سمير اليوسف
(1)
«الحب هو بحث عن الحقيقة» يقول الفيلسوف الفرنسي آلن باديو «الحقيقة في علاقتها بأمر دقيق تماما: أي عالم يراه المرء حينما يخبَرُه من وجهة نظر اثنين وليس واحدًا؟ كيف يكون العالم حينما نخبره، نطوره ونعيشه من منطلق الاختلاف وليس الهوية؟»*
الحب، وفقًا لذلك، قد يكون السلاح الوحيد في مواجهة شيوع ثقافة الجناس حيث يُعرّف كل موجودِ، بشرًا كان أم جمادًا، من خلال تشبيهه بشيء آخر مماثل له، وبحيث تنتهي الموجودات كلها، كائنات حيّة وأشياء، إلى أن تكون صورًا أو نسخًا لبعضها بعضًا.
في عصرنا، عصر الرأسمالية المتوحشة، وربيبتها «الفكرية» الليبرالية الجديدة، التي تعتبر السوق الاقتصادية الحرة قدَرًا نهائيًا لا مفرّ منه، كل شيء يجب أن يشبه شيئًا متداولًا. لم تعد الفردية، التي تقضي بتميّز كل فردٍ عن آخر، سوى ضرب فظ من الأنانية المُعلنة.
تبعًا لليبرالية الكلاسيكية فكل إنسان هو فرد، كائن مستقل حرّ الإرادة، ومن الطبيعي أن يتميّز عن بقية الأفراد بآرائه وذوقه وطريقة حياته. وعليه فلا بد من التأكيد على أهمية الحرية التي تضمن لكل فرد أن يكون نفسه وليس مجرد نسخة عن آخر. ولكن بعد تجيير الخطاب الليبرالي في خدمة سياسة السوق الاقتصادية الحرة، المرتهَنة بإرادة الرأسمالية المتوحشة، لم يعد أمام هذا الفرد من طريقة للتعبير عن فرديته سوى التعبير عن إيثاره لنفسه على بقية البشر بطريقة لا إحساس بالخجل فيها. الفرد صار مجرد كائن أناني وكل الأفراد صاروا نسخًا من كائنات أنانية.
وعلى رغم أن مبدأ الرأسمالية الأساسي «العرض والطلب» يُملي ضرورة طرح سلع جديدة في السوق بما يضمن الربح المتواصل، إلا أن الجديد المطروح من السلع لا يلبي حاجات ورغبات مختلفة ومتنوعة وإنما فقط ضمان استمرار عملية الإنتاج والاستهلاك. فالشرط الرئيسي للربح السريع والباهظ هو إنتاج واستهلاك أكبر كمية ممكنة من السلعة الواحدة نفسها. ومن هنا ضرورة تجانس حاجات ورغبات المستهلكين.
وكيف يمكن تحقيق هذا التجانس في ظل مجتمعات وثقافات تتفاخر بالفردية؟
(2)
تبعاً للحسّ السليم من المفترض أن الشاري، المستهلك، حينما يحتاج أو يرغب في شيء ما يطلبه، يذهب إلى السوق ويشتريه. بهذه البساطة.
ولكن لا، تبعًا للنظام الرأسمالي، لمبدأ «العرض والطلب»، البائع، المُنتج، هو الذي يجب أن يبادر الى أن يبيع الشاري ما عنده من السلع. حقيقة أن الشاري لا يريد أن يشتري، لا يرغب ولا يحتاج، بل ومن المحتمل أن السلعة المعروضة هي سلعة جديدة لم يسمع الشاري بها من قبل، ومن ثم فإنه من الطبيعي أنه لم يطلبها، هذا غير مهم.
صحيح أنت لا يمكن أن تطلب شيئًا لم تفكر به أصلًا ولكن نحن (المنتج-البائع الرأسمالي) سنجعلك تفكر فيه وتشتريه أيضا.
الرأسمالي قبل أن يأتيك بائعًا سيقوم بالخطوات المطلوبة لكي تعرف، أنت الشاري، أو المستهلك، بوجود السلعة الجديدة. أبعد من ذلك أنه سيجعلك ترغب بشرائها، بل وتحسّ بالحاجة إليها.
كيف؟
الإعلان التجاري.
هناك ثلاثة أهداف للإعلان التجاري: الأول هو إعلام المستهلك بظهور سلعة جديدة. الثاني الربط ما بين السلعة الجديدة وإرادة أو حاجة المستهلك. والثالث اختلاق الرغبة عند المستهلك لشراء السلعة الجديدة.
البائع الرأسمالي، أولًا، سيقصفك بالإعلانات من أية جهة ممكنة. في داخل بيتك وخارجه، من داخل هاتف الموبايل إلى أي مكان يمكن أن يبرز فيه إعلانه، أو يبثّه من خلاله. لا مجال للمستهلك أن يتجنب الإعلانات حتى وإن حاول.
الهدف الثاني للإعلان التجاري- هذه المرة لن يكتفي الإعلان بإعلامك بتوافر سلعة جديدة. سيذهب خطوة أبعد ويربط ما بين السلعة الجديدة وإرادة أو حاجة المستهلك إلى شراء سلعة ما.
مع ذلك، وعلى رغم الربط ما بين السلعة الجديدة وإرادة أو حاجة المستهلك لشراء هدية، المستهلك قد يتردد في الشراء أو حتى يرفض أن يشتري أصلًا. على الأرجح المستهلك يتردد أو يرفض شراء السلعة الجديدة بالتحديد لأنها جديدة، غير مجربة من المستهلك بعد، ومن ثم فهو يخشى أن تكون سلعة رديئة.
هنا يأتي الهدف الثالث للإعلان التجاري- وفيه تتجلى عبقرية البائع الرأسمالي. في هذه الخطوة سيُقبل البائع الرأسمالي على الفيلسوف وعالم التحليل النفسي جاك لاكان متوسلًا النصيحة منه.
بحسب لاكان الرغبة هي رغبة الآخر. مثلاً المستهلك يريد أن يبتاع هدية لزوجته. هذا على مستوى الوعي. ولكن على المستوى الأعمق، أي اللاوعي، هو يرغب أن يشتري هدية لزوجته. وحيث أن ما يرغبه هو ما يرغبه الآخر (في هذه الحالة الزوجة) فإنه يرغب في شراء ما ترغبه زوجته نفسها.
الإعلان الآن لن يتوجّه إلى الإرادة الواعية وإنما الرغبة غير الواعية: «ما الذي ترغب زوجتك منك أن تقدمه لها كهدية هذا العام؟ ما قدمته لها العام الماضي؟ طبعاً لا! وما اشترته هي نفسها؟ ايضاً لا! ما ترغبه منك ان تفاجئها بهدية جديدة، مختلفة، عما اشترته هي نفسها أو ما قدمته لها أنت في العام الماضي. ونحن عندنا بالضبط الهدية المفاجأة، تلبية لرغبة زوجتك، السلعة الجديدة!»
هكذا فإن العديد من الأزواج الذين يريدون أن يقدموا هدية لزوجاتهم سينتهون إلى شراء السلعة الجديدة المتوافرة- الأفراد أصحاب الآراء والأذواق المختلفة ينتهون إلى أن يصيروا قطيعًا من المستهلكين.
(3)
ثقافة الجناس هي الثقافة السائدة في كل مجال تقريبًا. إلا في الحب. في الحقيقة الحب هو عدو الجناس التقليدي. بخلاف الجناس الذي يجمع من خلال إلغاء الفوارق ما بين فردين، أو أكثر، مختلفين، فإن الحب يجمع ما بين مختلفين اثنين من دون أن يلغي عناصر الاختلاف بل وأحيانا يجمع بسببها- جاذبية التناقض. من يختلف معك إختلافا لا يصل إلى حد النفور والعداوة منه يجذبك. الحب هو وحده القادر على أن يجمع ما بين «تشيز وتشوك»، بحسب العبارة الإنكليزية، أي الجبنة والطبشور.
أن تحبّ الشخص الذي يشبهك تمامًا، يتوافق معك في كل شيء، فهذا يعني بأن من تحب ليس سوى ما تراه في المرآة فقط، صورتك أنت. وهذا ليس بحب لأن هذه مجرد علاقة ما بين الفرد وصورته. وحتى إن كان الحبيب توأم الروح فهذا لا يعني أنه يشبهك بحيث يستحيل على الآخرين التمييز ما بينكما. فتوأم روح الحبيب إنما هو الآخر الذي يُكملك من دون أن يشبهك بالضرورة. «النصف الآخر» أو «النصف الأفضل»، كما يؤثر البعض القول، في إشارة إلى الشريك الحبيب، ليس هو فلقة من فلقتي الحبة الواحدة. ولا الأسطورة التي تقول: إن اجتماع الحبيبن هو إعادة اتحاد اثنين متجانسين في كيان واحد كان يجمعهما في الأصل قبل أن يفرّق الدهر بينهما.
الحب، وعلاقة الحب تحديدًا، تبيّن أن التجانس ليس قدرًا لا مفرّ منه كما تزعم ثقافة الجناس خدمة منها لسياسة السوق الاقتصادي الحرة في زمن الرأسمالية عموما والرأسمالية المتوحشة خصوصا. هناك مفر، هناك بديل يعزز فردية المرء على نحو يحميه من أن يتحوّل إلى مجرد مستهلك في قطيع من المستهلكين.
(4)
لا يسأل الحبيب نفسه لماذا أحبّ من أحب؟ بمعنى ما الفائدة التي أجنيها من حبّي للحبيب؟
في أية علاقة أخرى، خاصة الزواج، الفائدة أو الفائدة المتبادلة بين شريكين قد تكون المبرر الوحيد لقيام واستمرار العلاقة. ليس في الحب وإلا فإنه ليس حبًا. الحب قد لا يعود علينا إلا بالشقاء والعذاب والألم ومع ذلك نستمر فيه، سواء من خلال علاقة حب أو بدونها. فنحن قد نتمكن من التحرر من علاقة حب لا تتسبب لنا إلا بالشقاء والعذاب ولكننا لا نستطيع التخلص من عاطفة الحب نفسها.
«الحب، طالما أنه لم يُحمل على محمل تبادل خدمات، ولا يكون محتسبًا مُسبقًا بأنه استثمار مُربح،» يقول آلن باديو «هو في الحقيقة ثقة فريدة من نوعها تودعُ في ودائع الحظ. إنه يأخذنا إلى مناطق أساسية لاختبار ما هو مختلف وبشكل أساسي إلى فكرة أن من الممكن أن تختبر العالم من منطلق المختلف.»
الحب حركة. حينما يقع المرء في الحب لا يعود بوسعه البقاء ساكنا، سواء أكان لوحده أم بصحبة آخرين. في غياب الحبيبة يستبد الشوق بالحبيب ويحس بالتململ ولا يعود بوسعه المكوث في مكان فيشرع بالحركة والتنقّل من مكان إلى آخر. وهو لن يحسّ بالاستقرار، والقدرة على الاستقرار، إلا في حضور الحبيبة.
ولكن الحب قد يكون تعبيراً عن رغبة في الحركة والانتقال من حالة إلى أخرى. الانتقال النفسي من حالة السكون إلى حالة الحركة، الانتقال من المستنقع الآسن الذي تركن إليه النفس أحيانا إلى نهر الحياة الجاري.
لأسباب مختلفة، نُقبل على معرفة قصص الآخرين من خلال قراءة السير والسير الذاتية والروايات ونشاهد الأفلام والمسلسلات التلفزيونية والمسرحيات، ونتفرج على المباريات الرياضية، كرة القدم والمصارعة أو الملاكمة أو التنس.. من ضمن هذه الأسباب، أنها تمنحنا الفرصة بأن نكون آخرين، من خلال التماهي بشخصية من الشخصيات التي نتفرج عليها ونتابعها.
وفي عملية التماهي هذه ما ينمّ عن انتقال من شخصية إلى أخرى، من شخصيّة المرء المعهودة، وفقا لهويته الذاتية، إلى شخصيّة آخر يثير اعجابه ويعبّر عن طموحه الممنوع من التحقق. مثل هذا الانتقال هو في الحقيقة هو تعبير عما هو أعمق من مجرد أن تكون شخصية أفضل أو مختلفة.
من كل ما قرأت لأمين معلوف، هناك عبارة واحدة أثارت اهتمامي، العبارة الوحيدة التي أتذكر: «نحن لسنا أشجارا لكي نبقى في مكاننا ونحتفي بجذورنا».
صحيح، أو على الأقل، لم نكن كذلك في البداية، قبل حلول عصر الزراعة وما تلاه بعد ذلك من عصور كرّست الاستقرار باعتبارها الحالة الطبيعية للبشر. بل أن ثقافة الاستقرار صارت من الشيوع للاستبداد إلى حدّ أنها اعتبرت الارتحال والتشرد بمثابة جنحة يُعاقب القانون مقترفها.
الحب بهذا المعنى هو الطريقة لكي يستعيد المرء الحرية البدائية في الحركة والانتقال. الحرية التي زاولها الأسلاف الأوائل من دون أن يعرّفوها مفهوما أو يمنحونها اسما، على حد رأي نيتشه. وبهذا المعنى يكون الحب تحررا من النسبي ومعانقة للمطلق أو الأبدية. ولكن إلى متى يمكن لنا معانقة الأبدية؟ أم أن من الممكن أن تهبط الأبدية الى العالم النسبي من دون أن تصير نسبية هي نفسها؟ على الأقل هذا يزعمه آلن باديو.
(5)
الحب بحسب آلن باديو «حدث» بالمعنى الفلسفي لكلمة حدث. والحدث هو وقوع ما هو خارج كافة الحسابات والتوقعات. مثلًا، أن تُقدم أمُ عاقلة حنون على قتل طفلها الرضيع، فهذا حدث، بينما اندلاع حرب متوقعة الحدوث، ليس بحدث.
الحب هو لقاء غير محسوب أو متوقع ما بين شخصين مختلفين. ولكن الحب لا يتوقف عند اللقاء-الحدث. فهذا اللقاء-الحدث على ما يرى الفيلسوف الفرنسي الكبير «مفاجأة تُطلق عملية هي بالأصل تجربة في معرفة العالم. الحب ليس مجرد لقاء شخصين وعلاقتهما الداخلية التوجّه: أنه بناء، حياة قيد الإنجاز، ليس من منظور الواحد ولكن من منظور الاثنين»
الحب ينطلق من الصدفة المفاجِئة الى المصير الذي يربط حياة شخصين مختلفين. عليه فإن الإعلان عن الحب هو بمثابة انتقال من اللقاء-الحدث إلى الشروع في تأسيس الحقيقة. طبيعة الصدفة التي تحكم اللقاء يتخذ شكل الفرضية المُسبقة. بحسب باديو، وهو:
« يدوم لوقت طويل مشحونًا بالبدعة وتجربة العالم بحيث لا يبدو، من خلال استعادة الماضي، طارئًا وعشوائيًا كما يبدو للوهلة الأولى ولكن تقريبا كضرورة. هكذا يتم كبح الصدفة، الطارئ المطلق للقاء، مع شخص لم أكن أعرفه، يتخذ في النهاية شكل المصير.»
إن الإعلان عن حب هو أقرب الى قرار بالانتقال من حالة اللقاء إلى حالة البناء ومن الصدفة إلى الضرورة. وبهذا نبلغ الخلاصة الجدالية التي يسوقها باديو.
الانتقال من الصدفة إلى الضرورة هو بمثابة «ترقّب للأبدية» على حد تعبير الفيلسوف الفرنسي. فهل التصوّر المتوقع لمن يشرع في مشروع الحب ارتقاء نحو المُطلق أو الأبدية؟
لا، وإنما الأبدية تهبط الى الشرط الواقعي الأساسي أي الزمان لأن الحب، «إعلان أبدية يستوفى في سياق الزمان: الأبدية تهبط إلى الزمان» وما هو البرهان على إمكانية احتواء الأبدية في الزمان؟
السعادة في الحب، يجيب باديو. أن يكون الحبُّ حبًّا سعيدا.
السؤال، هل عصر ثقافة الجناس قادر على احتواء الأبدية؟ بكلمات أخرى، هل السعادة في الحب ممكنة في عالم محكوم بالقيم والمعايير النسبية لزمن ثقافة الجناس؟
(6)
الحب حالة من أكثف الحالات النفسية للوعي الذاتي. ربما لا يفوقه قوة سوى الإحساس بالمرض والألم، خاصة ألم الحب نفسه. مثل هذا المستوى من الوعي الذاتي قد يُملي التركيز على اللحظة الراهنة أو الحاضر، هنا والآن. ولكن الحبّ يحض على تجاوز الراهن بل ويؤدي إليه أيضًا.
أن تنشغل بالحبيبة، سواء في حضورها أو غيابها، يفتح الباب على الرغبة والسؤال. الرغبة في أن تكون معها الآن ودائما. والسؤال، ماذا بعد الراهن؟ كيف نحقق الرغبة في أن نكون دائما معا؟
هنا تبرز الإجابة العملية الشائعة: الزواج باعتباره النهاية السعيدة للحب أو التجسيد العملي للحب.
الزواج هو نهاية الحب فعلا ولكنه ليس النهاية السعيدة أو التجسيد العملي للحب. الزواج هو مقبرة الحب. ولكن بأي معنى يتجاوز الحب حالة الافتتان الراهنة ويتوجه نحو الآتي والمستقبل والأبدية؟
من خلال مقاومة العوامل التي تلغي مستقبل الحب، تقتل الحب. رفض الخضوع للقيَم والمعايير والحسابات النسبية. هل يمكننا القيام بذلك وإلى متى؟
البعض قام ويقوم بذلك ولكن الأمر يزداد صعوبة في عصرنا. إنه عصر سيادة القيم والمعايير والحسابات النسبية الشاملة على وجه مادي صارم وبذيء وحيث الأمور، العلاقات والأشياء، تكتسب قيمتها من خلال معايير الربح والكسب والمصلحة الشخصية والمال. أية محاولة صادقة ومخلصة للدفاع عن الحب ضد قيم ومعايير وحسابات عصر كهذا قد تؤدي ببساطة الى التشرد بل الجنون والموت أيضًا.
أليس هناك من أمل للحب، إذًا، بأن يستمر إلى المستقبل ودائمًا؟
ربما إذا ما تجاوز الغرض النهاية المعهودة- الزواج وموت الحب. بالعكس إذا ما قاوم المرء هذه المؤسسة. فلا مؤسسة أشدّ إخلاصًا وأشمل تطبيقا للقيم والمعايير والحسابات النسبية من مؤسسة الزواج ومن هنا قضائها المبرم على علاقة الحب ومشاعر الحب أيضا. ينبغي على العشّاق أن يحموا حبهم من خطر هذه المؤسسة القاتلة ومن كافة مؤسسات المجتمع والدولة المماثلة.
كيف؟
من خلال الانسحاب الروحي من المجتمع المحكوم بالقيم والمعايير والحسابات النسبية. هل انسحاب كهذا ممكن؟
إرنست يوغنر، الروائي والفيلسوف الألماني- أحد مراجع مارتن هيدغر المهمة في إدراك خطر التقنية الحديثة- ابتكر شخصية حديثة الطابع أسماها «أنارك». الأنارك يختلف تماما عن شخصية الـ»أناركست»- هذا الأخير مصدر من مصطلح «أناركي»- أي فوضى، ومن ثم فالأناركست هو فوضوي. شخصية الأنارك التي بشّر بها يوغنر ليست فوضوية على الإطلاق. بالعكس فهي تؤمن بضرورة النظام وأن سيادة أي نظام على الإطلاق أفضل من تفشي حالة الفوضى.
في الحقيقة الأنارك هو وليد الحياة في ظل نظام استبدادي شامل (توتاليتاري) والأنارك، إيمانًا منه بأن أي نظام أفضل من حالة الفوضى، فإنه يخضع للنظام الشامل الاستبداد ولكن في الوقت نفسه يقاومه.
الأنارك يعيش حياتين مختلفتي الطبيعة: حياة عامة، يخضع فيها للنظام خضوعا تاما، وحياة خاصة، يمارس فيها حريته بأن يقوم بما يستهويه ويتوافق مع قناعاته الداخلية خلافًا لما هو الأمر عليه في الحياة العامة.
وفقا لذلك فإن الإنسحاب الروحي من المجتمع، كما أشرنا سابقا، هو انسحاب إلى الحياة الخاصة للحبيبين. وبقدر ما يُفلح الحبيبان في إقصاء قيم ومعايير وحسابات الحياة العامة المحكومة بالرأسمالية المتوحشة وأيديولوجيتها (الليبرالية الجديدة) القائلة بحرية السوق الاقتصادية من دون حدود أو شروط، ومن ثم ثقافة الجناس، يزدهر الحب ويدوم.