الثقبُ الأسود
قالوا عني: مجنونة..
هكذا بالحرف الواحد: (امرأة مخرّفة ومجنونة).
ولكنني متأكدة، بأنه كان ثقباً أسود صغيراً، بحجم الجلّة، يبدو كبقعةٍ داكنةِ اللونِ قربَ الرصيف.
انتبهتُ إليهِ قبل مدّة في حارتِنا القريبة من الدوار السابع. وكأنني لمحتُ النملَ الذي مرَّ بالقربِ منه، يختفي، كما الآثارَ في صحراء رملية بعد هبوبِ الرياح.
في اليومِ التالي، كبرَ الثقب. رأيتُ قطّةَ الجيرانِ تقتربُ منه، سمعتُ مواءها الذي أعرفه، إنها قطّة جارتنا أم فتحي، تموء كي نشفق عليها ببعض الطعام، لأنها حامل. حين دخلتُ الى البيت وأغلقتُ الباب خلفي، تغيّر مواؤها وأصبح مواء طويلاً كأنه قادم من كهف ما، ثم اختفى.
بدأتُ أشعرُ بالقلق.
لم أنمْ في تلك الليلةِ وأنا أفكّر بجدّية: هل ابتلعَ الثقبُ القطة؟ سمعتُ عن الثقوبِ السوداء في السماءِ، التي تبتلعُ الكواكبَ والأقمارَ والمركباتِ وكلّ خفقة ضوء، كما يقولون، ولكنْ أنْ يوجد ثقبٌ هنا على الأرض، فهو أمرٌ محيّر.. تخيّلتُ الثقبَ يبتلعُ شجرةَ الزيتون المزروعة على الرصيف أمام بيتي، أو يبتلع أحدَ أولادِ الحارة المزعجين (ليته يفعل).
في صباح اليوم التالي، انتظرتُ خروجَ جاري أبي محمد من منزله، في موعده المعروف. سمعتُ صوتَ عصاه تضربُ الأرضَ بإيقاعٍ رتيبٍ كما في كلّ صباح، وفجأةً بدأَ صوتُ الضرباتِ يتلاشى ليصبحَ دبيباً خافتاً مكتوماً، حتى اختفى.
اعتبروني امرأة ًمخرّفة،عاشتْ لوحدها زمناً طويلاً مع كتبِ الأساطيرِ والغرائبِ والمجلاتِ الصفراء، فتتوهم ما ليس له وجود… ثقباً أسودَ يبتلع كلّ شيء كما ابتلع قطة أم فتحي وأبا محمد وعصاه السحرية. ثقباً يبتلع السيارات، القطارات، الطائرات، الجماهير الغفيرة في الملاعب، المحاربين الأغبياء في ساحات المعارك… جثث القتلى، الغابات والأنهار..
ببساطةٍ لستُ مجنونة، فحينَ خرجتُ اليوم من البيت، كان الثقبُ قد اتسعَ كثيراً. رأيتُه أمامي يبتلعُ الضوءَ الذي نرى به…!
كانَ هذا آخر ما رأيت، لأنني أصبحتُ عمياء..
أصبحنا جميعنا عمياناً.
لم أعد أرى شيئاً، ولا أدري الآن هل أنا في الخارج لا أرى، أم أنّ الثقب ابتلعني مع الآخرين…!
ذاكرةُ حرب
سألَ المعلّم تلاميذَه
– ما معنى الوطن؟
ألقتْ ذاكرتُهُم الجمعية مشاهدَها في عقولهم، البيوت المهدمة والمنهوبة، أشلاءَ الجثث المتناثرة في الشوارع.. الشوارعَ المقفرة إلا من ملابس ممزقة، الملابسَ التي لا يغطّيها شيء سوى الدماء الجافة، الدماء التي بلون الموت الأسود هنا وهناك. الموت الأسود الذي لا يجد من يأويه.
نظر طلاّبُ الصفِّ الثالث إلى بعضهم البعض، ولم يجبه أحدٌ سوى طفلٍ ضئيل الحجم، رفعَ يدَه فجأةً على استحياء.
انفرَجَتْ أساريرُ المدّرس:
– تفضل، ما معنى الوطن؟؟؟
– أريد أن أذهب الى الحمام،
أجابَ الطالبُ، وانتشرَتْ في الجوّ رائحةٌ قاتلة، كرائحة (غائط) في حالة إسهال شديد..!
* من مجموعة قصصية جديدة تصدر قريباً.
سامية العطعوط