جواب
أولت "الآداب" و "دار الآداب" منذ نشأتهما، الكاتب الفرنسي جان بول سارتر اهتماما كبيرا تجلى في ترجمة أهم مؤلفاته، ونشر دراسات ستقيضة عنه، والعناية بالحديث عن مواقفه. المختلفة.
ولم يكن مصدر هذه العناية وذلك الاهتمام إلا الايمان بأن هذا المفكر الكبير هو أعظم المفكرين الأحرار في القرن العشرين، وأن دفاعه الصادق عن قضايا الحرية في العالم، ولا سيما قضية استقلال الجزائر، جدير به أن يفوز بكل حبنا واعجابنا، وانه لكسب لنا، نحن العرب، أن يتجند أكبر مفكر حر في عصرنا للدفاع عن قضيتنا في الجزائر، كما انه كعب للبشرية كلها أن يضع سارتر كل عبقريته واخلاصه في خدمة الحرية، والدفاع عن حقوق المضطهدين، وخضر اساليب الاستعمار، بشكليه القديم والجديد.
على أن ما يزيد أهمية سارتر في نظرنا، هو ان مواقفه هذه صادرة عن نظام فلسفي متكامل استطاع أن يجعل منه واحدا من أكبر الفلاسفة المحدثين.
ولا ريب عندنا في أن اقبال القواء العرب على مطالعة آثار سارتر يترجم خير ترجمة عما وجدوا في مؤلفاته من زاد وغذاء ضروريين لهم في سعيهم لخلق حضار تهم الجديدة وتحقيق شخصيتهم المستقلة.
لقد كان الأدب الوجودي الذي يمثله سارتر أفضل تمثيل يعبر تعبيرا عميقا عما عدناه الجيل الفرنسي منذ كارثة الهزيمة الفرنسية أثناء الحرب وبعدها، ولعل شيوع هذا الأدب في وطننا العربي معزو الى أن الاجيال العربية الجديدة تجد فيه ما يثبه التعبير عما تعانيه منذ كارثة فلسطين، لقد كان من المفروض أن ينشأ لدينا بعد هذه الكارثة أدب يعكس أوضاعنا وهمومنا
ويعبر عن أشواقنا لمحو هذه اللطخة من تاريخنا، ولكن أجيالنا الجديدة حين افتقدت هذا الأدب، الذي ربما كان بوسعنا أن نلتمس لعدم نشوئه بعض التبريرات، راحت تبحث في الآداب الاجنبية عما يعبر عن قلقها وتمزقها وضياعها، وآمالها كذلك، فوجدت هذا كله في الأدب الوجودي عامة، وفي آثار سارتر خاصة.
ان جماع فلسفة سارتر يتجه الى أن الانسان ينبغي أن يكتب جوهره بالحياة والعمل. فهو ليس شيئا آخر غير ما يكونه بنفسه، وهو مطلق الحرية بأن يصنع بنفسه ما يريد ان يكونه، أو بالأحرى ما "ينزع" الى ان يكونه. وهكذا تكون غاية هذه الفلسفة، بكلمة مختصرة قد تؤدي الى تشويه غناها الحقيقي، خلق الانسان خلقا جديدا يقوم على الحرية والمسؤولية.
وليس من شك في ان حاجتنا القسوى، نحن العرب، في هذه المرحلة الدقيقة من تاريخنا، هي ان نكتسب الحرية، وان نضطلع بالمسؤولية.
وهاتان الفكرتان، الحرية والمسؤولية، هما قطبا الفلسفة السارترية كلها، وقد أصيبت هذه الفلسفة بتحريف وتشويه عندما اختطفها جيل من الضائعين في فرنسا اثناء الحرب وبعدها ليجعلوا منها مرتكزهم السلوكي، فاذا هم يقتطعون من قطبيها القطب الاول الذي هو الحرية ليمارس ها وفق أمزجتهم وأهوائهم، ويسقطون المسؤولية التي هي الضابط والرقيب لكل حرية انسانية.
وليس في الفلسفات القديمة والحديثة فلسفة كالوجودية تحفظ للانسان – كفرد- كل قيمته، لانها تربط هذه القيمة بالعمل الانساي، والعمل الانساي وحده، ولا تلقي المسؤولية إلا على هذا العمل، بحيث يكون الفرد هو خالق نفسه أولا، وأخيرا، فمنه تنبع كل قيمة، وفيه تصب.
واذا كان الانسان، عند سارتر، بلا جذر، فلانه هو جذر نفسه، واذا لم يكن ثمة في الخارج ما يكسبه قيمة، فلأنه هو قيمة نفسه، ولنن كان متروكا، فلأنه حر. ان حركاته لا يمليها عليه لا نظام إلهي، ولا نظام عقلاني يجده في ذاته او في الاشياء، ورد فعله الأول هو دوار قلق أمام الكلمة العظيمة الخصبة التي تنير لنا ان نواجه الحياة.
وليس من قصد هذه الكلمة ان تستعرض فلسفة سارتر، ولكن يهمنا هنا ان نرد التهمة الخاطئة التي يحلو للبعض، ولا سيما عندنا، أن يلصقوها بهذه الفلسفة حين يدعون انها لا اخلاقية. والواقع أن هؤلاء انما يعتبرون الاخلاق قبلية قائمة وناجزة، ويقيسون بها كل المواقف. أما سارتر، فان "أخلاقيته" تريد أن تكون خلقا دائما، مادام العالم لا يني يكشف عن اوضاع جديدة، ليست هناك "حكمة" قائمة ينبغي العودة اليها والحرص عليها، كما انه ليست هناك قيم عالمية. والحق ان سارتر انما يهاجم هذا "العالمي". لانه يؤمن بان ليس ثمة "جوهر" متجمد علينا أن نحترمه، وانما هناك "وجود" جديد دائما علينا ان نبرره أبدا وبلا انقطاع. ان سارتر هو كاتب عصر ينفصل عن فكرة التقاليد، ليجعل من الحضارة تجددا، لا حفاظا للقوانين ومراعاة، ومن الحياة مغامرة لا نظاما قائما. وهو يريد للعمل الأخلاقي ان يكون اختيارا لا مجرد طاعة.
ويهمنا هنا ان ننبه قارئ سارتر الى ان عليه ان يأخذ آثاره ومؤلفاته كوحدة لا تنفصم عراما اذا شاء أن يفهم فلسفته واتجاهه. أما اذا جزأها، ووقف عند هذه الاجزاء المتناثرة، فسيجد فيها كثيرا من المظاهر السلبية التي قد تحمله على الاعتقاد بأن سارتر عدمي او تشاؤمي، والحق ان آثار الكاتب الوجودي تبدو أشبه بسلسلة تكمل حلقاتها بعضها بعضا. فأهميتها صادرة عن انها تعرض علينا رؤية للعالم والانسان تجمع وتنظم معطيات الضمير المعاصر المتفرقة، وهي تريد أن تكون توكيدا لموقف: فضح العالم في لوحة لا هوادة فيها لما هو الانسان. ولكن غاية سارتر تتجاوز ذلك: فهو لا يواجهنا بجميع الأسباب التي تدعونا الى اليأس الا لنعرف اذا كنا سنجد فيما وراء ذلك تبريرا للحياة. ان كل بطل سارتري يعيش تجربة حريته، وليس الأبطال السارتريون كائنات تجريدية تعوم في الفضاء، ولكنهم جميعا متموضعون في واقع دقيق، تاريخي واجتماعي ونفسي وفكري. غير ان التموضع ليمي تحديدا، وانما هو مجال الاختيار الحر. صحيح أن الانسان يشعر بـ"الغثيان" أمام الواقع الذي لا شكل له، الواقع اللامعقول، العبثي، الذي يغمر أنطوان روكانتان. ولكن في الصفحات الاخيرة من رواية "الغثيان" موسيقى اسطوانة يشرق منها أمل في التحرر. ان اللحن لا يوجد كالأشياء أو كا لانسان، وانما هو دقة وضرورة، أفلا يمكن لنا أن نكون على شاكلته: لا أن نوجد، بل ان "نكون" بأن نخلق أشياء تكون فوق الوجود وتفلت من عبثيته وعرضيته: كالكتب واللوحات؟ أجل، يكفي تجاوز "الغثيان" وتثبيت العرضية ورؤية ما تقتضيه، حتى تكتشف "دروب الحرية". وصحيح أننا حين نقرأ "سن الرشد" و "وقف التنفيذ" نفرق في عالم مختلط، اعتباطي، يحمل الاشمئزاز واليأس، وتنبعث منه رائحة مغثية خانقة، ولئن كنا نجد صفحات كنيرة من الوصف الجنسي والبذاءة، فلن نعتقد لحظة ان سارتر يقدمها للاثارة والامتاع، وانما هي في نظره صورة الوجود، الوجود الاولي المعطى غير المتميز، والذي لابد ان يتغير ويتحول ويعوض عنه، والحرية هي العامل الرئيسي للجوهر الحر الذي يصنع الواقع البشري، ان الجوهر يصنع ويكتسب بالعمل، بالالتزام الحر.
اننا في "دروب الحرية" نجدنا أمام أبطال بعيدين عن ان ينظموا أعمالهم وتصرفاتهم وفق خط مصمم مختار، بل هم يتناثرون في أعمال مجانية او تصرفات لا تفسر، تنكر التصميم والتقرير، وتناقض البساطة، أعمال لا معقولة او عابثة او كريهة: كأن يزرع أحد الأبطال سكينا في يده، أو يثمل، او يسرق مالا من امرأة، أو كتابا من واجهة مكتبة. ولكن يجب ان ندرك أن هذه الاعمال انما هي توكيدات سيئة للحرية او للشجاعة، انها حرية سلبية لدى ماتيو، غير أننا نراه في الجزء الثالث وفي الفصول التي نشرت من الجزء الرابع يسير نحو حرية ايجابية اذ يحس أنه مسؤول ومتضامن مع جميع الآخرين. لقد اكتشف أن الحرية لا قيمة لها الا بما تستعمل له، وانها تتطلب التزاما ومسؤولية، كما تتطلب عملا دقيقا واضحا في وضع معين، في حين انها لم تكن تبدو له في "سن الرشد" إلا كفرصة للتحرر، انه يسعى الى ادراك الواقع المحسوس حيث يعمل الانسان، هذا الواقع الذي كان يتحاشده دائما، لقد اراد أن يؤكد نفسه بعد ان غرق في الوحشة والخجل أثناء الهزيمة، وادرك ان خاصة الوضع الانساني هي ان يدخل تغييرات وتبديلات على معنى العالم، هي ان يعمل ومن أعلى البرج "أخذ يطلق رصاص بندقيته ضد مدافع الجيش الالماني ومصفحاته، وبهذا كان ينكر جميع التحفظات الناعمة في حياته، ويؤكد ان على من أراد الحياة حقا ان يجازف، وقد كانت حرية مزيفة تلك التي كانت تقوم في "سن الرشد" على تأمل العالم من غير الانخراط فيه، وانما تتخذ الحرية صعناها الصحيح لماتيو في العمل.
وهكذا أورست في مسرحية "الذباب". لقد استطاع ان يقول وهو في وضع مشابه: "لقد قمت بعملي" يا ألكتر.. وسأحمله على كتفي كما يحمل عابر الماء المسافرين، فأوصله الى الشاطئ الآخر وأكون مسؤولا عنه، ومتزداد فرحتي ما ازداد ثقلا علي الحمل، لان حريتي هي اياه، حتى الأمس كنت أضرب في الأرض على غير هدى، وكانت ألوف الطرق تفر تحت قدمي، لأنها كانت تخص آخرين، أما اليوم،، فليمر هناك إلا طريق واحد، والله يعلم الى اين يفضي: ولكنه "طريقي".
واذا استعرضنا سائر مؤلفات سارتر، وترجمته ودرا مته، فلاننا كنا وما نزال نجد في آثاره دروسا نتعلمها في الحرية والعمل والخلق، ولاننا وجدنا هذه الدروس في قالب فني ممتاز بعيد عن الدعاية والتقريرية والوعظ، ولأن فيها تعبيرا عما نعانيه من ألوان القلق والتمزق واليأس أحيانا، ولكن فيها كذلك أملا بالنجاة والتحرر بالعمل والاضطلاع بالمسؤولية.
ثم اننا كنا وما نزال نجد تجسيدا لهذه الفلسفة في المواقف الرائعة التي وقفها صاحبها من قضايا الحرية في العالم. أننا لا ستطيع أن ننسى مقالاته وخطبه وبياناته في الدفاع عن حق الشعب الجزائري بئا لاستقلال، ولا ننسى أنه سار في عدة مظاهرات تأييدا لهذا الحق واستنكارا لسياسة الارهاب الفاشية التي كان يتبعها المسؤولون الفرنسيون في الجزائر وفي فرنسا. ونحن نذكر أبدا تحريضه للجنود الفرنسيين على التمرد والعصيان وعدم الذهاب الى الجزائر، حتى لقد اتهم بخيانة فرنسا. ونذكر بيان المائة والواحد والعشرين مفكرا فرنسيا الذي أشرف على وضعه، وحرمانه من كل نشاط رسمي، ونسف بيته في باريمى، ومحاولات الاغتيال المتعددة التي تعرض لها من قبل منظمة الجيش السرية، هو وشريكته سيمون دوبوفوار.
ونحن نذكر موقفه المشرف الصادق من حوادث المجر، يوم استنكر تدخل القوات السوفييتية، هو الذي كان وما يزال من أكبر المتعاطفين مع الفكر الماركسي والشيوعي، وكذلك موقفه من التمييز العنصري في أمريكا، وتأييده للثورة الكوبية ضد الاستعمار الاقتصادي الامريكي، كما عبر عن ذلك في "عاصفة على السكر"، وقد صدر ه أخيرا كتاب خطير جمع فيه عددا من المقالات والخطب والمقدمات التي كتبها دفاعا عن حقوق الشعوب المضطهدة، وفيها دراسة من أعمق الدراسات التحليلية عن مياسة لومومبا والاستعمار الجديد.
ولا شك في أن منه سارتر جائزة نوبل قد جاء متأخرا جدا عن أوانه، ولكننا نعتقد ان سارتر كان سيرفض هذه الجائزة ايضا لو منحها في أوانها، لان ذلك وثيق الارتباط بمواقفه كلها، تلك المواقف التي اراد فيها دائما ان يثبت حريته وايمانه بالكرامة وزهده بالاغراء المادي.
×××
جواب:
نحن نؤمن بأن الأدب نشاط فكري يستهدف غاية عظيمة: هي غاية الأدب الفعال الذي يتمادى ويتعاطى مع المجتمع، اذ يؤثر فيه بقدر ما يتأثر به. والوضع الحالي للبلاد العربية يفرض على كل وطني أن يجند جهوده للعسل في ميدانه الخاص، من اجل تحرير البلاد ورفع مستواها السياسي والاجتماعي والفكري. ولكي يكون الأدب مصادقا، فينبغي له الا يكون بمعزل عن المجتمع الذي يعيش فيه.(1)
وهدف "الآداب" الرئيسي أن تكون ميدانا لفئة أهل القلم الواعين الذين يعيشرن تجربة عصرهم، ويعدون مشاهدا على هذا العصر: فغيما هم يعكسون حاجات المجتمع العربي، ويعبرون عن شواغله، يمشقون الطريق أمام المصلحين، لمعالجة الأوضاع بجميع الوسائل المجدية. وعلى هذا فان الأدب الذي تدعو اليه المجلة وتشجعه، هو أدب "الالتزام" الذي ينبع من المجتمع العربي ويصب فيه.
والمجلة، اذ تدعو الى هذا الأدب الفعال، تحمل رسالة قومية مثلى، فتلك الفئة الواعية من الأدبا، الذين يستوحون أدبهم من مجتمعهم، يستطيعون على الأيام أن يخلقوا جيلا واعيا من القراء يتحسسون بدورهم واقع مجتمعهم، ويكونون نواة الوطنيين الصالحين. وهكذا تشارك المجلة، بواسطة كتابها وقر ائها، في العمل القومي العظيم، الذي هو الواجب الأكبر على كل وطني.
على أن مفهوم هذا الأدب القومي سيكون من السعة والشمول حتى ليتصل اتصالا مباشرا بالأدب الانساني العام، مادام يعمل على رد الاعتبار الانساي لكل وطني، وعلى الدعوة الى توفير العدالة الاجتماعية له، وتحريره من العبوديات المادية والفكرية، وهذه غاية الانسانية البعيدة، وهكذا تسهم المجلة في خلق الأدب الانساي الذي يتسع ويتناول القضية الحضارية كاملة، وهذا الأدب الانساني هو المرحلة الأخيرة التي تنشدها الآداب العالمية في تطورها.
ظل مفهومي للأدب، منذ نصف قرن تقريبا، أي منذ اصدار مجلة الآداب عام 1953 يتشكل من هذه الأفكار الرئيسية التي أوردتها أعلاه، ولا أعتقد انه قد طرأ عليها تغير جذري: الا بالنسبة لمفهوم الالتزام الذي أصبحت أكثر حرصا على ربطه بفكرة الحرية وابعاده عن فكرة "الالزام".
ــــــــــــــ
1- راجع العدد الأول (كانون الثاني 1953) من مجلة "الآدب".
سهيل ادريس (ناشر وكاتب من لبنان)