أعجبت كثيرا بأطروحات المفكر العربي طيب تيزيني في مقاله الموسوم بـ: هل تتحمل الجامعات العربية مزيدا من الاختراقات ؟!(1).
إنه بهذا المقال قد ألقى حجرا في الماء الآسن لتحريك الجمود والسكوت عن أوضاع الجامعات الأكاديمية والتنظيمية والمالية والأخلاقية في الوطن العربي.
نعم، لقد تقهقرت المؤسسات العلمية والاكاديمية العربية، وتراجعت أدوارها العلمية والتنويرية، وتسيد التيبس الفكري والجمود والرتابة وقلة الابداع.
إذا كانت الجامعات في مراحل أولى من تطردها، قد شهدت حراكا قويا، وإبداعا متميزا، وكان المثقفون والمبدعون ورواد العلم والثقافة قادتها، وتخرج في مؤسساتها شخصيات علمية وفكرية تركت بصماتها التاريخية الواضحة في حياتنا المعاصرة، حيث كانت تتفاعل مع حركة إيقاع المجتمع، وتفيد وتثري الحياة بعلمائها ومثقفيها وقادتها البارزين. فعميد الأدب العربي طه حسين، كان من الرواد الأوائل للجامعة المصرية، والذي أغنى المكتبة الثقافية العربية بالعلوم والمعارف، وبالأطروحات الفكرية والاجتهادية والنقد الجريء.. لقد بدأ خطواته الأكاديمية الأولى، بنقد التعثر والجمود وأساليب التلقين في المؤسسات التعليمية. الجامعية المصرية، وأكد على الحرية الفكرية لأنه بدون الحرية والنقد لا نستطيع أن نخطو الخطوات السليمة الى الامام (2).
وعليه، فان من الاشكاليات ائتي وقعت فيها الجامعات العربية "اليوم" هو قلة النقد والتيبس الفكري والجمود. فبدلا من أن تكون الجامعات مصدرا من مصادر الحرية والفكر الجريء والنقد الهادف، ومصدرا للعلم والفكر والالهام والابداع، أصبحت تستهلك فقط ما ينتجه المفكرون والعلماء من خارج أسوار الجامعة، واكتفي (البعض منهم) بشر في الألقاب الأكاديمية. التي تم الحصول عليها بمراسيم وهبات، لا تمت بصلة بالابداع والابتكار والكدح الذهني المتميز.
لقد وضع الدكتور التيزيني النقاط على الحروف، عندما ركز عن المعضلات الأكاديمية والأخلاقية التي أفسدت الحياة العلمية والأخلاقية في الجامعات العربية، وبسطها في نقاط ثلاث هي:
1- انتزاع الاستقلالية العلمية والأيديولوجية للجامعات من قبل المؤسسات والمكاتب والأجهزة.. وفي سياق ذلك راحت جموع من "الأساتذة" تقتحم الحرم الجامعي دون أن يكون لديها الامكانات الضرورية للعمل العلمي الجامعي..
2- الهجرات الفردية والجماعية لكتل متسعة من الأساتذة الى جامعات تكفل لهم الكفاية المادية والكرامة الاجتماعية..
3- لجوء أعداد متكاثرة من الأساتذة والمؤسسات الجامعية لبيع أسئلة الامتحانات ومنح الدرجات العلمية مقابل "أعطيات" من الهدايا والمال أو المناصب.
إذا كنا ننادي بإصلاح الجامعات العربية، فالاصلاح يجب أن يكون شاملا في جميع الصعد العلمية والأكاديمية والإدارية، وركيزة الاصلاح الأساسية في الجامعات العربية،هو إعادة الاعتبار للأستاذ الجامعي، الذي أهدرت كرامته، بحيث يتم التدقيق عند القبول للجامعات الى نوعية العناصر العلمية المستقطبة الى هيئات التعليم العلمي والأكاديمي، وأن تكون من أساسيات القبول الكفاءة العلمية والعملية للأستاذ الجامعي، وترك الاعتبارات الأخرى جانبا بعيدا عن التحيزات، ومثل هذا المعيار لابد أن يطبق على الطلاب الملتحقين بالدراسات الجامعية، حيث ان البعض منه تستهويهم الشهادة الجامعية أكثر مما تستهويهم العلوم والمعارف الاكاديمية. وفي هذا السياق نطالب بتحرير الاستاذ الجامعي من سطوة الجهاز الاداري والذي تحول من أداة لخدمة العملية التعليمية والأكادمية الجامعية، الى جهاز معرقل للعملية التعليمية والاكاديمية الامر الذي يؤدي الى إرباكات وإهدار للوقت للمتابعات والروتينات البسيطة والتي لا تحتاج الى ذلك الجهد والوقت في سبيل إنجاز المهمات.
إننا بشكل عام نعاني من أزمة ديمقراطية في بنيات العمل الاكاديمي والعلمي وتتجل هذه الازمة بصور شتى أبرزها في علاقة الاستاذ الجامعي بالادارة وعلاقة الادارة بالاستاذ، وعلاقة الطالب بالاستاذ وعلاقة الاستاذ بالطالب.
في الوقت الذي كان من الضروري أن تكون، الجامعة منبرا حرا من منابر الديمقراطية ومصدر اشعاع للفكر والتنوير في نهضة وشموخ الممارسات الديمقراطية السليمة.
ولا نجانب الصواب إن قلنا اننا نعاني من انفصال وتباعد ما بين الاقوال والافعال، نعاني من تناقضات واسقاطات مختلفة، ولعل ابرزها "التناقض الوجداني" كما يعبر عنه علماء النفس. فالبعض من اساتذتنا الكرام، عندما لا يكونون في المواقع القيادية الأكاديمية، يكونون اكثر نقدا للنقائص والثغرات، واكثر ديمقراطية في التعامل الانساني مع الآخرين (أصدقاء، وخصوم)، و أكثر تسامحا وسعة صدر، وعندما يتسلمون مناصب قيادية اكاديمية تتغير سلوكاتهم، ويضيقون ذرعا بآراء الآخرين ويتحولون الى أعداء حقيقيين أدي أصلاح سديد، ولكل من يتجرأ على الحديث عن الفساد والنقائص والعشوائية ولكل من يجتهد في وضع النقاط على الحروف.
فإذا كان هؤلاء قادة المتنورين والمؤسسات الأكاديمية (البعض منهم)، فكيف لنا أن نلوم البسطاء من الناس، وغير المتمدرسين في حالة ارتكابهم الاخطاء، والتي قد تكون احيانا دون قصد؟!
ان العلاقات الاكاديمية الداخلية قد تكون أحيانا، مليئة بالحسد والكراهية، ولربما يكون ذلك ناتجا عن عدم المساواة والاختلالات في الحقوق والواجبات في الهيئات التعليمية والتمييز المستمر ما بين هذا وذاك وما بين هؤلاء وأولئك..، أو قد تكون استمرارا لعراكات قديمة تظل حبيسة النفوس.
لقد صور أحد الكتاب الساخرين حقد المثقفين على النحو التالي:
المثقف حين يصل الى كرسي السلطة يصبح أكثر قمعا وتسلطا، يتقمص دور الجلاد، ويتفنن في تعذيب ضحاياه.. وحقد المثقف لا يظهر على اللسان.. إنما يبقى مطمورا ومتوهجا مثل جمرة تحت الرماد.. فثقافته تساعده في اخفاء أحقاده، وعلى تضليل ضحاياه بالأفكار الجميلة، والكلمات المعسولة، وهو يظل يدعي النزاهة ويزايد باسم القيم الجميلة والأفكار النبيلة والمباديء العظيمة، حتى إذا واتته الفرصة، تجل على حقيقته (1).
وتغيب في أحايين كثيرة الرؤية الاستراتيجية في بعض الجامعات العربية، فضلا عن الارتجال والعشوائية والأزمة المزمنة في التنظيم والترتيب والتخطيط الإداري والأكاديمي.
فبدلا من أن تكون الجامعات مصنعا حقيقيا للأجيال ولتخريج وتأهيل المثقفين والمتمدرسين والفنيين والكوادر بأفرعها المختلفة، تحولت الى مؤسسات لهضم الكفاءات العلمية والأكاديمية، وتخرج أعدادا من الكتبة الشبان بألقاب وشهادات علمية ركيكة المعارف والأداء، وفي أحايين تهضم المبدعين والموهوبين من الأساتذة والطلاب، حيث تمنع الكفاءات الأكاديمية الرفيعة من دخول الحقل الأكاديمي، بحجة عدم وجود شواغر، أما السبب الحقيقي والدفين عند أصحاب الشأن هو الخوف من الكفاءات العلمية المتميزة. وليس بغائب على أحد، من أن المؤسسات الأكاديمية العربية، تزخر بكم هائل من القوانين واللوائح والتعليمات والحقوق والواجبات للأساتذة والطلاب، ولا تجد طريقها للتنفيذ، ما عدا النذر اليسير منها، حيث يتم التعامل معها بانتقائية شديدة،وتطبق حسب الأمزجة والاتجاهات،وليس على أساس الأنظمة والقوانين. فالواجبات كثيرة ويتم التشدد حيالها الى درجة تصل أحيانا الى مستوى من التعسف والضيم، أما الحقوق فيتم التلاعب بها وتطبق حسب الأهواء والأمزجة.
فالجامعات العربية لابد أن تكون من المؤسسات التحديثية في المجتمعات العربية المعاصرة، وحصونا قوية من حصون النهوض الحضاري والتحديث المجتمعي، حيث تحولت بعض المؤسسات الأكاديمية من أداة تحديث الى أداة تدجين وجمود، الأمر الذي أعطى أساسا للمتزلفين في التمدد والتسلق على حساب المقاييس والأعراف العلمية والأكاديمية.
إن الجامعات العربية تحتاج الى إصلاح سريع وحقيقي دون تباطؤ حيث إن الجامعات تعاني من عثرات ومصاعب جمة ولعل أبرزها:
1- ضعف أداء الإدارة والتنظيم والتخطيط.
2- عدم امتلاك رؤية استراتيجية حقيقية لعمل المؤسسات الأكاديمية.
3- انفصال الجامعة الجزئي أو الكلي عن المجتمع ومشاكله ومتطلباته.
4- التدخل في شؤون الجامعات العربية من جهات غير جامعية، مما أفقدها الاستقلالية، وأضعف هيبتها العلمية والأكاديمية.
5- ضعف القاعدة العلمية والبحثية والأكاديمية لأسباب عدة.
6- ضيق مساحة الحرية والممارسات الديمقراطية.
7- سوء التدبير وتبذير الامكانيات العلمية والمادية في أمور بعيدة عن العمل الأكاديمي العلمي الحقيقي.
8- ضعف القيم والمباديء الديمقراطية وعدم فاعلية المؤسسات المدنية الحديثة في الجامعات العربية، مثل النقابات والتي تحولت من أداة للدفاع عن حقوق وكرامة منتسبيها الى أداة لمصادرة حقوقهم وتمييعها.
9- ضعف القاعدة المادية التجهيزية الحديثة لبنى الجامعات العربية، فبدلا من تجهيز الكليات والمؤسسات العلمية بالأدوات والمختبرات والكمبيوترات والتقنيات الحديثة، يتم منحها لأقسام في إطار الجامعات، وتهمل مواقع العمل الأكاديمي وتحرم من هذا التجهيزات.
10- ضعف روح التسامح، حيث تتحول التباينات والاختلافات في بعض الهيئات الأكاديمية الى عراكات عنيفة توظف فيها النعرات الحزبية والمناطقية والعشائرية والشللية.. أو أحيانا يتحول التباين من تباين بسيط، يمكن حله بالطرق الديمقراطية السليمة الى تباين عويص ومعقد.. الأمر الذي يضعف من روح التسامح والمكانة الأكاديمية للجامعات.
11- احتقار بعض الكتبة للعسل الذهني والفكري، واعتباره عبثا لا فائدة منه.
12- التعيينات الأكاديمية غير السوية، والتي تكون بعيدة عن الكفاءة والقدرة والموهبة، تعطي هذه التصرفات زادا لمزيد من التفتت والتراجع في العمل العلمي والأكاديمي، مما أدى الى تحول العمل الأكاديمي الى مجرد أشغال إدارية روتينية.
13- التناقض بين حزم القوانين والقرارات وتطبيقاتها على أرض الواقع.
14- ضعف مبدأ الحوافز والتشجيعات للأعمال العلمية والأكاديمية المتميزة مما أدى الى خلق نوع من الاحباط في نفوس المشتغلين والمبدعين في مجالات العمل الأكاديمي أو ذهاب الحوافز والتشجيعات لغير مستحقيها.
15- ضعف التطبيق للوائح والقرارات الخاصة بالتعيينات للأساتذة وكذا بالنسبة لسياسة قبول الطلاب في الجامعات، مما أدى الى التحاق أعداد من الأساتذة والطلاب بالجامعات من غير الأكفاء، وبالتالي أثر هذا المسلك بشكل سلبي على العمل العلمي والأكاديمي.
16- ضعف الأداء الأكاديمي في بعض الجامعات أو بعض المؤسسات الجامعية، وتحولت بالتدرج مؤسسات العمل الأكاديمي الى الرتابة والجمود والتيبس الفكري والابداعي، وهذا الوضع ساعد كثيرا على استمرار البعض في مزاولة الأساليب التلقينية والتدريسية العتيقة والجامدة.
17- ضعف مبدأ الثواب والعقاب.
الهوامش:
1- طيب تيزيني: "هل تتحمل الجامعات العربية مزيدا من الاختراقات". نزوى – عمان. العدد (16)، أكتوبر 1998، ص 255- 256.
2- أنظر مثلا أ.د. طه حسين، في الأدب الجاهلي. دار المعارف، مصر. د.ت. ص 7-45.
3- عبدالكيم الرازحي، "مقاولو الثقافة وثقافة المقاولات". الشورى – صنعاء. العدد (247)،
19-10-1997م، ص 12.
سمير عبدالرحمن هائل الشميري (كاتب واكاديمي من اليمن)