأرضية التي يتجمع تحتها الماء يرتفع مع ارتفاع مستوى الطبقات التي تعلوها.
وهكذا يصبح ممكنا الحفر أفقيا في سفوح التلال للوصول الى الطبقات الأرضية الحاملة للمياه التي تتدفق عبر الانابيب الأفقية الى حفر تجميع تتوزع بعدها في اقنية الري، كما يمكن ادخال أنابيب عمودية الى الانفاق الافقية لتسهيل استخراج الماء من جهة ولاقامة آبار عادية من جهة أخرى.
وتمتد قنوات "الفلج" أميالا حتى تصل أرضا قابلة للزراعة وغالبا ما تكون منتزعة من براثن الجبال الواقفة بالمرصاد لكل سهل او بسطة في الأرض.
وفي كتاب انجليزي مصور عن معالم شبه الجزيرة العربية قرأت ان "الافلاج"، الفريدة من نوعها في بلاد العرب، تشبه نظام الري الايراني القديم. وقد يكون هذا المصدر الانجليزي استند في ذلك الى اقامة الفرس في عمان حتى بزوغ الاسلإم، ولكن اليس أقرب الى الصحة ان نقول "اختراع" الافلاج هو حاجة أملتها الطبيعة العمانية نفسها على السكان وليس بالضرورة أن تكون "تقنية مستوردة" وخصيسة الأفلاج تأتي من خصيسة عمان نفسها على مستوى الطبيعة والبيئة. أقف أمام "فلج دارس" بما يشبه الانخطاف.
لا شيء أثمن من هذه الدفقات، هذه الرقرقات، هذا التلألؤ المثير للمياه تحت أنظار الجبال الجرداء وتحت العين النارية للشمس المسلطة على الأحياء والجمادات.
جدير بمياه هذا "الفلج" أن تغنيها القصائد.
جدير بها ان تبارك في مسراها من قلب الحجر الى قلب الانسان والشجرة والبهيمة.
فهي التي جعلت الحياة ممكنة في هذا القاع الصفصاف.
أنحني على قناة "الفلج" كمن يتبرك واحتفن بيدي من مياهه وأشرب. أروي ظمأ البدوي الى الماء، الظمأ الخالد، احتقن واغسل وجهي بأثمن مادة في الوجود، وأردد، صامتا، الآية الكريمة (وجعلنا من الماء كل شيء حي).
لن يقدر المقيم على ضفاف "التيمز" ولا "السين" ولا "الأمازون" ولا الأنهار الكبرى هذه الهبة الاستثنائية، التي تمنحها الطبيعة، العربي والمحروس بالصحراء مثله هما من يعرف كيف تنبثق الحياة من حول عين تذرف اكسير الوجود وكيف تبرعم الخضرة ويشب الخصب والشهوة في النبتة والجسد بجانب ساقية فقيرة.
من نقرة ماء صنع العرب حياة وشعرا وعلى بئر أو واحة شنوا حروبا وغزوات.
من الظمأ الى الماء خرجوا بقامات ناحلة وعلى أخف جياد في العالم وصلوا الى الانهار الكبرى والمحيطات التي لم يعرفوا لها اسما فأسموا بعضها بحار الظلمات.
فليتمجد هذا الماء.
وليتبارك.
الصعود الى الحبل الأخضر
بعد عودتنا من "نزوى" الى "مسقط" اقترح الشاعر العماني ناصر العلوي، في ليلة سمر ضمتنا مع سيف الرحبي وسعدي يوسف وقاسم حداد، أن يتدبر لمن يرغب منا رحلة الى "الجبل الأخضر". وقد تنازع هذا الاقتراح مع عرض آخر بدا أكثر اغراء لزملائنا العمانيين: اقامة حفل شواء في مزرعة قريبة من مسقط تخص، كما أظن، "حسن بوس" صديق سيف الرحبي وصاحب العرض السبارطي.
لكن اصرارنا، سعدي يوسف وقاسم حداد وأنا، على اهتبال فرصة الذهاب الى "الجبل الأخضر" قضى على آمال سيف الرحبي ورهطه في قضاء نهار من اللهو والقصف.
قلنا الأكل يمكن تعويضه أما "الجبل الأخضر" فلا. وهذا ما كان.
اذ عمد ناصر العلوي على الفور، الى استصدار تصريح عسكري بأسمائنا وتدبر سيارة ذات دفع رباعي يقودها صديق له من سكان "الجبل الأخضر" وضربنا موعدا صباحيا باكرا للقاء في اليوم التالي في ردهة "الانتركونتينتال". وهكذا انطلقنا، بعد ان انضم الينا القاص الشاب محمود الرحبي، الى نقطة لقاء دليلنا في "بركة الموز". وتحتم علي أن أعود، والحال هذه، مرة أخرى الى ولاية "نزوى". إذ أن "الجبل الأخضر" تابع لها والطريق اليه من "مسقط" هي نفسها المؤدية الى "نزوى" ولكن من دون ان نصل الى الأخيرة، فقبل "نزوى" بنحو أربعين كيلومترا تقع بلدة "بركة الموز" التي كان ينتظرنا فيها دليلنا احمد سالم الريامي بسيارته.
تزودنا في "بركة الموز" بزجاجات المياه وأفلام للكاميرا الوحيدة التي كانت بحورتنا، وهي لسعدي يوسف، وانطلقت بنا السيارة الى "بيت الرديدة"، الصرح التاريخي البديع، فتوقفنا أمامه هنيهة مفعمين النظر في معماره العماني البديع.
من "بركة الموز" نتوجه الى "وادي المعيدن" أكبر الأودية المؤدية الى "الجبل الاخضر".
واد سحيق كأنه شق بين جبلين تلمع في قاعه الحصى تحت وهج الشمس، ومن هذه النقطة حتى قمة الجبل ستكون الطريق ترابية، ضيقة، بالكاد تتسع لسيارة والأخطر انها متعرجة وذات انعطافات حادة.
الوعورة والقسوة هما السمتان المميزتان لهذا المدى الحجري. السيارة تخض أحشاءنا خضا وهي تتسلق جبلا لا تبدو له نهاية. ليس هناك معبر للجبل، من جهة الوجهة، سوى الذي نسلكه، ولكن يتعين علينا قبل اقتحام منعته واستعصائه ان نتوقف أمام "باب الجبل" وهو نقطة عسكرية تتحكم بالمدخل الوحيد للجبل ولا تجتازها الا السيارات المصرح لها بذلك.
كان بضعة جنود يرتدون حللا عسكرية مرقطة يقفون الى جانب الحاجز الحديدي أو بجوار غرفة الراحة المخصصة لهذه الحامية الصغيرة يترأسهم، كما بدا لنا، ضابط برتبة ملازم. فما ان تأكدوا من التصريح الخاص بنا حتى ودعونا متمنين لنا رحلة موفقة. سألت احمد الريامي عما اذا كان تصريح زيارة الجبل مقتصرا على الأجانب أم انه اجباري للجميع فقال انه اجراء يخضع اليه الجميع سواء كانوا عمانيين أم أجانب فالمنطقة، كلها، تابعة للجيش.
فأجاب على نحو بدا لي مواربا: ربما كان كذلك في البداية لكنه الآن يتعلق بصلاحية السيارة لعبور الجبل، فلا يسمح للسيارات التي لا تملك مواصفات خاصة، منها الدفع الرباعي للعجلات، باجتياز هذه النقطة فالطريق، كما سترى، خطرة ولا تستطيع أي سيارة عبورها. ولم يكن كلام أحمد الريا مي، الذي تقطن قبيلته القوية "بنوريام" الجبل وشطرا من "نزوى"، يحتاج الى برهان.
فقد بدا لي كأن سيارته اليابانية تصعد ملوية سامراء الشهيرة وليس جبلا.
فقد كانت تطلق عنينا متواصلا، ومؤلما في الوقت نفسه، بسبب استخدامه "الغيار الأول" غالبا والثاني عندما تنبسط الطريق لامتار معدودة تاركة حولها دوامة من الغبار.
وقد يخطر لمن يسمع بـ "الجبل الأخضر" انه أخضر فعلا، او على الأقل، حرجيا كما هي حال "جبل الشرف" في لبنان أو "جبال محجلون" في الأردن، ولكنه ليس أخضر ولا هو يشبه هذين الجبلين، فما يبديه لنا الجبل ونحن نصعد طريقه الملتوية لا يتجاوز بضع أشجار تسمى "الشحس" متفرقة هنا وهناك فضلا عن الزيتون البري، وهي شجرة قصيرة القامة لا تشبه الزيتون المثمر الذي يسمونه هنا "زيتون الشام".
ولا يعدم، بالطبع، وجود بضع أكمات من النباتات والزهور البرية الغريبة، جهرت لدليلنا أحمد بما يشبه الخيبة قائلا: يبدو ان "الجبل الأخضر" اسم على غير مسمى
فابتسم بأدب وقال انه ليس أخضر تماما ولكنه ليس أجرد مثل "جبال الحجر"، فنحن ما نزال في كعبه ولربما غيرت رأيك، قليلا، عندما نصل الى الأماكن التي نقصدها.
كنت، على ما ظهر، الأكثر الحاحا بين رفاق رحلتي على السؤال فيما كان الباقون مستغرقين بتشكيلات الجبل وتلاله ووهاده السحيقة.
وبعد نصف الساعة من الصعود الشاق بدأ الضغط يؤثر على آذاننا كما أخذ الهواء يخف ويبرد، صرنا نرى زهورا ونباتات برية تفتحت اكمامها في الربيع واشجارا وخضرة أكثر خصوصا شجرة "البوت" التي لها ثمرة سوداء صغيرة بحجم حبة الكرز. قال لنا احمد الريامي ان هذه الشجرة لا تنبت الا في "الجبل الأخضر".
وحتى الآن لم نر انعمانا أو دابة في المحيط كله.
وثم تزاحمنا على الطريق الضيقة سيارة أخرى.
كأن لا أحد يأتي أو يذهب.
لا شيء في هذا المدى المترامي من التلال والوهاد والقمم العالية سوى الصمت وغبار الطريق الترابية وعقاب وحيد يحلق في كبد السماء كأنه يرقب ببصره الثاقب هذه الدابة الميكانيكية التي لا يعوق تقدمها المضني في ثنايا الجبل شيء.
هذا مكان مثالي للانقطاع عن العالم.
لا أثر، حتى الآن، لاختراق "عولمة" السلع وشارات الاستهلاك لهذا المكان المعصوم.
فلا علب "كوكا كولا" أو أطعمة محفوظة او "مارلبورو" أو أكياس بلاستيكية تدل على النفاذ السحري لرموز "الشمال" الصناعي الى قلب العالم القديم ناظمة إياه في قيم الاستهلاك كونية النطاق. فأي حصانة لهذا الجبل؟
عزلة الجبل
حصانة هذا الجبل ليست موضع شك، فأهله وأهل ولاية "نزوى" بالعموم، يفخرون بعدم حاجتهم للعالم الخارجي ويكادون يجزمون بأن الاقدام الاجنبية التي تجولت في جنبات الولاية، هي من القلة، بحيث يمكن احصاؤها على اليد الواحدة.
فها هو أبو بشير ابن المؤرخ نور الدين السالمي يقول في كتابه "نهضة الأعيان بحرية عمان" حول صلة حكومة الامام "في نزوى" بالعالم الخارجي: "… ولم تكن لحكومة الامام بعمان علاقة بالدول العربية والأجنبية، لان من شأن العمانيين العزلة والانفراد. فهم لا يحبون الاتصال بالعالم الخارجي خوفا على استقلال بلادهم وتغير طباعهم ولم يسمحوا للاجانب بانشاء سفارة مخافة أن يجر السماح الى فتح باب للدخلاء".
وهو يستشهد لتعضيد قولته بما جاء في كتاب "عمان" الذي اصدرته شركة النفط الأمريكية وجاء فيه "ان بلاد عمان المعروفة هنا بأنها تضم الجانب الأكبر من السلسلة الطويلة من الجبال التي يطلق عليها اسم "الحجر" والأراضي الواقعة بين هذه الجبال وبين "الربع الخالي" هي من أشد أجزاء الجزيرة العربية امتناعا على الرواد ولم يزرها أحد سوى عدد قليل جدا من الرواد الغربيين.
والسياسة الرسمية التي تتبعها حكومة الامام (وهي غير حكومة السطان في مسقط) في ثني أهلها عن الاتصال بالعالم الخارجي تعزز هذه العزلة في أرضها".
ولكن "الجبل الأخضر" ليس مكانا مثاليا للإنقطاع عن العالم الخارجي فحصب بل هو مكان مثال للتمرد. وسأكتفي، هنا، بذكر حادثة كبيرة في هذا السياق. وقد وقعت في زمن الحجاج بن يوسف الثقفي الذي سير جيشا كبيرا من البصرة الى وسط عمان لقهر سليمان وسعيد ابني عباد الجلندي ولادراج البلاد في الخلافة الأموية. وبعد مواجهات طاحنة بين جيش الحجاج واتباع ابني الجلندي تمكن الجيش الأموي من هزيمة العمانيين فالتجأ ابنا الجلندي ومن بقي من اتباعهما الى "الجبل الأخضر" وتحصنا فيه.
يرتفع "الجبل الأخضر" نحو عشرة آلاف قدم فوق سطح البحر وبهذا يكون من أكثر جبال عمان علوا، فلا غرو، اذن، ان الهواء، هنا، أخف وابرد.
الهواء يلعب حرا وطليقا فوق هذا الجبل فيما هو محبوس في "نزوى" المطوقة بالرواسي.
الخضرة أيضا تزداد لكن ليس كما يوحي به الاسم. نلاحظ وجود نباتات وزهور بعضها مما نعرف في بلاد الشام وبعضها الآخر مما لا نعرف، ولحسن الحظ فان دليلنا أحمد سالم الريامي من المتضلعين بالنباتات والزهور التي تنبت في فصول مختلفة في الجبل الاخضر. وهي ذات تسميات عمانية غير مالوفة لدينا، باستثناء "العشرق" التي نلفظ قافها جيما و "ابرة الحمام" التي يسميها العمانيون "شويب الحمام"، فضلا عن "الآس" المسمى عندنا بالاسم نفسه والذي يعيدني عبقه الى زيارات قبور لا أتذكر الآن لمن وأين؟
ويؤكد الباحث البريطاني جيمس مندفيل في دراسة نشرت في عمان "حول الازهار البرية في شمال عمان"، ان الكثير من النباتات التي تنبت في هذه المنطقة آسيوية الأصل، تشبه ما هو موجود في الأراضي الايرانية وحتى في جبال الهملايا. ويعتقد هذا الباحث ان رابطا بريا كان يربط بين هذه الوجهة من عمان والبر الآسيوي الآخر قبل نحو 20 الف عام.
بعد نحو الساعة من دوران السيارة وتسلقها الشاق للطريق الوحيدة بدأت الأرض تنبسط لتأخذ شكل هضبة، صار ممكنا ان نرى على البعد بيوتا تتكئ متراصة في السفوح مزنرة بخضرة كثيفة، وتوجد القرى، والحياة البشرية، حيث توجد "الأفلاج".
ليست هناك مصادر مائية كبيرة في هذه الجهة من الجبل (الشمالية) وقيل لنا ان الجهة الأخرى أقل انحدارا وأكثر خضرة وقابلية للسكنى. ومن المفيد ان نذكر ان أمطار الجبل موسية، أي انها تهطل صيفا، ويقول دليلنا الريامي انها غالبا ما تتساقط بعد الظهر، بغزارة، أحيانا، مما يحول الأودية الجافة على مدار السنة الى سيول جارفة غير مأمونة العاقبة، وهي بهذا تشبه بعض مناطق اليمن التي تقع في نطاق الأمطار الموسمية.
وسنلاحظ شبها آخر باليمن ايضا: المدرجات الزراعية. وترجع أصول "الرياميين" الذين يسكنون "الجبل الاخضر" برمته الى اليمن، وهم بحسب العالم الجغرافي الهمداني، سدنة "معبد النار" اليمني الذي كان يضم أوثانا لعبادة الشمس والقمر.
وعلى ذمة وندل فيليبس، الباحث الأمريكي الذي كانت له صولات "علمية" في كل من اليمن وعمان، فان هذا المعبد كان مايزال موجودا حتى عام 1950، وكان يعتبرهن الاماكن المقدسة التي يحج اليها في اليمن
×××
كانت قرية وادي "بني حبيب" هي الأكثر اثارة للنجوى والخيال. توقفنا في الاستراحة الجديدة، والنظيفة جدا، التي اقامتها الادارة المحلية في ظاهر البلدة استعدادا لخطط سياحية مقبلة على ما يبدو، القرية تلوح في المنقلب الثاني من الوادي كأنها علب من الورق المقوى وضعت بتصور هندسي ساذج فوق بعضها البعض. ليس هناك طريق للبلدة سوى الانحدار الحاد الى بطن الوادي، لم نعثر حتى على الدرب الذي يفترض ان تكون أقدام الاهلين ودوابهم قد مهدته عبر الأيام. فتحتم علينا ان نقفز من صخرة الى أخرى وان نضع اقداما حذرة، عير مدربة بين حجرين او أي انبساطة نسبية في هذا الجرف.
كان رجل عجوز في العقد الثامن من عمره يصعد من الوادي من دون ان يتوقف لمرة واحدة، كان يصعد ببطء، مستعينا بعصاه، طريقا اجترحها لنفسه، كان يعرف عن ظهر قلب أين يضع قدمه، ظلت أرقبه حتى وصل الى كتف الوادي.
كان الوادي والسفح المقابل له انبلاجة خضراء لم نتصور وجودها قط في هذا المكان، كأنها افترار ثغر هذه الطبيعة القاسية، لفتتها الحنون لمن اختاروها سكنا ومأوى لهم، اشجار سنط وجوز ورمان وخوخ ما تزال عارية الغصون، ومدرجات صغيرة نبتت فيها الأعشاب وبعض خضرة الموسم، نداوة منعشة، ارتخاءة في العصب المشدود للصخور. وفجأة سمعت الصوت الذي سكنني منذ امد بعيد كموسيقى التكوين الاول، الصوت الذي يشبه ترتيلا رتيبا مفعما بالعرفان ترفعه الحياة، بامتنان المعوزين، الى بارئها: انه صوت خرير المياه.
كانت مياه "فلج" القرية نميرة، صافية، لألاءة، تتدفق ضئيلة في المجرى ثم تسيل في الوادي متخللة حصاه البيض المغسولة منذ دهور بهذه المادة النفيسة. مادة الحياة. استطيع ان اجلس ساعات متواصلة منقطعا الى هذا القداس الطقسي. كأنني استعيد شطرا من طفولتي صرمته على حواف السواقي والقنوات الطينية في كنف جدي الذي نبذ العشيرة واستقر عاصيا وغريبا في بلدة "تل شهاب" على الحدود السورية الأردنية.
يا لهذا التغريد الضئيل المتتابع، دون كلل، في قلب الصمت والهجران. يا لهذه التكسرات اللحنية التي تهدهد الروح.
لا صوت في وادي "بني حبيب" سوى خرير المياه الضئيل ووقع اقدامنا على الحصى، فقد ترك الأهلون مسرح حياتهم كما هو عليه دون ان يسدلوا الستار. فظل ما تساقط وما هجر من الأشياء شاهدا على حياة اعتصمت، طويلا، بهذه المنعة الطبيعية، كأن جائحة حلت فجأة على هذه القرية ففر الأهلون من أمامها.
اتذكر قرى كهذه رأيتها في شمال الأردن وجنوبه. ولكن الهجران لم يكن تاما.
رأيت في طفولتي قرى قررت، تحت زحف "الحداثة" الحثيث، الانتقال من بيوت الطين والبئر و "الخابية" الفخارية الكبيرة و "الطابون" و "اللوكس" الى الاسمنت وصنابير المياه وأعمدة الكهرباء والخبز الافرنجي، لكن النقلة كانت بطيئة ومتداخلة، بيت طيني يهدم وعلى انقاضه او بجانبه يطلع الاسمنت. يحرق الأرض ويميت الحياة التي كانت تندلع في الربيع على سطوح البيوت كحدائق معلقة.
القرية الوحيدة الشبيهة بهذه هي "طيبة زمان" بالقرب من "البتراء" التي آلت، بقضها وقضيضها، الى شركة سياحية حولتها الى منتجع يلبي رغبة السياح الغربيين بالاقامة في ألفة الماضي ودنوه من الأرض بعد ان أتت آلة الحداثة الغربية على روح الطبيعة. وأخشي ان يكون أهالي قرية وادي "بني حبيب" الذين انتزعوا الحياة، بالقوة، من مخالب الصخور يعدون لقريتهم مستقبلا شبيها بـ "طيبة زمان".
يلتقط سعدي يوسف الذي كان يرتدي قبعة صيادين بيضاء صورا لنا أمام بيوت القرية، يهمهم بكلمات مبهمة، لعله يردد نوعا من رقية أو تعزيم.
أما أنا فأردد في نفسي اغنية بدوية تتحدث، بحرقة، عن هجر الديار ومغادرة مرابع الطفولة.
لم تكن هذه القرية وحيدة في سفح الوادي. كانت هناك قرية مقابلة لها وشبيهة بها تماما.
سألنا دليلنا أحمد الريامي عن اسمها فقال انها تدعى "الساب"، فمضينا اليها نتقافز بين الحجارة ونتشبث بالأشجار البرية الطالعة من بين الصخور.
كان المشهد مماثلا سوى ان البيوت أحدث، على ما يبدو، من الاولي واقل.
أيضا لا أحد هناك.
لا نامة.
قال أحمد ان القرية الاولي هي الأصل. أما هذه فمجرد توسع وامتداد، فالأرض الصالحة للعمران في القرية الأولى محدودة. لا مجال للاستزادة فيها، فكان التوسع، استجابة للتكاثر، في هذه الجهة.
والقريتان، بطبيعة الحال، تتبعان فرعا واحدا من "بني ريام". فلا متسع في ربوع كهذه للغريب.
بل قل من اين سيأتي الغريب؟ فرابطة الدم هي التي تحدد، في القبائل العربية، مطارح السكني، ومن النادران يخترق "حرمة" أرضها وسكنها غريب. وما يزال هذا العرف ساريا في بعض البوادي العربية والأرياف، حيث تعرف مناطق وقرى بأسرها باسم القبيلة التي تقطنها.
فعندما تذكر "الجبل الاخضر" في عمان يقفز الى الذهن اسم "بني ريام" كذلك لا يمكن ان تذكر "الموقر" في الأردن دون أن يحضر، على الفور، اسم قبيلة "بني صخر".
نودع "الجبل الأخضر" في مساء بدأ يطلق نجومه الباكرة لترعى في مدى لا حد لاتساعه.
لا جبل فوق "الجبل الأخضر"
ولا سماء أشد التصاقا بالمطلق والمتعالي، في هذا الصقع النائي، من هذه السماء.
أمجد ناصر (شاعر من الأردن يقيم في لندن)