كراسي وظلال
يطل المكان مزدحما بخوائه ، مغلفا بصمته الى ساعة متأخرة من الصباح.
وحدها شجرة كافور تنهض وسطه ، وترفه في سماد قامة مديدة تتمايل بننج لعوب يشعل في دم الهواء المتصابي نجمة الهياج. وفي الأسفل أسفل جذع الشجرة حشد من كراسي تتزاحم وتتدافع ، أمارة تشي بحالتهم حين غادروا بالأمس.
… يبزغون فجأة يتوالى تدفقهم من أطراف الحديقة الشاسعة وكأنهم في بزوغهم المباغت ينبثقون من ظلال الأشجار المتشابكة هناك أو ينبعون من جذوعها الضخمة أو أذرعها الخضراء الممدودة أعلى الممرات هي من تذرفهم هكذا واحدا، واحدا وفي نفس الموعد من كل صباح.
يشقون طرقهم بين نتف الخضرة المتناثرة ، بخطوات حثيثة وكأنما حاجة ملحة تدفعهم للمجيء أو أن عهدا مقدسا قطعوه على أنفسهم يغذي فيهم هذا التوق العارم لبلوغ هذه الرقعة التي تتراءى بموقعها المنفرد ومظهرها الترابي الاجرد، المستوى، الملتف من حول شجرة الكافور خرقا فادحا لهذا المحيط الشاسع من الخضرة.
… يصلون
يجرجرون كراسيهم المتزاحمة حول الشجرة ويرسمون في ظلالها المستلقية ناحية الفوب دائرة واسعة من الكراسي ، يحشون فجواتها المتوالية بلدانة أجسادهم ويغرقون في الصمت أو في الكلام في الضحك أو في الأنين ، ناقلين جذوعهم من ناحية الى أخرى ، نافثين دخان سجائرهم في الهواء وعيونهم محطات ترقب مفتوحة على الجهات بينما دائرة الكراسي تزحف بهم بين لحظة وأخرى بصبر دؤوب مع الظلال باتجاه الشجرة.
وما إن يعتلي النهار دكة الظهيرة حتى ينهضوا.
فجأة ينهضون.
تصطفق كراسيهم مسددة آخر طلقة في جسد الصمت الهاطل على اعقابهم. يغادرون المكان بتلاحم عنقودي تنفرط حبيباته تدريجيا كلما أوغلوا في النأي. لتتلاشى هناك في ظلال الأشجار المتشابكة ، في تجاويف جذوعها وفي ثنايا أذرعها الخضراء. مخلفين وراءهم نقوش أحذ يتهم ، اعقاب سجائرهم خطوط حوافر كراسيهم المرتعشة تتعارك على وجه المكان بينما تتخافق أطيافهم في فراغه المتكاتف. ويتزاحم وسطه حشد من كراسي تتملكا رغبة مجنونة في الانسلاخ عن طبيعته الصلبة والجامدة متحولا ال رقائق ظلالية قاتمة تفور رويدا رويدا أسفل جذع الشجرة.
ترك عينيه تجوبان محجريهما وتعانقان الفضاء المحيط بطلاقة ، ارتدتا بقوة حين لاحظتا أن شحوبا غامضا بدأ يكتنف ضوء النهار فاستيقظت في داخله كائنات الخوف ووطاويط الفزع – يا للعجب !: قال بصوت مسموع ووجد قدميه تجثان الخطى نحو البيت دون ارادة منه.
حين وصل الى فتحة الزقاق المؤدي الى الباب المؤدي بدوره الى السلم الصاعد الى غرفته كان ضوء النهار قد كفكف ضفائره وحل _ بدلا عنه طائر الليل فارشا أجنحته الثقيلة باتساع.. باتساع عل سطوح المنازل.. على أرصفة الشارع عل الشارع في المساحات الفارغة بين عطفات ملابس العابرين في شعر البنات والصبية الراكضين وأيضا في الزقاق المؤدي الى الباب حيث دلفت قدماه المرتعشتان الى الداخل بصعوبة.
استرد أنقاسه وأخذ يركض صاعدا درجات السلم بسرعة الطير.. وكعادته بدأ العد.. ولكن هذه المرة من أجل أن يزيح عن ذهنه التفاصيل الغريبة لهذا النهار الغريب واحدة ، اثنتان ، خمس ، عشر، مئة ، منتان ، ألف.. وضحك من أعماقه بمرارة كانت الجدران المحاذية للسلم تسح نحو الأسفل بسرعة كبيرة وهو مستمر في الركض نحو الأعلى عاجزا عن التوقف.. امتزجت ضحكاته بلهاثه وهو مستمر في الركض توقف عن العد منهك القوى وندت عنه نهاة مستوحشة.
إن الوصول الى باب غرفته يستغرق عادة عشر خطوات فقط وها هو ذد يجتاز عددا لامتناهيا من الخطوات دون أن يصل لأي باب..!
ليس أمامه سوى السلم الممتد الملتوي.. والدرجات المعتمة والجدران الترابية اللون ، لاشك أن شيئا ما حدث ، شي ء مخيف ومهلك يحدث هذا النهار – يا ترى أين ، أين باب غرفتي؟
قرفص على إحدى درجات السلم وأخذ يهون بإحدى يديه أمام وجهه المرعوب ، مستندا بظهره الى الجدار، طرأت في ذهنه فكرة أنه مخطيء ربما فهذا البيت لا يشبه بيته ، وهذا السلم لا يؤدي ال باب غرفته ، انتفض فجأة ورمن بجسده نحو الأسفل بفرح طفولي ، أخذ يعدو عل درجات السلم وكعادتا بدأ العد : واحدة اثنتان ، عشر، مئة ، عشر بعد المائة مائتان ، ألف ألفان ، مئتا ألف ، مائة بعد الألف واختلطت في ذهنه الأرقام وانطفأ في عينا شعاع الأمل من جديد، لقد قطع عددا لا متناهيا من الخطوات دون أن يصل الى باب غرفته ، وها هو ذد يجتاز عددا لامتناهيا من الخطوات دون أن يصل الى الباب المفني الى الزقاق الخارجي ولا لأي باب !
غطى وجهه بكفيه ، وصاح صياحا شق آذان العالم.
محمد أحمد عثمان (قاص من اليمن)