ستُبدي لك الأيامُ ما كنتَ جاهلاً
ويأتيكَ بالأخبار مَنْ لم تُزوّدِ
طرفة بن العبد
طرفة بن العبد، الفرق بيني وبينه أنه نَـهَـرَ الحياة باكراً، تجرعَ القدحَ الأعظم وذهبْ، فيما لا أزال أتعثر بحضوره الفاتن / الفاضح في كل نأمة ولمعة ضوء. دون أن تكون المسافة الزمنية حجاباً أو حائلاً أو امتيازاً. لم أتمكن من تفاديه لحظة واحدة، ما إن عرفتُ احتدامه مع قبيلته، ما إن شعرتُ بخروجه عن الخيمة إلى الصحراء، وسمعته يكرز في الكون :
(وظلم ذوي القربى أشدّ مضاضة..)
حتى أحسست بذلك النمل الغامض ينسرب في شرايين روحي وتفاصيل حياتي الباقية، ويبدأ في صياغة مكبوت العديد من قصائدي، التي جَهَرَتْ بتقاطعها الحميم معه، شعراً وتجربة، وتلك النصوص التي استبطنته أو تقمصته، أو تلك التي وضعته تعويذة في الحل والترحال، شعراً ونثراً ومضاهاة. كلما تقدم بي العمر والشعر والتجربة، أصبح هذا الكائن الغامض البعيد أقرب إليّ من حبل الوريد، لا أتنازل عنه، لا أنكره، وليس لي سلطة عليه، فيما سطوته الغريبة عميقة ودالّة في حبري وروحي. رافقني طرفة بن العبد في الحانة والزنزانة، ولي معه النص والشخص، في المتن والهامش والحاشية. لم أنجز كتابةً إلا وكان له فيها حصةُ القرين. لم يعد ممكناً توصيف الحدود بيننا إلا بالقدر الذي يتسنى للسيف أن يمر على مسافة الروح والجسد بلا دمٍ ولا فضيحة.
رفقة تتجاوز الكلمات، رفقة تصقل الحياة.
(1)
كنت في حوالي الثالثة عشرة من العمر (في العام 1961) عندما سمعتُ لأول مرة عن طرفة بن العبد. كان ذلك في الباحة الداخلية لمدرسة الهداية في «مُحرَّق» النصف الأول من القرن العشرين. حيث كان فريق التمثيل بالمدرسة يتدرب على مشهد تمثيلي فوق الخشبة المقامة في صدر الجانب الشمالي من الباحة، الملاصقة لغرفة مدير المدرسة آنذاك، الأستاذ عبدالله فرج. أذكر أن المشهد التمثيلي يحكي الأبيات التي يخاطب فيها طرفة بن العبد تلك القبّرة المرصودة بالفخاخ :
(يا لَكِ مِن قُبَّرَةٍ بِمَعمَري
لا تَرهَبي خَوفاً وَلا تَستَنكِري
قد ذَهَبَ الصَيّادُ عَنكِ فَاِبشِري
وَرُفِـــعَ الفَــخُّ فَمــاذا تَحــــذَري
خَلا لَكِ الجَوُّ فَبيضي وَاِصفِري
وَنَقّـــري ما شِـــئتِ أَن تُنَقـــري
فَأَنتِ جاري مِن صُروفِ الحَذَرِ
إِلــى بُلــوغِ يَومِـــكِ المُقَــــــدَّرِ)
مثيلية تتعلق بشاعر. فوقفت في الطرف الشرقي من الخشبة القريب من غرفة مختبر العلوم، التي يتخذها الأستاذ (عبدالرحمن كتمتو) مكتباً بوصفه مدرساً للعلوم. ورحت أصغي لكلام الممثلين الذي كان كله من شعر طرفة، وساد شعورٌ غريبٌ جعل الممثلين يتعاملون مع الأمر برمته كأن طرفة بن العبد هو أحد الفتية الذين يؤدون المشهد كما يعرفونه جيداً، ويعيشونه في البريّة المحيطة بالمدرسة، كلما نصبوا فخاخهم في واحدة من أحب هوايات ذلك الجيل حيث يقضون وقتاً ممتعاً في «الحَبَال»، أي صيد الطيور. منذ ذلك اليوم بدأت علاقتي بطرفة بن العبد.
سمعت أنه عاش في بحرين ما قبل الإسلام، دون أن ألحظ وقتها مفارقة أنه، من دون شعراء عصره، لم يقرر المنهجُ نصاً مهماً من قصائده في درس اللغة العربية. في حين يفرض المنهج المدرسي علينا حفظ أقل النصوص جمالاً وأهمية.
وقفتُ يومها في حوش المدرسة، بجانب الخشبة القديمة لكي استمع إلى طرفة بن العبد وهو يكلم الطير.
(2)
سوف تمر بعد ذلك سنوات، لكي أدرك كيف أصل إلى سيرة هذا الشاعر وأتعرف على معلقته الشهيرة. فقد اتصل ولعي في البداية بحكاية الشاعر وسيرة حياته وموقفه الاجتماعي من قبيلته، حيث فكرة التمرد والخروج هي التي جذبتني إلى طرفة بن العبد.
في البداية، وفيما كنت أخطو خطواتي الأولى نحو القراءة، كان تفتح الوعي الاجتماعي هو بوابة علاقتي بأشياء الحياة، خصوصاً أشياء الثقافة والمعرفة. أذكر الآن أن في تلك المرحلة بدأت بوادر النزوع النضالي تعبر عن نفسها بأسئلة قلقة، باحثة، عالية الحماس. وقد احتجت سنوات أخرى للتعرف الأدبي والشعري على هذا الشاعر. فما كان يستحوذ على كياني في سيرة الشاعر وقوع الظلم عليه وتمرده على قبيلته وموقف القبيلة منه. والقول، تاريخياً، بأنه عاش في منطقة البحرين، قد ساهم فعلاً في دفعي إلى التعرف أكثر على قرينٍ محتمل.
تلك هي البداية الأولى للتداخل الغامض بين أسئلتي الاجتماعية القلقة الأولى، وبين سيرة شاعر قديم سبق أن فاض بالأسئلة في قبيلة تضيق بالأسئلة. وأذكر أنني، فيما أستغرق في القراءة، كنت أتوقف كثيراً عند أشعار طرفة بن العبد أو أخباره النادرة في الكتب. ويوماً بعد يوم شعرت بمعنى أن يكون طرفة شاعري الخاص. لكي يتطور اهتمامي من مجرد صدفة القراءة العابرة في مجمل الشعر العربي القديم، إلى البحث عن مصادر معرفة هذا الشاعر بالذات.
(3)
حين بدأت محاولاتي الشعرية الأولى، كانت صورة طرفة لم تزل غائمة، تتراوح بين فعل التمرد الاجتماعي والشعر القديم المختلف، الذي أصادفه في خارج كتاب الدرس. فقد كنت وقتها في خضم بحثي عن أدواتي الشعرية التي استغرقتني بوصفها الطبيعة الثقافية والفنية التي بدأت أكتشف ذاتي فيها. فبين أن تكتشف ذاتك في شاعر تحبه، وتعمل، في نفس اللحظة، على صياغة هويتك الأدبية، فضاء من الاحتدام والاكتناز يتطلب قدراً من الوعي، لئلا تخفق في الاثنين معاً، وتفقد القدرة على استيعاب لحظة التخلق في التجربة. فكل هذا كان يحدث في لحظات التأسيس الأولى، حيث كانت طاقة المعرفة تقصر عن أسئلة الموهبة.
(4)
سرعان ما بدأت أسئلتي تنشأ في موازاة الولع المبكر بطرفة بن العبد: وليس صدفة أن أدرك العديد من تناقض الروايات التي تنقلها لنا كتب السير وتاريخ الأدب عن حياة طرفة وأخباره، وهو الأمر الذي فتح لمخيلتي الأفق شاسعاً لكي أتخيل شاعري الخاص في ذلك التاريخ، وصياغته في موازاة حساسيتي الشعرية التي بالكاد تبدأ في التجلي، بل أن ثمة أسطورة بالغة الرحابة سوف أكتشفها في سيرة طرفة، أسطورة تجعل حياته ضرباً من الخيال الذي يصوغه الرواة كما في معظم التاريخ العربي. ولعل أبرز ما استوقفني، وشعرت بقلق أمامه، تلك الفكرة القائلة بـجهل طرفة القراءة والكتابة، أنا الذي كنت أرى في القراءة وفعل الكتابة الجوهر الشعري المتعاظم الامتزاج لمخيلة الشاعر وهو يبني رؤاه وكلماته ونصوصه.
(5)
لاحظتُ، من بين ملاحظات أخرى، أن طرفة بن العبد، من بين شعراء عصره، قد حاور فكرة الموت، وتأملها شعرياً بقدر مفاجئ من الجرأة. فلم يقل شاعرٌ قبله:
( أرى الموت…).
العبارة التي تحضر في قصيدته كثيراً، كما لو كان يحدّق في الموت، كمن يرى الموت رأي العين فعلاً، لكن دون أن يرهبه.
(6)
وبدأتْ، بعد سنوات، فكرة طرفة وتجربته تتسربان في تلافيف كتابتي ومشاغلي الأدبية، بأشكال مختلفة، متباينة العمق والإشارة، ثقافياً وفنياً:
في يناير 1972، كتبت لزوجتي في رسالة طويلة من المعتقل، أحدثها بأنني أفكر في كتابة قصيدة بعنوان «اعتذارات طرفة بن الوردة»: «سأعمل على إنجازها بعد خروجي من السجن».
(7)
في نهاية العام 1972 نشرت لي جريدة «الطليعة» الكويتية نصاً طويلاً بعنوان «اعترافات طرفة بن الوردة»، كتبته في زنزانة «شجرة النبق» الشهيرة في القلعة:
(وحدي هنا في وردة الأسماء
أستحضر الدماء
أصغي لصوتي راحلاً في الماء
أذكر، كان الماء، من ولهٍ وعاء)
(8)
سنة 1973، كتبت قصيدة «تحولات طرفة بن الوردة» في سجن جزيرة (جدا)، ونشرت في ديوان «الدم الثاني» عام 1975:
(أخرجوني من الغمد
ناديتُ : هذي بلادٌ تآمر فيها السماسرة الخلفاء
على الأنبياء
هذي بلادٌ ستأكل من ثديها حرة
وناديت :
هذي بلادٌ ستخلع أبناءها واحداً واحداً
في الخفاء
ومازلت أعشق هذي البلاد التي قتلتني
مازلت أحملها كوكباً في قميصي
وأقبل أعذارها، ثم أصرخ فيها
بلادي التي تشبه القتل مدعوة في المساء
لتحضر جلوة عشاقها حرة)
(9)
سنة 1978، من المعتقل كتبت رسالة مطولة مشتركة إلى زوجتي وإلى صديقي أمين صالح، وضعت لها عنوان «من عذابات طرفة بن الوردة»، وكنت أحدثهما عن تجربة الشاعر هناك:
(لم أكن لأكتشف شيئاً، بهذه الدرجة من الحدّة، لو لم أدخل هذه التجربة. لم يعد يهمني عامل الوقت. المهم أنني أتعلم).
(10)
سنة 1978، كتبت في السجن قصيدة «إشراقات طرفة بن الوردة»، نشرت في ديوان «انتماءات» الذي صدر عام 1982، وكان طرفة في ذروة تجليات التجربة:
(بكيتُ بكيتُ من الصبح حتى المساء
لأني حين تبرعت باللون للأرض
أعطيت للماء نبضي
فقيل بأن البحار التي من وريدي
ليست دماء
لقد كان بعضي يشك ببعضي
فقلت بأن دمائي ماء).
(11)
في4 مايو 1978، في معتقل «سافرة». كنتُ كتبتُ نصاً طويلا (حوالي 100 صفحة) بعنوان «كل شيء ليس على ما يرام»، هو عبارة عن قراءة نقدية لمجمل القصائد التي كتبتها في سنوات السجن. كان بمثابة المراجعة الذاتية الصارمة لجميع المحاولات الشعرية التي اعتبرتها فاشلة فنياً، الأمر الذي جعلني استبعدها من النشر في كتبي التي صدرت فيما بعد.
في هذا النص قلتُ : (إن هيامي بتجربة «طرفة بن العبد» الإنسانية لا حدود لها، وعلاقتنا الرؤيوية قديمة. وفي عام 71 بدأت العلاقة بيننا تأخذ شكل الكتابة. وعام 73 صارت شعراً، حيث (تحولات طرفة بن الوردة). وفي (إشراقات طرفة بن الوردة) الجديدة تواصلت الرؤية. ولعل الشكل الذي أخذته القصيدة الأخيرة كان محاولة لموازاة اللحظة الواقعية التي يعيشها الشاعر وهو يفصد دمه، ويرقب قطرات الدم تسيل، فيأتي الشعر متفصداً على شكل مقاطع صغيرة، وكأن القطرة الأخيرة من الدم.. توازي – أو بالعكس- المقطع الصغير في ختام القصيدة (لا تثقوا بحياد الماء).
كأن طرفة بن الوردة لم يزل قريباً مني فنياً، فهو لم يترك لي مجالا للتحديق من شرفة الأفق.
هل كنت أتبع نصيحة (النفَّري) الذي قال : «انِسَ ما قرأت، وامح ما كتبت». لئلا أكرر نفسي، ولا أهادن كلماتي؟
أعتقد أنني سأنسى أخيراً كل شيء.. وأكتب).
(12)
تلك هي لحظات الانبثاق المتواترة التي يحضر فيها طرفة، بشتى تجلياته، الفكرية والشعرية، متقاطعاً مع تجربتي في منعطفاتها الإنسانية الدالة، مما يشي بأن اتصالاً جوهرياً دائم التأجج صار يمزجني بالدلالات الكبرى لطرفة بن العبد، ليصبح، بفعل الولع الروحي، في حكم القرين الكوني لنشاط المخيلة في حياتي وكتابتي. قرينٌ سرعان ما تحول إلى حلم شبه مكتمل بفعل الوقت والتجربة. فقد شعرت، عبر سنواتي مع طرفة، أن ثمة حواراً جوهرياً شاملاً يجري إنجازه مع طرفة بن العبد، مع التجربة الشعرية، الممتدة عبر الحياة والموت، وهو مشروع يصبح مع الوقت، بمثابة التحية الخاصة التي أحب أن أقدمها لذلك الشاعر الذي يقرأ معي حياتي.. الآن.
(13)
أذكر أنني، منذ حوالي ثلاثين عاماً، وربما في أوائل الثمانينات، بدأتُ عملياً في جمع المصادر وقراءة الكتب وتدوين المعلومات والأفكار حول كل ما يتعلق بطرفة بن العبد ومرحلته، الشعرية والتاريخية، لتتكون لديّ مكتبة غنية بالمراجع، إلى جانب الأرشيف الالكتروني الذي توصلت به في السنوات الأخيرة. لقد كأن طرفة يهطل عليّ من سماوات لا تحصى. وكنتُ بدأت بالفعل في كتابة بعض الصفحات منذ سنوات، لكنني توقفت، وقررت تأجيل المشروع. وفي مرحلة لاحقة بدأ المشروع يتوهج بقدر أكبر من التصور الأول. لقد كان طرفة ينمو ويتبلور معي، في تجربة الحياة والكتابة، وكنا نتبادل الأنخاب كلما طابت لنا سهرةٌ وصَحَّ نبيذُ.
(14)
لم أكفّ عن متابعة ذلك النص وهو يكبر في داخلي، إلى أن حانت الفرصة المواتية التي أتاحتْ لكلينا تحقيق الكتاب الذي تأجل طويلاً. جاءت منحة التفرغ المقدمة من (الأكاديمية الألمانية للتبادل الثقافي) (DAAD)، في الوقت الأنسب فعلاً، فحين طلبوا مني أن أقدم لهم المشروع الذي أحب إنجازه، كان طرفة بن العبد مستعداً.. معي.
حملت كل مراجعي وأوراقي وأرشيفي ورحلت إلى برلين، لكي أبقى العام 2008 مستغرقاً في كتابة مسودة المشروع بمتعة الحالم، زوجتي برفقتي، مخفوراً بالعائلة، ومعي روح الشعر.
(15)
بدأ الكتاب يتدفق، بعد مسافة غنية من الوقت، وكنت كمن يتذوق نبيذاً قديماً ادّخرته كل هذا العمر.
منذ استغراقي في الكتابة الأولى، حدث لي أمر مدهش وغير متوقع.
كنت قد اعتدتُ، طوال السنوات العشرين الأخيرة، أن أكتب مباشرة على جهاز الحاسوب، منقطعاً عن استخدام القلم في كل ما كنت أكتبه، شعراً أو نثراً، لكنني في برلين، ومنذ اللحظة الأولى للعمل في مشروع طرفة، وجدت نفسي أستخدم القلم مجدداً، ولم أخطّ شيئاً من النص على الحاسوب على الإطلاق، أكثر من ذلك، فإن شعوراً غريباً من المتعة انتابني وأنا أرقب حركة القلم وتدفق الحروف والكلمات على الورق. وكنت وقتها قد اكتشفت نوعاً معيناً من أقلام الحبر الأسود السَيّال، ساعدني فعلا على سلاسة الكتابة ومتعتها أيضاً، مما أسهم في إحياء شهوة الكتابة بالقلم وإعادة اكتشاف خطي الذي تعرض للكثير من التشوّه من جراء عدم استخدام القلم والورق لسنوات طويلة. جعلتني تجربة الكتابة بالقلم أتمثل الجماليات المنسية في الخط العربي، وطرائق رسم الحروف والكلمات، وأتحسس متعة ذلك، جسدياً وفنياً، شعرت بأنني ذلك الطفل الذي يكتشف الخط للمرة الأولى، صار للكتابة جسدٌ طازجٌ يغري جسدي بشهوة الاكتمال، وهي اللذة التي افتقدتها طويلاً.
صادف أن تقاطع هذا كله مع تأملي المبكر في فكرة القراءة والكتابة التي نقلت الروايات عن جهل طرفة بن العبد لهما. فعدت إلى تاريخ نشوء الكتابة العربية وأنواع الخطوط الأولى، لأكتشف مفهوم معرفة القراءة والكتابة في بكورية الثقافة العربية، كما تعرفتَ على حرفة الوراقين وأنواع الأحبار والأوراق في مراحل مختلفة، لتتبلور لديّ فكرة توجيه التحية الفنية إلى طرفة بن العبد، الذي كان قد أحسن القراءة بطريقته، فيما كان يقترح الكتابة الأولى للشعرية العربية. كذلك سأعتبر تلك تحية الشاعر الجديد إلى الخط العربي، الذي يتعرض للهجران والهتك من قبل التقنيات بأجهزتها الجديدة بخطها الآلي الحروف، حيث أوشكت وسائط الكتابة والطباعة المستحدثتين تغييب الجمال الرائع للخط العربي، أو حجبه، عن الممارسة الثقافية العربية.
هكذا بدأت أستعد لتحقيق مخطوطة فنية لكتاب طرفة بن الوردة كاملاً، أخطها بنفسي في نسخةٍ خاصة، انحيازاً لكل ما تمثله الكتابة العربية في حياتنا. ورحت أجمع أصناف الأوراق المصنعة يدوياً وأبحث عن الدفاتر الفنية التي تتيح لي إنجاز المشروع، بالصورة التي أتخيلها. عندما تبلورت هذه الفكرة، شعرت براحة عميقة، لكوني سأنجز للمرة الأولى عملاً فنياً بنفسي، في ضرب خاص من المغامرة التي تتيح لي ممارسة حريتي الخاصة في تجربة جديدة. وقتها لم أكن أعلم ما سيصبح عليه حجم الكتاب بعد الانتهاء منه، غير أن تقدمي في كتابة المسودة وتعاظم حجم الكتاب لم يزدني إلا حماساً لتحقيق المخطوطة، فقد كنت أصنع مخطوطة وحيدة لطرفة بن الوردة وحده.
في غمرة انهماكي في الكتابة، زارني في برلين الصديق جمال محمد فخرو، وما إن عرف عن مشروع المخطوطة حتى أعجبته الفكرة وتحمَّس لها، وأبدى استعداده الكامل لدعم طباعة المشروع، بعد إنجازه، بالشكل الذي تخيلته، رغبة منه لأن أواصل عملي بلا أي قلق على مصير الفكرة، ولم أكن أحتاج إلى أكثر من ذلك لكي أطلق لورشة خيالي الفضاء. وقد رأيت في موقف الصديق جمال فخرو تحيةً مضاعفة لطرفة بن الوردة والتجربة الشعرية التي أشتغل عليها.
(16)
فجاء طرفة بن الوردة بأجنحته التي لا تحصى. وجاءت الكتب والدفاتر، وانبثقت الأحبار والألوان في شبه هجوم جميل. واشتعلت أشكال السرد والنثر والشعر والوثيقة وشهادات الشعراء والتاريخ، جاء البوح ويقظة الحواس والعناصر. لم أضع تخوماً للشكل وهو يتخلّق، تحررتُ من جاهزيات الجمال وحرَّرته. وطاب لي أن أسلمت القياد لفؤادي وهو يقترح ويجترح ويفتتح الطريق أمام خطوات النص المرتعشة.
في برلين، عام 2008، أنهيت المسودة الأولى لمشروع الكتاب، وبعد عودتي إلى البحرين، بدأت العمل في المبيضة الأولى، وبعدها اشتغلت على النسخة الثالثة أنقلها على جهاز الحاسوب للمرة الأولى. وفي نهايات العام 2009 كنت قد انتهيت من الصيغة النهائية للكتاب. ثم أبدأ في العمل على كتابة المخطوطة الفنية. وكنت أرقب كل شيء يتخلّق بين يديّ كأنه كتابي الأول، كأنه كتابي الأخير. ولم أكن في عجلة من أمري، لقد كان الشعر سيد الوقت وطرفة صاحب الزمان.
عندما جئتُ لوضع النص، بعد إنجازه، في الكتاب المطبوع، احتدمتْ النصوص كلها في لحظة واحدة، فبأي الكتب والدفاتر تبدأ القراءة؟
كنت طوال الوقت أستجيب بلا تردد لما اقترحته عليّ المخيلة. كأنّ ثمة قراءً عديدين يقرأون النص معاً في الوقت نفسه، وكأن قارئاً واحداً يقرأ نصوصاً متعددة في الوقت نفسه. وكما تعايشتْ النصوص، في احتدام وتداخل، طوال سنوات الاختمار وخلال أشهر الكتابة، رأيت أن تصاغ هذه النصوص بالبنية البصرية ذاتها، من أجل أن يمتزج التنوع التعبيري في لحظة واحدة، (والكلام هنا عن الكتاب المطبوع)، متموجاً في تدفقٍ متلاطمٍ من الشعر والسرد والتاريخ والوزن والنثر والتأمل، ولكي يتحقق تقديم الكتاب جميعه والتجربة برمتها دفعة واحدة.
هذا ما كنت أريده متحققاً في التجلي البصري للصفحات في الكتاب المطبوع، ليس فقط لتقديم ما يشبه البنية الشبكية التي تضع الشراك في طريق القارئ وتستدرج خطواته، ولكن، خصوصاً، لكي تتاح للقارئ إمكانية الدخول في القراءة من أينما جاء، سعياً للنجاة من التسلسل الخيطي في تناول الكتاب، وبالتالي التجربة جميعها.
هكذا بالضبط أردت أن يجري العمل، بهدوء، بمزاج رائق، بالتحرر من الوقت، بمتعة حرية مكتشفات التجربة والإصغاء لآفاقها. وخصوصاً أن أتيح لطرفة أن يستمتع معي بلذة العمل في النص وكتابته. ففي الإبداع شيء من الجنة.
(17)
إذن، لماذا أردتُ للكتب والدفاتر بنصوصها المتعددة أن تبدو بهذه الطريقة في صفحات الكتاب، متناً وهوامش وحواش؟
لا أعرف، ربما لأنني كنت أحاول القول بعدم أولية نصٍ دون غيره،
ربما لأنني شعرت برغبة الوصول إلى القارئ في جرعة عالية،
بحرارة، بكثافةٍ، وبقدرٍ بالغٍ من الامتلاك والفقد في آن واحد،
مثلما كانت حياة طرفة… هناك، مثلما ستكون حياة بن الوردة هنا.
ربما كنت أحاول تقديم النص للقارئ كما تخيلته وكما تَخلَّق وكما ولد.
أحاول إن قدرتُ على ذلك.
ربما. لا أعرف.
(18)
لا أذهب إلى تراثٍ يقصر عن الحضور الآن.
طرفة بن العبد، التجربة الإنسانية والشعرية، كان منذ لحظتي الأولى معه، حاضراً معي، مستمراً في التجلي والتبلور والاحتدام والتقاطع مع منحنيات تجربتي في الحياة والشعر. هكذا رأيت إلى التراث وأنا أعيد خلق طرفة كما يراه شاعرٌ الآن. وعندما تجاوزت معطيات أخبار الأسلاف واخترقت مروياتهم، إنما كنت أتصل بالجوهر الأصيل لمخيلة الإنسان/ الشاعر وهو يصوغ حياته ويكتب تاريخه، بمعزل عن الزمان والمكان بوصفهما الثابت المستقر. حيث التراث هو ما تكتبه أنت وليس ما تقرأه عن سابقيك. بهذا الشكل فهمتُ (الأصولَ) كدلالة، فشعرية الكائن هي الأصل الذي يشي بحياته وأحلامه.
في مجمل علاقتي واتصالي بطرفة، منذ ولعي الأول به، لم يكن يعنيني طرفة هناك، في عصره الماضي القديم الغابر، إنما يعنيني دائماً طرفة الآن، هنا، في الحياة والكتابة، فتجربتنا هي التي تكتب طرفة جديداً، ونحن لا نقرأ حياتنا الراهنة من خلال طرفة الماضي.
من هذه الشرفة كنت أشعر بذلك التقاطع العميق بيني وبين طرفة، كما لو أننا ندير الحوار عن كثب من الجحيم ذاته والجنة نفسها.
ليس أن أرى طرفة هناك،
لكن أن يراني هنا، الآن.
طرفة القديم لا يعنيني سوى بوصفه جمالاً إنسانياً، حيث الفعالية الجمالية تبدأ في اللحظة الراهنة الحيّة المعاشة الأزلية. ليس تقمصاً للماضي، ولكن سبراً واستبطاناً للحاضر ورؤية غامضة للمستقبل. طوال علاقتي بطرفة لم أكن أتعاطاه باعتباره تاريخاً، فقد أصبح حياً معاصراً معايشاً لي في كل نأمة ورؤية، لقد كنت أقرأه فيما كان يكتبني.
(19)
أتخيل بأن ثمة تبادل أدوار كنا نتناوب على أدائه، طرفة وأنا. في مراحل مختلفة من منعطفات حياتي، كنت أشعر بما يشبه القرين يضعني في النص ويأخذ مكان القيادة من عربة الحياة. ربما كان هذا يحدث في اللحظات التي أوشك فيها على النفاد، عندما لا أكاد أكون موجوداً، وحيث لا أدرك أينا الشخص وأينا النص.
لحظتها بالذات كنت أشعر بقبضته الحارة تأخذ بتلابيبي وتصعد بي من شفير هاويةٍ توشك على محوي.
(20)
سَميتُه ابن الوردة، لأن الوردة أمّه. والوردة زنزانتي التي أعادت ولادتي ذات صيف، والوردة هي التجربة التي صهرت الشخص وصقلت النص وبلورت الرؤية في حياتي برمتها. وكنت كتبتُ في منتصف سبعينات القرن الماضي:
(وصديقي جالسٌ في وردةٍ،
وصديقي طالعٌ في عطرها).
(21)
لقد أتاحت لي تجربة طرفة بن الوردة، فيما استحضر الشاعر الأول، الفرصة الذهبية لقراءة مجموع الشعر العربي القديم في واحدة من أجمل مراحل ولعي بالتراث، حيث تيسر لي إعادة اكتشاف الجمالات الكامنة في تلك النصوص البعيدة، المتوحدة مثل كمائن الله، وهي تطل منتظرة الكشف وإعادة الكشف، من قِبل ذئاب نصوص غير متوقعين. مما جعلني أذهب إلى الإحساس بأن شعرنا الأجمل لا يزال هناك.
(22)
لستُ رساماً، أعرف
لستُ خطاطاً، أعرف
لكن المسألة ليست هنا، وأنا لا أزعم ذلك. كل ما في الأمر أنني أردت أن أفتح المزيد من الآفاق أمام الموج العارم الذي لم يزل يهدر في روحي، لكأنما جنون البحث عن أشكال هو الذي يقودني فيما أكتب، وكأنما الكتابة كفَّتْ عن أن تظل محض خطٍّ خالص.
(23)
أخيرا،
الآن، يمكنني القول بأن هذا الكتاب، هو الكتاب الوحيد الذي كلما انتهيت من فصل فيه شعرت بأنني أتخلص من طبقة من طبقات السجن المتراكم في داخلي. الأمر الذي جعلني أشعر بالتحرر الكامل فيما أنتهي منه وهو في أوراق المخطوطة. هل كان هذا الكتاب مسجوناً في داخلي، أم أنني كنت سجينه الأثير؟
(24)
هذا كتاب سعيتُ إليه أربعين عاماً وكتبته في ثلاثة أعوام، وأخشى أن ذلك كله لم يكن كافياً بعد. وعندما تكتمت على ما كنت أشتغل عليه في المخطوطة، فذلك لأنني لستُ متيقناً مما كنت أصنع، ولم أزل، لستُ مدركاً تماماً ماذا فعلت. وكنت قد أطلعتُ بعض الأصدقاء من أدباء وفنانين، على جانبٍ مما أصنع، لأتثبّت من مواقع أقلامي، فلا يزيدني تشجيعهم الحميم إلا توغلاً في القلق المقيم.
أخص منهم :
أمين صالح، أحمد المناعي، عبدالحميد المحادين، صبحي حديدي، عبدالقادر عقيل، ابراهيم بوسعد، تاج السر حسن، حسين المحروس، عباس يوسف، زهير أبو شايب، ومحمد الزيرة،
إنني أدين لهؤلاء، كلٌ في مجاله، بالشكر والتقدير لملاحظاتهم التي أفادتني فعلاً.
(25)
(جامع الحياة في نص)
ربما يكون هذا الوصف مناسباً، إذا حاولت اقتراح توصيف تقنيّ لهذه التجربة، فهناك التنوع وتعدد أشكال القول ومذاهب الكتابة.
(26)
ليس للمكان صفة الجغرافيا، بل طبيعة التاريخ.
والزمان في الكتاب يتجاوز المعنى الفيزيائي، ويتحرر من الوقت، ويبرأ بالدلالات القصوى من القاموس والتفسير، مستعيناً بفضاءات التأويل. ففي ما كنت أكتب، لم أكن أبحث عن شيء، ولكنني أصادف الأشياء كأحلام تضيء مواقع خطوات المستيقظ في ليل.
(27)
إذا جاز لي الاعتراف بشيء عن هذه التجربة، فسوف أشير إلى تلك المفارقة المتمثلة في منحنى النقائض الماكرة التي تلمستها، وهي تأخذ بي، طوال الكتابة، فبالرغم من ظاهر المضمون الموضوعي في مجمل النص، إلا أنني كنت أصدر في عموم الكتاب، وبالدرجة الأولى، عن الذات العميقة الخفية المكبوتة الكامنة. لم أكن أصدر عن خطابٍ ولا أزعم تفادي خطاب أيضاً، وكل شيء جاء في النص هو ضربٌ من المستخلصات الطالعة مع أنفاس الكائن ابن تجربته.
(28)
فيما يأتي القارئ إلى النص، ليس مهما كيف يقرأ، المهم أن يقرأ كيفما يحب. بالشكل والطريقة التي تحلو وتطيب وتجنح. حريات القراءة سوف تصدر دائماً من حريات الكتابة، فالشكل هنا ليس المهم في ذاته، فأهمية الشكل تنبثق من سبل الرغبة في الاكتشاف لدى القارئ. إذا كان الطريق إلى الحب هو، أحياناً، أجمل من الحب، فإن زمن هذه التجربة من الغرابة بحيث يبدو لي أن ثمة ما يدعونا لتأمل الطريق لئلا نخسر التجربة برمتها.
(29)
في التجربة – والكلام هنا عن المخطوطة -، الخطَّ هو ضربٌ من تشكيل النص على ما لا يقاس من الحب. الحبر هو أيضاً رحيقُ القلب وعنفوان الأبجدية فيما تصغي لتحولات الكلام والكتابة.
(30)
ما إن بدأتُ في إطلاق القلم، بحبره السيّال، على الورق المصنّع يدوياً، بسطوحه الطرية المحببة، حتى شعرت بأن أرضاً يانعة تفتح سماواتها أمامي. منذ اللحظة الأولى حضرت في حواسي كل سنوات العشق القديم للورق والأقلام وألوان غامضة المصادر والمذاهب. وحضرتْ أمامي المخطوطات القديمة التي صادفتها في مكتبات ومتاحف العالم وبهرتني البروق الساطعة في سواد حبرها العتيق. ورحت، يوماً بعد يوم، أبسط أنواع الورق المختلفة العجائن بأقطانها الناعمة وطحينها الدقيق، وأدفق فوقها الحبر الأسود، فتتوهج الحروف والكلمات منبثقة في اندياحات مختلفة الحيوية والسلاسة والتهدج والتعرجات، حيث إن كل نوع من هذا الورق سيكون أرضاً مختلفةً بتضاريس حية طازجة متغيرة، تتفاوت فيه النعومة والخشونة فيؤثر ذلك في حركة الريشة وانسيال الحبر ومنعرجاته، الأمر الذي سيجعل الخطّ غيره في كل مرة، حتى ليبدو لك أن صاحب الخطّ في كل دفتر وفي كل ورقة هو شخصٌ آخر في كل مرة، وهذا بالضبط ما سيحلو لي، ويدفعني أكثر لتغيير الورق والكراسات في كل نص. تلك هي اللذة المدهشة التي لن يعرفها الذين يهجرون الكتابة بالقلم، ويتأخرون عن ملامسة الورق المصنع بأقلامهم وأحبارهم وكلماتهم وحروفهم المتعبة ليصيبها الانتعاش. فالخطّ والكتابة ضربٌ من إنعاش الولع بالتدله.
(31)
كنت أسأل نفسي، فيما أتوغل في خطّ النصوص على سداة الورق الحيّ: تجربة من هذا النوع هل تطرح على الشاعر السؤال المتعلق بمفهوم حميم من الشعرية، وتطرح على عاشق التشكيل مساءلة مفهوم الرسم واللون وتجلياتهما التقنية المحتملة، فيما يشتغلان في ورشة واحدة؟.
(32)
بالنسبة لي سيكون الأمر أكثر تشويقاً ومسؤولية، فبعد العلاقة القديمة بولع الرسم، والغنية بالتجارب المشتركة مع الرسامين، تأتي هذه التجربة، باعتبارها سؤالاً، يضعني في مهب المغامرة، ليمتحن الحواس كاملة، ويضاعف المتعة. ربما جاءت هذه التجربة في واحدة من الذروات المنتظرة لتلك الأعمال المشتركة، المتنوعة، المتفاوتة النجاح والفشل، لأكون فيها حراً في الريح.. بأجنحة جديدة.
لكن دون أن أعرف، على وجه التعيين، ماذا أريد. هل هو بحثٌ عن الشيء الفني، أم هو السعي الحثيث إلى خلق الشيء الفني مجدداً؟ هل ثمة رغبة مضمرة في بلورة منظومة من المفاهيم الفنية المتصلة بالعلاقات الغامضة الملتبسة بين رؤية الإبداع وشكله؟ بين موضوع (أو مضمون) النص ولغته وأدواته؟
أكثر من هذا، هل هذا اقتراحُ حوارٍ بين حدود النص بوصفه أدباً، وآفاقه بوصفها فناً قابلاً للتجلي في أشكال تعبيرية مختلفة؟
(33)
فيما كنت منهمكاً في العمل، وبمعزل عن الكون،
جاء ابني محمد ليشاركني التجربة بموسيقاه الخاصة، فبعد أن قرأ جانباً من المسودات الأولى في برلين، قال:
«ثمة جوقة من الملائكة تصغي معي لأجراس كثيرة في هذه التجربة».
ووضع مخيلته الموسيقية في مهبّ المختبر الفني الذي كنت أغرق في موجه الكريم.
وفيما كنت منهمكاً في ورشة المخطوطة الفنية في البحرين، جاءت ابنتي طفول برؤيتها التصويرية، وراحت تسجل تلك اللحظات الغريبة غير المعهودة في تجاربي السابقة، قالت:
«هذه تجربة لا نصادفها كل يوم، وسأضعها في مكانها من الذاكرة».
ثم أطلقت لعدستها حرية المشاركة الفنية، حيث الصورة أخت الواقع، وابنة الخيال.
لقد وجدتُ في حضور طفول ومحمد، حواراً عفوياً نادراً يصعب تفادي مغرياته، وشعرتُ أنها اشتراك فاتن في التحية الصادقة الحميمة التي جمعتنا للتحليق بكل هذه الأجنحة مع كتاب حياتنا.
(34)
هل لا يزال السؤال الحاسم الجوهري هو: ماذا يريد المبدع، عُمقياً، من العملية الفنية برمتها، فيما ينجز تجربته؟ ماذا يريد أن يحقق في الفن، وماذا يهدف من الفن، خارجَ الفن؟
ربما كانت هذه الأسئلة في حدود مشاغلي سابقاً، لكنها لم تشغلني هذه المرة طوال سنوات انهماكي في طرفة بن الوردة. لقد كانت متعتي، أثناء العمل، هي فقط ما يستغرقني طوال الوقت. حتى أنني أكاد أقول أن تلك المتعة هي الغاية الأعمق في حد ذاتها التي ذهبت إليها. لكأن الفن هنا أفق يتم الذهاب إليه أكثر من توهم الوصول. ربما كان الفن في حقيقته ذهاب بالدرجة الأولى.
وأستطيع القول هنا، الآن،
بأن كل ما كان يحدث ويتحقق من سياقات وتقاطعات ورؤى فكرية، إنما حدثت أثناء ذلك الذهاب الفاتن، الحر، المنشغل بالتحديق والاكتشاف والكشف أكثر من عنايته بالنتائج والغايات. وربما حدث ذلك استخلاصاً عفوياً لما لا يقاس ولا يحصى من تجارب الشخص في حيوات متراكمة متكاثفة، واحتدامات فنية، ونصوص عديدة سابقة، يحدث كلما طعن الشاعر في السن والكتابة.
(35)
كشفتْ لي تجربة طرفة بن الوردة، أنني بالكاد أبدأ.
بالكاد أعرف أنني أبدأ.
فيما أقفُ على ضفاف الكتابة التي تعالج روحي كلما تعرضتْ للعطب.
36
هذا كتابٌ علَّمَني كثيراً.
ابريل 2011