هيثم سرحان
يتجاوز البحثُ في النظريّة النقديّة العربيّة حدودَ المعرفة العلميّة المُتّصلة بالمفاهيم والمعارف الخاصّة بالمناهج والأدب والنّقد إلى إحساس الذّات العربيّة بالإخفاق، وشعورها بالاستلاب الناجمين عن انقطاع مسيرة الذّات الحضارية، وغياب الـمُساهمة في الإنتاج المعرفيّ الكونيّ، ونقص الفاعلية العلميّة في إنجاز المشاريع الفكرية والتنمويّة الشّاملة. وهذا يعني أنّ هناك رغبةً عارمةً لدى جميع الأمم والشعوب والثقافات في أنْ تحظى بدور مركزيّ يؤهلها لإنتاج المعرفة ونشرها وتداولها.
ولعلّ هذا التصوّر يُفارق مألوف الواقع المعرفيّ، ويُجافي الحقائق العلميّة الماثلة التي أقرّتها نظرية المعرفة الرّامية إلى إنتاج علوم ومعارف مُطلقة تتجاوز الثقافات والهويّات والأُمم؛ فأنتجت العلوم الطبيعة والرياضيّة واللسانية بهدف تعميم أهدافها وتداول مُخرجاتها لتغدو حصيلةً إنسانيّةً شاملةً يُتاحُ لجميع الثقافات والأُمم الانتفاعُ بها بعيدًا عن المركزيّات والعصبيّات والشّعوبيّات.
الحديثُ عن نظريّة نقديّة عربية يعني غيابَ التفاعل والتواصل مع منتجات الآخر المعرفيّة، وإيصادَ منافذِ قبول الآخر والانفتاحِ على مُدّخراته ومُنجزاته ومنظومة معارفه وأفكاره. فضلا عن أنّ الإقرار بنظرية الآخر النقدية والنظر إليها بوصفها نظرية نقديّة كونيّة يتضمنان تخليًّا عن خصوصيات الذّات العربية، وتملّصًا من استحقاقات بناء الهويّة، وتنصّلاً من تحديّات التنمية الشّاملة، وتخلّصًا من الأرصدة المعرفيّة العربيّة التي أُنتجت عبر قرون طويلة ساهم فيها العرب والمسلمون في إنتاج المعرفة الإنسانيّة. وبالمقابل فإنّ شَغفَ الذّات العربيّة بإنتاج نظرية نقديّة عربيّة يكشف عن إرادة معرفيّة تسعى إلى الإفلات من مركزيّات الآخر النقديّة من جهة، وعن توقٍ إلى استئناف الشروط الحضارية الذاتية للمساهمة في النظريّة النقديّة العالميّة من جهة أُخرى.
يُقْصَدُ بالنظريّة النقدية العربيّة منظومةُ الأفكار والتصورات والمعارف الذّاتية التي تُمكّنُ الذاتَ من مُقاربة ظواهرها ونصوصها وحقولها المتنوّعة وظواهرها المختلفة غير أنّ هذا الطموح يتضمّن، بالضرورة، انغلاقًا على الذّات واجترارَ ما أُنْجز عبر قرون ماضية شرحًا وتفسيرًا وتأويلاً. فضلاً عن أنّ الذّات العربية لن تتمكّن من إعادة إنتاج تراثها الممتدّ لأسباب تتصل بتعدد مرجعيات التّراث المعرفية وتنوّع المواقف منه، واختلاف السّياقات الثقافية الراهنة وتباين الإبدالات المعرفيّة المُعاصرة. ومن ثَمَّ، فإنّ الحصيلة المعرفيّة والمُخرجات العلميّة الناتجة عن التُّراث ستكون شديدة التّواضع ومحدودة الأثر.
إنّ الناظر في أسئلة النظريّة النقديّة العربيّة يُدرك أنّ هناك ضُروبًا من القطيعة مع التراث أحدثتها سياقات وأحوال متنوعة بدأت بغزو المغول ومرّت بالاستطلاعات الاستشراقية والحملات الصّليبيّة وانتهت بحملة نابليون بونابرت والاحتلال الأوروبيّ للعالم العربيّ وما نتج عن ذلك من إضعاف روابط العرب والمسلمين بتراثهم، وتطلّعهم إلى استلهام أسباب النّهضة من الغرب. وفي المقابل فإنّ القبول بنظرية الآخر النقديّة يُمثّلُ تحديًّا مضاعفًا؛ إذ إنّ هناك تكلفة معرفية باهظة ستنجم عن هذا القبول تتمثّلُ في إقبال الذات العربيّة على دراسة سياقات هذه النظرية المعرفية، والإحاطة بمرجعياتها الفلسفية، والانكباب على خلفياتها الثقافية، ومطالعة مُخرجاتها المنهجيّة، ومتابعة مُنجزاتها الهائلة.
حالة الالتباس التي تعتري الذّات العربيّة وهي تتلمّس سُبل بناء النّظريّة النّقديّة تكشفُ عن رؤيتين تستبدّان بالوعي العربيّ؛ الأولى: ماضويّة ذاتيّة مُغلقة تجد أسباب التطور في التراث، وترفض الانفتاح على مُنجزات الآخر والانسياق لمرجعياته لأسباب تتصل برؤى الـمُغالبة الحضارية، والأُخرى: راهنية تزدري التراث، وتنبهرُ بالحداثة الغربية وترى في اقتباس أنظمة الغرب المعرفية سبيلاً في التقدّم والتطور إدراكًا منها أنّ العصبيّة الحضارية والشعبويّة المعرفيّة لم يعد لهما موقعٌ في الخطاب الإنسانيّ الكونيّ في العصر الحديث.
النّظرية النقديّة حقلاً معرفيًّا
الثّابت أنّ النظريّة النقدية غدت حقلاً معرفيًّا خصبًا بدأ في الازدهار في القرن التاسع عشر، ونضج في القرن العشرين، وهو حقل طوّره الغرب الأوروبيّ والأمريكيّ عشيةَ الحرب العالميّة الأولى وما نجم عنها من تصدّعات جذريّة أدّت إلى ولادة الثورة البلشفيّة وصعود النّازيّة والفاشيّة وما تمخّض عنها من حروب ودمار.
يُقصَدُ بالنّظريّة، حسب أندريه لالاند André Lalande، الإنشاء النّظريّ للعقل من خلال ربط النتائج بالمبادئ، انطلاقًا من أنّ النّظريّة موضوعُ المعرفة المُجرّدة قبل انتقالها إلى مرحلة التطبيق والاختبار والممارسة. وبهذا المعنى فإنّ النظريّة تصدرُ عن الخير المثاليّ والحقّ المحض، وتسعى إلى إنشاء تصورّات منهجيّة مُنظّمة تنظيمًا نسقيًّا مُحْكمًا مرتبطًا بالتصورات العلمية والمفاهيم المعرفية التي تصّور الخير المثاليّ والحق المحض(1).
تسعى النظريّة النقديّة، بوصفها تأمّلًا عقليًّا محضًا، إلى تفسير عدد كبيرٍ من الوقائع والنصوص والظواهر والقضايا تفسيرًا علميًّا اعتمادًا على فرضياتٍ علمية تستندُ إلى النزعة التّجريبيّة. لذلك فإنّ النظريّة النقديّة هي ممارسة عقليّة هادفة إلى زحزحة المذاهب وخلخلة الأيدولوجيّات وزعزعة الفلسفات الشّخصيّة بأنْ تَسْتبدلَ بها نظرياتٍ علميّة ًبمقوّمات تجريبيّة.
كان مفهوم «النّظريّة» يتضمن دلالةً سلبيّة مُزرية؛ فالنظريّ يُقابل العمليّ والتطبيقيّ من جهة، ويرتبطُ بما هو غير مُتحقق وغير ظاهر من جهة أُخرى. غير أنّ الفيلسوف الفرنسيّ كلود برنار Claude Bernard استطاع، في القرن التّاسع عشر، إكسابَ مفهوم «النّظريّة» دلالة تقريظيّة مفادها أنّ النظريّة هي فرضيّة علميّة مُحقّقة جرى إخضاعها لسلطتي العقل والتّجريب. ليس هذا فحسب بل إنّ برنار قد ذهب إلى أنّ صلاحيّة النظريّة يقترن بقدرتها على التطوّر الدّائم، واستيعاب الوقائع الجديدة. وفي حال توقّف النظرية عن التطوّر، وتخلّيها عن اختبار مفاهيمها ومقولاتها وفرضيّاتها، وتراجعها عن مساءلة تصوّراتها فإنها تغدو مذهبًا يتّسم بثبات مبادئه واستقرار مفاهيمه. وبعبارة أُخرى فإنّ الكمال صفة من لوازم المذهب الذي يُقوّضُ النظريّة ويُعارضُ منطقها ويُخالف بنيتها المعرفيّة ويُجافي طموحها المنهجيّ(2).
تدرس النظريّةُ العلاقة بين الذّات والموضوع عبر تمثّيلات Representations تُنتجها الذّات لتكشف عن آليات إنتاج المعارف وقوانينها وقيمتها وحدودها وآفاقها.
وبعبارة أُخرى فإنّ النظرية النقديّة تتأسس على وعي الذّات بممتلكاتها وذخيرتها المعرفيّة ومكوّناتها اللغويّة وذاكرتها النّصّية ومُتخيّلها الثقّافيّ.
لا يختلف هاجس النظرية النقدية العربية عن غيرها من النظريات النقدية؛ إذ إنّ هاجسها، بما تصدرُ عنه من أَرصدةٍ معرفيّةٍ أنتجتها الذّات العربيّة في حقول عميقة التّداخل في التّراث العربيّ ومعارفَ هائلة ارتبطت بالقرآن الكريم ومركزيته النصّية في الثّقافة العربيّة النظريّة النقديّة العربيّة، هو إنتاجُ المناهج النقديّة الكاشفة عن مكوّنات النصوص الأدبيّة وتحليلها واستنباط معالمها الجماليّة والكشف عن علاماتها ومقاصدها وأبنيتها المتنوّعة من أجل إنجاز تفسيرات علميّة وتأويليّة لطبيعة الأدب والإنسان والرؤى المُشكّلة للعالم والوجود والنّصوص عبر سيروراتٍ مُمتدّة وتفاعلات مُتّصلة وإحالات ترتبط بالواقع المُتصل بالخطاب.
النظرية النقديّة وأسئلة النهضة
تنازعَ النظريةَ النقديةَ العربيةَ موقفان أساسيان متباينان يرجعان تاريخيًّا إلى المخاضات العسيرة التي شكّلت ملامح عصر النهضة (1798 – 1939) الذي شهد جدالات واسعة بين مختلف الاتجاهات الفكرية والدينية والسياسية والأدبية في البلاد العربيّة التي كانت قد قبعت خمسة قرون تحت سيطرة الدولة العُثمانيّة(3).
يتمثّلُ الموقف الأول في الاتجاه الإحيائيّ الدّاعي إلى البحث في التّراث عن فواعل الانبعاث وبواعث التّقدّم إيمانًا بأنّ النهضة عمليّة ذاتية، لذلك بحث دُعاة هذا الاتجاه، في التراث، عن تصوّرات معرفيّة قابلة للاستئناف، ووجدوا في آداب العرب وعلومهم في الأعصر الزّاهية مُرادهم في بناء عمرانهم اللغوي والأدبيّ والنقديّ الذي اعترته التّصدّعات بفعل سيطرة غير العرب على مقاليد الدولة العربيّة، وإصابة اللغة العربية وآدابها بالانحطاط والتّخلف والجمود، وتداعي بنيان العرب الثقافي على ما وصفه جرجي زيدان ولويس شيخو وبطرس البُستاني الذين قدّروا تاريخ «عصور الانحطاط» بالمدة الواقعة بين استيلاء هولاكو على بغداد سنة 1258 إلى دخول نابليون الأول مصر سنة 1798(4) .
أمّا الموقف التجديديّ فيرى مناصروه أنّ اتصال العرب بأسباب الحضارة الغربيّة هو ما يضمن للعرب النهوض المُرتجى واليقظة المأمولة؛ ذلك أنّ النهضة لا تستدعي العودة إلى الماضي بل تستوجب استطلاع الواقع وتتطلب استشراف المستقبل. على أنّ مكمن المُفارقة في خطاب النهضويين التجديديين يرتبط بدخول الغرب غازيًا إلى مصر في حملة نابليون بونابرت الأوّل؛ إذ تحقق عبره لقاء العرب بالغرب وولادة صدمة الحداثة الأوروبيّة التي كشفت عن أزمة الذات العربيّة التي تقاذفها الحنينُ إلى الماضي والذّاكرة المفقودة من جهة، والتّطلّعُ إلى الحاضر القائم والمُستقبل المنشود من جهة أخرى(5). وقد نجم عن هذه الصدمة ارتدادُ طائفة واسعة من أبناء العربية عن تراثهم وتصعيد أنظارهم نحو معارف الغرب، والتّشوّف إلى أنظمته الفكريّة ومنجزاته العقليّة في نزوع اغترابيّ واستلاب غرائزيّ.
لا تنفصل النظرية النقديّة العربيّة عن سائر مقوّمات النهضة؛ إذ لا يمكن تتحقق النظريّة النقديّة العربيّة في ظل وقائع موتورة، وأوضاع مأزومة، ومجتمعات مأسورة، ودول مُضطربة تنعدم فيها الديمقراطيّة والحريّة، وتسود فيها المظالم وأشكال التعسّف وأنماط التخلّف في تسيير مختلف المجالات الحيوية. ولعّل من المُفارقات أنْ توطّن النظريّة النقديّة الغربية التي تمثّلُ أبرز منتجات الحداثة الغربية في الثقافة العربيّة المُختلّة بنيويًّا والمعوَّقة معرفيًّا.
وقد كان مالك بن نبي قد هَجَس بمثل هذا التصّور فقال: «وعليه، فإنّه لا يجوز لأحدٍ أنْ يضع الحلولَ والمناهج مُغفلاً مكان أُمّته ومركزها، بل يجب عليه أنْ تنسجم أفكاره، وعواطفه، وأقواله، وخطواته مع ما تقتضيه المرحلة التي فيها أُمّته، أمّا أنْ يستورد حلولاً من الشّرق أو الغرب، فإنّ في ذلك تضييعًا للجُهد، ومُضاعفةً للدّاء. إذ كلّ تقليدٍ في هذا الميدان جهلٌ وانتحار»(6).
محنة خطاب النهضة التوفيقيّ تكمنُ في سعيه إلى الجمع بين مقوّمين: إحياء التّراث، والتّمدّن الغربيّ المعزول عن سياقاته المعرفيّة وشروطه الحضاريّة. ومن مظاهر هذا الخطاب النزوع إلى الانشغال بمقوّم التمدّن أكثر من النزوع إلى تطوير نظريات إحياء التراث، فكان أنّ غلب سؤال التّمدّن والإصلاح على سؤال التراث والهويّة(7).
الارتداد إلى الذّات والذّاكرة والهويّة والتراث في بناء النظرية النقدية يَكشف، في كثير من وجوهه، عن معصوميّة الماضي وثبات التّراث وقدسيّة مثاليته من جهة وعن سنديّة التراث ومرجعيّة السّلف ومعياريّة الماضي من جهة أُخرى(8). وهي وجوهٌ قاصرة عن بلوغ مقاصد الإبداع في الاشتغال على فواعل التراث الحيّة والتماس مكامن توهّجه، ومراجعة تصوّراته والبحث في تفعيل أنساقه، ولعلّ سلفيّة التّراث تؤكّد غياب الرؤية التاريخية الفاعلة في تناول التراث والانتفاع به انتفاعًا موضوعيًّا بعيدًا عن الاجترار والتّكرار ومبادئ المقايسة التطويعيّة المتمثلة بقياس الجديد على القديم والشّاهد على الغائب(9).
النظرية النقديّة العربيّة والتّابع الثّقافيّ
شهد الأدب العربيّ، في العصر الحديث، تطوّرًا كبيرًا في الأشكال والأجناس الإبداعيّة المتنوّعة بفعل عوامل كثيرة ساهم فيها انفتاح العرب على الغرب في عصر النهضة والتأثّر بآدابهم، فضلاً عن هيمنة النظام الأدبيّ العالميّ الذي تمخّض عن السياقات الحضارية الغربيّة وتأثيرها في الأدب العربيّ، وقد ترافق ذلك مع الهيمنة الاستعماريّة التي سيطرت على العالم العربيّ وآدابه ولغته.
وبعبارة أُخرى، فإنّ كونية النظام الأدبيّ العالميّ تُجسّدُ المركزية الغربيّة الأوربيّة التي تهدف إلى تنميط الآداب العالمية والمنظورات النقديّة في مقاربة آداب الأُمم والشّعوب(10).
كان الكاتب الألماني غوته Goethe أوّل من صاغ مفهوم الأدب العالميّ Weltlieratur أو World Literature سنة 1827. وهو مفهومٌ يُشيرُ إلى «دائرة واسعة تضمّ مجموعةً كبيرةً من الآداب القوميّة والوسيطة والحديثة، يتوضَّع بعضُها في المركز من هذه الدّائرة، في حين يقبع بعضها الآخر في المحيط منها، ويشغل البعضُ الثّالث مواضع مُتفرّقة فيما بين المركز والـمُحيط»(11).
ويصدرُ الأدب العالميّ عن نزعة أوروبيّة مركزيّة مُتعالية ترى في الأدب الغربيّ الذي تعود جذوره إلى الإلياذة Iliad والأوديسا Odyssey والإنياذة Aeneid مركزَ الأدب العالميّ، في حين أنّ الآداب غير الأوروبيّة تقع على هامش الآداب الغربية وفي مُحيطها. وتسعى هذه النزعة إلى البرهنة على أنّ «الأدب الغربيّ Western Literature بأجناسه الرئيسة والفرعيّة، وتقنيّاته الفنيّة، وحساسيّاته النفسيّة والاجتماعية، وقيمه الجماليّة، ومشاغله الإنسانيّة، معيارٌ تُقوّمُ به الآداب الأخرى، وتقيس من خلاله تقدّم أيّ أدب آخر»(12).
وإذا كان مفهوم الأدب، بوصفه مقولةً موضوعيّةً تتسم بالرّحابة، يقوم على نزعة إنسانيّة تتجاوز الحدودَ السّياسية واللغويّة والإقليميّة من جهة والخصوصيّاتِ العرقيّةَ والدّينيّةَ من جهة أُخرى فإنّ ذلك يعني أنّ الأدب العالميّ ينطوي على تنميط آداب العالم ومصادرة خصوصيّاتها؛ وعندما يتعيّن على الآداب غير الغربيّة محاكاة الحداثة الغربيّة Western Modernization وتمثّل قيمها، فإنّ هذا يتضمن تغريبًا لها وإفقادها خصوصياتها وسياقاتها المعرفيّة، الأمر الذي يكشفُ عن التَّطلّع إلى القضاء على التنوّع وإلغاء الاختلاف والتعدّد في الآداب، ومن ثّم فإنّ الأدب العالميّ ذا المرجعيّة الغربيّة يتضمّن تقويضًا لمفهوم الأدب نفسه، وتناقضًا مع الأدب العالميّ نفسه(13).
وبناء على ذلك فإنّ خطورة النظريّة النقديّة الغربيّة تكمن في تطلعها إلى إنتاج المناهج والرؤى والتصورات التي تمخّضت عن محاضن الغرب الفكرية والفلسفية لتكون مُعادلاً موضوعيًّا ثابتًا قابلاً للتعميم والتداول والهيمنة والسّيطرة على الممارسات الأدبيّة والنقديّة للأمم والشعوب الواقعة خارج المركزية الغربيّة، فضلاً عن صدور النظريّة الغربيّة عن مركزيّة معرفيّة رسّخها الغرب الاستعماريّ الذي تجاوز مركزيته إلى الطعن في اللغات السماويّة ونفي صفة القداسة عنها ورميها بالرّداءة، ولعل إحلال المقاربة الفيلولوجية في بحث لغة السماء يهدف إلى نقض مركزية النصوص المقدسة وعلويّتها من جهة وإلى تقويض اللغات السّامية ومساواتها بلغات الثقافة الهندية الأوربيّة من جهة أخرى. وحسب المستشرق الفرنسيّ إرنست رينان Ernest Renan فإنّ حضور لغات السماء عبر الكتب المقدّسة لا يجعل تلك اللغات في موقع الصدارة «حتى لو سبقت النصوص الأخرى كلها في الغرب»(14). ووفق إدوارد سعيد Edward Said فإنّ حياة النصوص والنظريّات والمناهج محكومة بالصّراعات والإقامة المستمرّة في الحدود الدّامية؛ فهي «لا تسير وادعةً في عالم مثاليّ لا قوّة لها فيه»، إضافة إلى أنّ علاقات إنتاج النصوص والنظريات والمناهج علاقات لا يتساوى فيها أطراف الخطاب(15).
إنّ النظرية النقديّة الغربيّة ومنتجاتها المنهجية لا تنفصل عن إرادة الغرب ونزوعه إلى السّيطرة، بل إنها التتويج الختاميّ لنزعة المركزية الغربيّة ومشروعها الكولونيالي وتطلعاتها في الهيمنة والتّحكم في بناء الهويّات والجماعات. واستنادًا إلى دراسات التَّابع Subaltern Studies التي تمثّل مكونًا أساسيًّا في خطاب ما بعد الاستعمارPostcolonial Discourse فإنّ الإمبريالية والاستعمار يعمدان إلى بناء مفاهيم هيمنة شاملة تُعيد إعادة إنتاج العلاقات كلّها لتصبح مرتهنةً بالمركز الكولونيالي ومَدَاراته في الوقت الذي تعمل فيه على زعزعة المورّثات الحضارية وخلخلة الأعراف الأدبيّة التي يملكها الــمُسْتَعْمَر وتأمين الظروف الملائمة لجعله تابعًا أمينًا من خلال تفكيك أبنيته الثقافيّة والأدبيّة وتقويض مفهوم أمّته ونسف تخييله الثقافي(16).
بهذا المعنى فإنّ الدعوة إلى نظرية نقديّة عربيّة يندرج في مقاومة خطاب الاستعمار والرّد على أطروحة النظرية والأدب العالميّين؛ من خلال البحث في الخصوصيات والعلاقات والانتماءات النقديّة الخاصّة من جهة، ومن خلال تجريد خطاب النظرية النقدية الغربيّة ومخرجاتها المعرفية والنقدية من السلطة والمركزيّة الغاشمتين، وذلك بالردّ بالكتابة التفاعلية التواصلية بين التراث العربي والنّظرية النقديّة الغربيّة بعد تجريدها من حمولتها المركزيّة.
مقاومة النظريّة النقدية الغربية
أسهم إخفاق مشروع النهضة العربيّة في حدوث استجابة قهريّة في الخطاب النقديّ العربيّ تمثّل في تبني النظرية النقدية الغربية وما أسفر عنها من مذاهب ومناهج أدبية ونقديّة. ومارس هذا الخطاب أعلام النقد العربيّ الذين اعتنقوا تلك المذاهب وتبنوا تلك المناهج منذ عشرينيّات القرن العشرين في استدارة كاملة نحو النظرية النقدية الغربيّة وإشاحة مطلقة عن التراث العربيّ. ولعل في مناضلة طه حسين في نفي شرقيّة مصر والبحث عن صلات بين الثقافة والعقل المصريين والثقافة والعقل اليونانيين والغربيين والتأثر والتأثير المتبادلين بينهما ما يُظهر حالات الافتتان بالغرب وأحوال التماهي معه التي اعترت خطاب هذه الطّائفة من أعلام الأدب والنقد(17).
يُمثّل الشيخ محمود محمد شاكر (1909 – 1997) أبرز النقّاد العرب الذين انتصروا للنظرية النقدية العربيّة بأبعادها الإسلاميّة، وقابلوا «المناهج الأدبيّة والسياسيّة والاجتماعيّة والدّينيّة» التي سادت في منتصف القرن العشرين الأول بالارتياب والتخوّف والرّفض؛ لأنها مناهج تصدر عن استجابات معرفيّة مع النظرية النقديّة الغربيّة التي يصفها شاكر بأنها «كانت تطغى، يومئذ كالسّيل الجارف، يهدم السّدود، ويقوّضُ كلّ قائم في نفسي وفي فطرتي»(18).
ويرى شاكر أنّ للنظرية النقدية العربية أصولاً راسخة تتمثّلُ في كتب تفسير القرآن الكريم، ودواوين الحديث النبويّ وشروحها، ومصطلحات الحديث، وكتب الرجال والجرح والتعديل، وكتب الفقه، وأصول الدين (علم الكلام)، وكتب الملل والنّحل، وكتب الأدب والبلاغة، وكتب النحو واللغة، وكتب التاريخ، وسائر ما أُنجز وأُلّف في المعارف العربية والإسلامية(19).
إنّ شاكرًا يؤسس خصوصية نقدية عربية بقوله: «اعلم أنّ حديثي عن الذي يُسمّى «المنهج الأدبيّ» على وجه التحديد= أي:
عن المنهج الذي يتناول الشّعر والأدب بجميع أنواعه، والتاريخ، وعلم الدين بفروعه المختلفة، والفلسفة بمذاهبها المـُتضاربة، وكل ما هو صادرٌ عن الإنسان إبانةً عن نفسه وعن جماعته = أي يتناول ثقافته المتكاملة الـمُتحدّرة إليه في تيّار القرون الـمُتطاولة والأجيال الـمُتعاقبة. ووعاء ذلك كله ومستقرًّه هو اللغة واللسان لا غير، …و»المنهج»، إنما هو أصلٌ أصيلٌ في كلّ أُمّة، وفي كلّ لسانٍ، وفي كلّ ثقافةٍ حازها البشر على اختلاف ألسنتهم وألوانهم ومِللهم ومواطنهم»(20).
يصف شاكر الحياة الأدبية بالفساد لانجرارها وراء مناهج الغرب الأوروبيّ ونظريته مُقرِّرًا أنّ الأمة العربية المُسلمة تملك شطري المنهج مادةً وتطبيقًا مكتملين وتاميّن منذ أوليّة الأمة، وأنّ منهجها يزداد اكتمالاً واتّساعًا وتنوّعًا على مرّ السّنين وتعاقب العلماء والكُتّاب. بل إنّ مدّخرات الأمّة العربية المسلمة، في المنهج، يفوق ما حازته الأمم كلها بما فيها اليونان، وأّن منهج الأمة العربيّة المسلمة يسمو على ما بلغته الثقافة الأوربيّة الحاضرة وهي في ذروة مجدها وقمّة ازدهارها وسطوتها العلمية وهيمنتها المعرفية(21).
يعزو شاكر باعث الاغترار واللهاث وراء نظريات الغرب الأوربيّ ومناهجه إلى أسباب أخلاقية تتصل بقصور الإدراك وغوائل الأهواء وضعف المقوّم الإيمانيّ بالدين الإسلاميّ، وهي حوادث ناجمة عن فقدان الانتماء إلى الثقافة العربية الإسلامية التي تستوجب من أبنائها الإيمانَ بصحّتها عقلاً وقلبًا وعملاً وانتماءً(22).
افتتان النقد العربي بالنظرية الغربيّة ومنتجاتها المنهجيّة يصوّر، في حقيقته، عجزًا عن تمثّل الذّات، ويُجسّدُ احتقارًا للعقل العربيّ يُقابلُه انبهارٌ بالعقل الغربيّ، ولعلّ دعوى الحداثة العربيّة واقترانها بتحديث العقل العربيّ يُمثّلُ استنساخًا لمسيرة الغرب الأوربيّ في تأسيس مشروعه الحداثيّ، وهو استنساخٌ يتضمن إسقاطَ مرجعيّة التراث، ويقود بالضرورة إلى فقدان الهوية العربيّة ومحو الثقافة العربيّة والقطيعة مع التّراث ومُدّخراته الزّاخرة(23).
وحسب عبد العزيز حمودة فإنّ صعود النظرية النقدية الغربية، في الثقافة العربيّة، اتّصل باستغلال المثقفين العرب هزيمة 1967، ودعوتهم إلى تحرير الإرادة والعقل العربيين من الماضيّ، وربطهم النظام العربيّ بالتخلف والرجعيّة والماضويّة والأصوليّة، وأنّ لوازم الحرية والتقّدم والنصر تقتضي قطيعة مع التراث بكلّ أشكاله(24).