إن سرد ما بعد الحداثة لا سيتبرأ من الماضي ولا سيحقره، كما أنه لا يحيي الماضي في حنينه اليه، بلى يكشف الماضي بصورة أيديولوجية ومعرفية، كما أنه يرتبط بصورة ما بالأنماط السينمائية، وغالبا ما يشير القص بعد الحديث الى قضيته العرض الروائي وكيفية حدوثها، مبينا قواها المتعددة والمتضاربة وحدودها أيضا، كل ذلك دون شفافية أو وضوح وانما نوع من العتمة، التي تثير كثيرا من الأسئلة التي تتعلق بجنس الكتابة وتاريخية هذا السرد، هل ينتمي الى لحظة
زمنية بعينها؟ وما دوره في تلك اللحظة الواهنة ؟ وسياسة العرضي الروائي قد تكون ذات كفاءة عالية عندما يتعرض السارد "الروائي" للحظات يومية ذات أبعاد تاريخية، لا يمكن نفيها ولا يمكن كذلك اختصارها في رمز من الرموز القابلة للاستهلاك السريع، مستفيدا مع هذا من قوة الحضور للشخصية وامتدادها الأفقي، الذي يشي بكثرة السطوح المتعاكسة والمتقابلة، والتي يلعب الانفعال فيها دورا كبيرا في تثبيت الدلالة الروائية، أما إذا اهتم العرض الروائي بالوقائع السياسية المباشرة فإن كفاءته تصبح محدودة للغاية وكأننا أمام وقائع خبرية لا رابط بينها إلا طريقة السارد.
وقد تحدث رواية ما بعد الحديث اضطرابا لدى القاري؟ من ناحية السرد: من السارد؟ وهل هناك نص مكتوب ؟ شفهي أم منسوخ ؟ وكذلك من ناحية الحبكة والبناء الرمزي، بل حتى الوجود المادي. ليس هناك حكاية يمكن قصها. وليس هناك حقائق يمكن سردها. بل طريقة العرض نفسها والكتابة هنا ليست بلاغة بل فن لفض بكارة الرموز.
يقول "لينارد ديفيز" واصفا سياسة العرض الروائي: الروايات لا تصور الحياة بل تصور الحياة كما تمثلها الآيديولوجيات، فالآيديولوجيا تجر العرض الروائي الى الحياة العامة وتجعله يبدو طبيعيا أو يتمشى مع الفطرة السليمة.
وتمثل رواية "الآخرون" للروائي التونسي "حسونة المصباحي" في السرد العربي مع غيرها هذا الاتجاه أحسن تمثيل، وتتجل سمات ما بعد الحداثة الروائية في التالي:
أولا: انتفاء مفهوم الشخصية البطل، رغم أن الرواية رواية سيرة ذاتية، فقد شارك في السرد رواة متعددون، يذكرونك بأبطال ألف ليلة وليلة" وكأن الحكاية هي البطل الأساسي. ولا أقصد حكاية واحدة ولا تقنية واحدة وانما حكايات يتوالد بعضها من بعض وينحسر دور "الكاتب" الراوي في خلق هذه الصلات والعلائق المتشابكة والمتعددة بين الشخصيات وحكاياتهم المختلفة، والتي يمكن حصرها في: البحث عن كيفية الوجود ومواجهة العالم الخارجي بكل وحشيته. فالراوي الأساسي "الكاتب" من تونس ينتمي الى مجموعة من الفوضويين والعابثين، الذين لا يمارسون عملا بعينه ويهتمون بالأشكال الرمزية للوجود سواء في شكلها المعيشي واليومي أو الباحث عن تطور آليات المجتمع الذي يعيشون فيه، وتشكل الماركسية البنية الحاكمة والمؤسسة في رؤيتهم للعالم. مع بعض الخروجات استجابة لهوسهم بالحياة وصحبتها أو لكونهم منتجين رمزيين، شعراء وقصاصين. ويشكل "السفر" بمفهومه الشرقي، القائم على الاستكشاف والمعرفة الحسية المباشرة هاجسا انسانيا لدى تلك الجماعة، والاختيار قائم بين الاتجاه غربا، حيث الجماعات البشرية المنظمة، والمنفية والتي حققت أكبر قدر من التطور والحضارة أو الاتجاه شرقا حيث المخيلة الأولى والمنابع التي لا تنضب للفكر والشعر، ويختار "الكاتب" الاتجاه شرقا. وكانت الصدمة عنيفة "فليبيا" مكان صحراوي خالي من الحياة وتجلياتها الصغيرة، فلا نساء بالشوارع ولا بارات ولا مقاهي ولا تجمعات ثقافية وسياسية ساخنة وكذلك سورية وبغداد وكأن الاستبداد سمة شرقية.
وثاني الرواة صديقه "خالد" أمير الصعاليك، الجامع لكل التناقضات ومركز الجماعة ومدبر شؤونها، شاعر ومناضل ماركسي، كثير التنقل، وكثير المعرفة، يدلهم على الجديد فيها ويوفر لهم مصادرها من كتب أو لقاءات شخصية مع بعض المبدعين المفكرين الكبار، فهو الذي عرفهم على الشاعر "لوران جاسبار" والمفكر "العفيف الأخضر".
ثانيا: كوزمو يوليتانية المكان والشخصيات، فلا مكان واحد للسرد، إذ تتعدد الأماكن بين الشرق والغرب، بما ينتظم كل مكان من علاقات اجتماعية وثقافية، يكون لها الدور الفاصل في سلوك أفراد الجماعة، دون مواجهة بين الشمال والجنوب، وانما رغبة عارمة للتحاور دون طمس للخصوصيات، وان كان المسعى الأخير للرواية هو خلق مكان كوني عالمي، تتحرك فيه كل الشخصيات وكأننا أمام مكان "يوتوبي" أو متخيل إلا أنه يسعى الى التحقق من خلال شخصياته التي لا تقل كوزمويوليتانية عن الأماكن، وان لعب الشمال "فرنسا، ألمانيا" مكان التقاء كل هذه الشخصيات، وإن ظل للجنوب سحر التاريخ وطفولة الأشياء ممثلا في دياناته وأساطيره المتعددة، وامتداده الروحي العميق وكأنه متحف للسلالات المنقرضة.
ثالثا: حضور طقس الأصدقاء المتعددي الجنسية بديلا لطقس العائلة، فطقس الأصدقاء أفقي غير عميق وغير ممسوك بالجذور، ولا تاريخي وانما هو لحظة حاضرة، بكل ما فيها من تشابكات وتعقيدات، تلعب الاحتفالية الجنسية فيها دور البطولة، والجنسي هنا ليس عميقا قائما على المشاعر والعواطف، بل بارد وسلعي خاضع لقانون العربي والطلب وان كان بشكل غير مباشر. وبجوار احتفالية الجنس تتوالد احتفاليات أخرى أكثر أفقية ومتماسة تماما مع السطح كاحتفالية الأكل والشراب، كأنها طقس بدائي، لا غاية من ورائه أكثر من استلهام الرموز المتمثلة في كيفية الأكل والشراب، وكيفية قضاء أوقات الفراغ، وكأننا أمام نماذج تمثيلية لتقارب الحضارات والثقافات المختلفة.
رابعا: حضور الحكايات الكبرى (الماركسية – القومية – وغيرها) بشكل كاريكاتيري، يثير السخرية، فهي ليست حاضرة بذاتها وفي أشكالها المتعارف عليها كالتنظيمات السياسية أو التجمعات، وانما جاءت عن طريق الحكي وكأنه فعل قديم قد حدث وانتهى، فهى كالأشباح، فشخصية "العنيف" الباحث عن الحقيقة والكاره لرجال الدين والحكام الطغاة لم يجد ضالته ولا مرة واحدة، سواء في تونس أو بيروت أو فرنسا وانتهى به الأمر أن أصبح مهووسا ومتخوفا من الرأسمالية الجديدة التي سممت – في نظره – كل شيء وسيطرت على كل شيء ولم يبق للانسان الفرد أي شيء يمكن أن يفعله، وهذا يتسق في جسده النحيل وصوته الضعيف وحدته غير المبررة وتخوفه من كل أصناف الطعام، فهو يعتمد فقط على أكل الشعير والفواكه ذات الأغلفة مثل الموز والتين، وهذا هو حال النموذج الاشتراكي الماركسي، فهو لم يتورط في صخب الحياة الجديدة ولم يتخلص بعد من أفكاره القديمة فهو يعيش على الحافة، ضيفا على الأشخاص ومحاورا هادئا أو عنيفا للأفكار والنظريات الجديدة. أما النماذج القومية و الدينية فلم تمثل تمثيلا حيا في الرواية، واكتفى الروائي بالاشارة الى بعض البلدان ذات التوجه القومي أو الديني مثل شخصية الفتى الآشوري "شامونيل شمعون" الذي قمع في العراق منذ ترحيله من الحبانية موطن الآشوريين وخدمته في القوات المسلحة ومشاركته في ضرب الأكراد ثم حلمه الأسطوري بالخروج من العراق وكأن حزب البعث القومي كائن خرافي أسطوري، يستطيع أن يسمع كل البشر وأن يراقبهم ويعاقبهم كذلك وربما لأخطاء لم ير تكبوها، فهو يعاقب الأقليات الكردية والأقليات الآشورية والأقليات الدينية، وشأن البشر جميعا مدانون ومتأمرون ضد هذا القومية، ويصبح حلم الآشوري أن يكون مخرجا من أمريكا (نموذج) الانسانية الجديدة المتحررة من عقدة التاريخ، والتي تحتكم فقط في التقييم الى ما يقدمه الانسان دون النظر الى دينه أو قوميته، كما كان حلم أبيه الارتباط بالمستعمر الانجليزي في صورة الملكة (ملكة بريطانيا) في ذلك العهد.
إن تحلل الحكايات الكبيرة ربما يحدث نوعا من العدمية الانسانية أو قلقا خاصا تجاه الموروثات في أشكالها المتعددة والمختلفة إلا أنه في النهاية يفتح الباب لكل الجماعات البشرية في المشاركة دون النظر الى ما تملك سواء قليلا أو كثيرا، وسواء كانت هناك خصوصية أم لا وانما يكو دن المعيار هو الفعل الانساني الآتي وما يصاحبه من مشاعر وعواطف وربما آليات تفكير جديدة.
خامسا: التهجين في الحداثة كان هناك سعي محموم للنقاء ومن هنا كثرت الثنائيات الضدية مثل قديم /جديد، متقدم ام متخلف، مدني/ديني، اسطوري/عقلي، اما ما بعد الحداثة فإنها ترضى الهجنة وتعيد النضر في كل هذه الثنائيات وتدعو الى تجاوزها الى صيغة أكثر انسانية وأكثر رحابة ففي العمارة تجاورت الأشكال الشعبية مع الأكثر الحديثة، وهن هنا رد الاعتبار لكل ما هو تاريخي، ولكن ليس بفرض تكراره وإنما بغرض تمثيله في الصيغة الجديدة. وحدث هذا أيضا في الرواية، فسرد "حسونة المصباحي" من حيث التقنية اعتمد اللغة النقية بجوار اللغة الشعبية بل واعتمد بعض اللغات الأجنبية، في بعض المواقف وكذا في البناء فقد اعتمد بناء الحكاية وهي قديمة وتاريخية إلا أنه اعتمد المعمار المتشظي في الرواية ككل وعلى مستوى الدلالة وانتاج الخطابات تجاور الخطاب الأسطوري ممثلا في شخصيات مثل "البهلول" غرس الله. يقولون: إنه كان شديد الخوف في صباه وكان صموتا، دؤوبا على أن يبدو نظيفا طول الوقت، معرضا عن الجلوس الى الناس، نفورا هن الأعمال الزراعية أبدى مقدرة عجيبة في حفظ القرآن، حتى أطلق لحيته ولبس الصوف الخشن، وأخذ يتردد على المقابر ليلا بل ينام فيها، ويصاحب شيخا مشردا أعمش العينين متقرح الجسد، مكشوف العورة، يهذي بكلام غريب ثم اندلعت الحرب العالمية الثانية، واختفى غرس الله لمدة عامين، بعدها عاد وطلب الزواج ثم طلق زوجته بعد عام وأصبح يمثل ضمير القرية الحي الذي ,I يتحلى ولا يتحدث وكذلك الشخصيات الليبرالية ذات الحقوق المدنية والباحثة عن مؤسسات فاعلة في المجتمع وهو، تمثله شخصية "رنا" اللبنانية التي هاجرت مع والدها الى الكويت ثم نزولها هي وأمها فقط الى بيروت بعد فشل مشاريعه التجارية وطلب أمها الطلاق وعودتهم الى سورية ذات الإرث الحضاري الخاص، حيث النساء محجبات ولا يخرجن إلا لسبب ولا يختلطن بالرجال الأغراب، فتتعلم الفتاة الكتابة، كأول مقوم للشخصية الحديثة وتسر فض زوجا سودانيا كبيرا في السن وتنضم لاحدى المؤسسات المدنية دفاع عن حقوقها والحقوق السياسية الأخرى.
تتجاور هذه النماذج في اختلاط ساحر وعجيب يكشف أول ما يكشف عن غنى اللحظة الواهنة وامكانية التجاور القائم على. الاختلاف والذي يعززه الحوار لا النفي والقطيعة، بل إن التجاور قد يسمح على المستوى العالمي بتجاور الثقافات والحضارات أو حضور احداها في الأخرى كما حدث مع شخصية الشاعر "لوران جاسبار" الذي ينتمي الى منطقة "الكاربات" نفس المنطقة التي ينتمي اليها مبدعون كبار مثل بأول تسيلان ويوجين يونسكو وسيوران، وقد ذهب الى باريس بعد الحرب العالمية الثانية ومنها ذهب الى الشرق حتى فتتت حرب 1967م حلمه بميلاد شرق جديد.
إن سرد ما بعد الحداثة في الثقافة العربية، ربما يكون هو أقصر الطرق للمشاركة الانسانية في الابداع ذي الطبيعة الانسانية أيضا، والتي تضع الخصوصيات موضع النظر والاعتبار لا باعتبارها خصوصية مغلقة و غير قابلة للحوار وانما باختبارها هوية متجددة تساعد على التواصل والعمل الانسانيين.