يَعُدُّ طه أحمد إبراهيم كتاب “طبقات الشعراء” لمؤلفه محمد بن سلام الجمحي (تـ231هـ) البادرة الأولى في التأليف النقدي، ولذا يجعل له أهمية خاصة ويرى له فضلا في الرقي بمسيرة النقد “لا لأنه أتى بجديد غير ما أتى به سابقوه ومعاصروه، ولا لأنه خاض في الأفكار التي خاض فيها غيره من اللغويين والرواة، بل لأنه أول من نظم البحث في هذه الأفكار وعرف كيف يعرضها ويبرهن عليها ويستنبط منها حقائق أدبية في كتابه طبقات الشعراء”(1)
يحتفي المؤلف بابن سلام لما صنعه من الفرق في التراث النقدي بإقدامه على التدوين الذي حقق به :
– حفظ المتداول من الأفكار النقدية حين “أودعها كتابا لعله أسبق الكتب في ذلك”(2)، فـ”أول شيء عمله ابن سلام وعمله المؤلفون من النقاد هو جمع هذه الآراء المبعثرة التي قيلت في الشعر وفي الشعراء، جمع ما قاله الأدباء والعلماء في نقد الشعر، وفي الكلام على الشعراء، وهذه الأفكار السابقة هي نواة كتاب ابن سلام وهي نواة كثير من الكتب التي ألفت بعده”(3)
– تمحيص تلك الأفكار وتحقيقها والبرهنة عليها “وصبغها بصبغة البحث العلمي”(4) ؛” فإن ابن سلام درس الأدب، وبحث المسائل الأدبية بحث عالم متأثر بروح عصره في الاستيعاب والشرح والتحليل، وذكر الأسباب والمسببات”(5)
– تنظيم العرض، الذي أتاح له الاستنتاج وتوليد حقائق أدبية، فقد “زاد على ما قالوا في النقد الفني وفي النظرات في الأدب”(6)
” فهو بذلك من الذين أفسحوا ميادين النقد، وهو بذلك أول المؤلفين فيه”(7)
هكذا يعتبر المؤلف أثرا كبيرا للتأليف في تطور التراث النقدي، فلا يقف بأهميته عند حفظ النتاج المتداول، بل يراه وسيلة لتنظيم البحث واستنباط حقائق وقواعد نقدية، ووسيلة لبسط الاستدلال والنقاش والترجيح بين الآراء، ولذلك أفسح التدوين ميدان النقد.
والحقيقة أن الفضل للتدوين في حفظ المنجز، فبقاء المنجز النقدي وأسماء النقاد والشعراء وآدابهم إلى يومنا هذا إنما هو ثمرة التدوين وفائدته وحصيلته، وفضائل التدوين الأخرى التي ذكرها المؤلف إنما هي مترتبة على هذه الفضيلة. واقرأ-إن شئت- الحقيقة التي كتبها ابن قتيبة في مقدمة “الشعر والشعراء” لتتبين أهمية التدوين في هذا الجانب، يقول: ” وكان أكثر قصدي للمشهورين من الشعراء، الذين يعرفهم جل أهل الأدب، والذين يقع الاحتجاج بأشعارهم في الغريب وفي النحو وفي كتاب الله عز وجل وحديث رسول الله-صلى الله عليه وسلم-. فأما من خفي اسمه، وقل ذكره، وكسد شعره، وكان لا يعرفه إلا بعض الخواص، فما أقل من ذكرت من هذه الطبقة، إذ كنت لا أعرف منهم إلا القليل، ولا أعرف لذلك القليل أيضا أخبارا، وإذ كنت أعلم أنه لا حاجة بك إلى أن أسمي لك أسماء لا أدل عليها بخبر أو زمان، أو نسب أو نادرة، أو بيت يستجاد أو يستغرب.”(8)
فإذا كان هذا حال أبرز العلماء من خفاء الشعراء السابقين عليه إلا المشهورين منهم، وهو في المائة الثالثة من بدايات الشعر، فما بالك بما يكون بعده لولا التدوين، وهو يصرّح أن الشهرة هي سبب حفظ من حفظ منهم، وإنما كانت شهرتهم للعناية بشعرهم بداعي الحاجة إلى الشواهد في بيان معاني اللغة وجواز الاستعمال، وإلا لنسي الكثير منهم أيضا، هذا مع تصريحه بأن عدد الشعراء: “أكثر من أن يحيط بهم محيط، أو يقف وراء عددهم واقف، ولو أنفذ عمره في التنقير عنهم، واستفرغ مجهوده في البحث والسؤال.”(9)، فلا سبيل إلى حفظ الإنجاز العلمي والأدبي وتاريخهما إلا بالتدوين، وما كان للذاكرة أن تحفظ إلا شذرات لا يمكن القطع بها، والركون إليها. فقد صنع ابن سلام خيرا كثيرا عندما سنّ تدوين الأدب والنقد.
ويسلك المؤلف مسلكا علميا موضوعيا في دراسة الكتاب: فلا ترهبه مكانة الأسبقية والقدم فيجامل، ولا تأخذه عصبية أو هوى فيتجنى، يرى رأيه بعد الدراسة وإمعان النظر، فيبرز المحاسن، وينتقد ما لا يوافقه.
وبداية يعطي تصورا مجملا عن مادة الكتاب، فيختزلها في فكرتين مهمتين، ثم يضيف إليهما فكرة ثالثة يراها عرضية، يقول: “هاتان هما الفكرتان اللتان يقوم عليهما كتاب طبقات الشعراء لابن سلام: الكلام في الشعر الموضوع، والكلام في الشعراء وأشعارهم وجعلهم طبقات”(10)، “وتلي هاتين فكرة عرضية …هي الفكرة التي تتصل بما دعوناه النقد الموضوعي”(11)، ويقصد به البحث في العلة والسبب. وهذه الثالثة أقرب أن تكون منهجا داخل فكرة الطبقات، وليس فكرة مستقلة. ويصرح المؤلف بأنها موجودة قبل ابن سلام لكنها “اتضحت عند ابن سلام أكثر من ذي قبل، ونظمت تنظيما علميا صحيحا يستند إلى الفكرة وإلى ربط الأمور بأسبابها. كان عدي بن زيد لين اللسان سهل المنطق، لماذا؟ لأنه كان يسكن الحيرة ومراكز الريف”(12)
– أصل الكتاب كتابان:
يرجح المؤلف أن ” الكتاب في الأصل كتابان، أحدهما في طبقات فحول الشعراء الجاهليين، والآخر في فحول الشعراء الإسلاميين”(13)، ويستدل على ذلك بجملة من الأمور، يجمع فيها بين الاستنتاج من دراسة المقدمة، والدراسة المقارنة لقسمي الكتاب، ويستعين بتفاصيل تاريخ التأليف، وما دونت المصادر عن طبقات ابن سلام، ومجمل استدلاله(14):
– اضطراب المقدمة وما فيها من الخلط يشعر بأنها كانت مقدمتين أدمجت إحداهما في الأخرى.
– “في المقدمة نفسها ما يدل على أن ابن سلام ألف أولا طبقات الجاهليين”، لكن المؤلف لا يذكر العبارة التي تدل على ذلك.
– المقارنة بين طبيعة البحث في طبقات الجاهليين وطبقات الإسلاميين يؤكد الفارق بينهما، حيث إن “روح ابن سلام في الجاهليين قوية عميقة، منصرفة أو تكاد إلى ما هو من صميم النقد، فأما طبقاته في الإسلاميين فيكثر فيها التاريخ عند جماعة كجرير والفرزدق والأخطل، وتقل فيها روح العلم” واختلاف المنهج يعزز كونهما ليسا كتابا واحدا.
– ويستأنس المؤلف على هذا أيضا بأن ” أكثر ما كان يكتب إلى عهد ابن سلام بحوث صغيرة ورسائل لا كتب كبيرة، وليس ببعيد أن يكتب ابن سلام كتابا في طبقات الجاهليين، ثم يثنيه بآخر في طبقات الإسلاميين”
– ثم يؤكد رأيه هذا بأنه رأي صاحب الفهرست أيضا حيث ” يعد طبقات الشعراء لابن سلام كتابين لا كتابا واحدا”
يقر المؤلف هذا الرأي لكنه يقف عند هذا التقرير، ولا يتعداه في البحث كيف تم دمج الكتابين؟ ومتى؟ لماذا؟
لأنه لا يرى لذلك ثمرة فيما يبدو، لذلك نجده في ختام المسألة يقول “وسواء أكان الأمر أمر كتابين أو كتاب فإن الخطة لا تختلف، والنهج واحد في الجاهليين والإسلاميين”(15)
افتتح ابن سلام كتابه بجمل في أقل من صفحتين، تعرب عن تقديره لمكانة النقد وأهميته، فكان يركز على تقرير أن: النقد تخصص، فـ” للشعر صناعة وثقافة يعرفها أهل العلم، كسائر أصناف العلم والصناعات…”(16)، وله مؤهلاته الفطرية، وأسبابه المعرفية التي تصقل الموهبة وتنميها، وكلما زادت المدارسة ارتقت المعرفة، ويروي في ذلك هذا الحوار اللطيف: “قال محمد بن خلاد بن يزيد الباهلي لخلف بن حيان محرز، وكان خلاد حسن العلم بالشعر يرويه ويقوله: بأي شيء تردُّ هذه الأشعار التي تروى؟ قال له: هل تعلم أنت منها ما أنه مصنوع لا خير فيه؟ قال نعم، قال أفتعلم في الناس من هو أعلم منك بالشعر، قال: نعم، قال: فلا ينكر أن يعرفوا من ذلك ما لا تعرفه أنت”(17)
ويثبت احترام التخصص وتقدير أحكامه، برواية جواب لخلف كذلك، قرن فيه المعنوي بالحسي فأشرق به المعنى واضحا مقنعا، يقول: “وقال قائل لخلف: إذا سمعت أنا بالشعر واستحسنته، فما أبالي ما قلت فيه أنت وأصحابك. فقال له: إذا أخذت أنت درهما فاستحسنته، فقال لك الصراف: إنه رديء، هل ينفعك استحسانك له.”(18)
غير أن المؤلف لم يعرض لهذه القضية، وغادرها إلى قضية كبرى بارزة، شهر بن سلام أنه فارسها بلا منازع، هي قضية الشعر الموضوع.
– الشعر الموضوع:
يظهر إعجاب المؤلف بكلام ابن سلام في الشعر الموضوع، والعناية بتمحيص القضية، ويرى أن ذلك هو توقيت طرح الموضوع والكتابة فيه، يقول: ” والكلام في الشعر الموضوع كان طبيعيا جدا في عصر ابن سلام، في عصر كادت تنتهي فيه الرواية، وأقبل فيه العلماء على تدوين الشعر ليسلموه إلى الأجيال المقبلة”(19)
وإذ يشيد المؤلف بجهود ابن سلام في القضية فإنه يبين أن ابن سلام ليس الوحيد في الميدان، وأن “تلك فكرة ذاعت قبل ابن سلام، وعند غيره من معاصريه”(20)، فقد ” نبه بعض العلماء على أن هناك شعرا مصنوعا كخلف والمفضل الضبي”(21)، لكن ما ميز ابن سلام أنه “كان أشدهم تحرجا من هذا الشعر، وأنفذهم صوتا في هذا المقام”(22)، يعرض القضية “فيحسن العرض، ويبرهن عليها فيجيد، ويتلمس لها الأسباب المبرهنة، ويطبقها على من يطبقها عليهم من الشعراء الجاهليين”(23)
ولا تقف دراسة المؤلف عند تقرير ذلك بل يمتد نظره إلى محاولة تعليل عناية ابن سلام بالقضية وبيان السبب الدافع له، فماذا أراد ابن سلام من دراسة القضية وتمحيصها؟ ” أراد أن يحمل الذين يدونون الشعر على التقنية، ويدعوهم ألا يتركوا للخلف إلا الثابت الصحيح، وأراد أن يشعر الآتين بما يجب عليهم من الحذر والتبصر فيما يسند إلى الجاهليين، بل أراد أبعد من هذا، أراد خدمة الروح العلمية بإسناد كل قول إلى صاحبه، وكل شعر إلى عصره”(24)
يقرأ المؤلف هذه الأسباب المركبة على أنها ازدحمت في إحساس ابن سلام وتفكيره؛ فدعته إلى أن يولي قضية الشعر الموضوع أقصى ما يملك من دراسة وبيان، فكان نصيبها أن ” تحتل الجاه الأعظم مما يتصل بالنقد الأدبي في مقدمة كتابه، وترد في هذا الكتاب حينا بعد حين”(25)
ويحرص المؤلف على تتبع منهج ابن سلام وإبرازه في تفنيد الشعر الموضوع، ويبين أن منهجه كان في أخذ مثال على الشعر الموضوع وتطبيق قواعد النقد عليه، وهو ما نسبه محمد بن إسحاق صاحب السيرة إلى عاد وثمود من الشعر، يقول: “فكيف يبطل ابن سلام هذا الشعر؟ وكيف ينفيه؟ بأدلة أربعة”(26)، ويفصلها في : دليل نقلي ” وأنه أهلك عاداً الأولى وثمود فما أبقى” فمن إذن حمل هذا الشعر؟! ، ودليلين لغويين :أن العربية لم تكن موجودة، وأن لسان اليمن التي ينتمي إليها قوم عاد لسان آخر، ودليل من تاريخ الأدب العربي في زمن تقصيد القصائد.(27)
ومع إيراد هذا المثال لتطبيق قواعد النقد والتمحيص عليه لبيان المنحول من الشعر، فإن المؤلف يقرأ ويستنتج من الكتاب أن ابن سلام ” قد درس الشعر الجاهلي لتمحيصه من تلك الناحية، فأقر ما أقر وأبطل ما أبطل، مستعينا على ذلك بدراسته الواسعة للشعر ورجاله، وتغلغله في روح العصر الجاهلي، ووقوفه على طبع كل شاعر.”(28)
غير أن هذا الإعجاب من المؤلف لم يعف ابن سلام من رصد بعض الخطأ في نسبة الأبيات إلى أهلها، وهذا تفطن من المؤلف اقتضت موضوعية البحث الإعلان عنه، فكان النقد مقرونا بالدليل، يقول: “وليس كل ما جاء في كتاب طبقات الشعراء بالذي يسلمه الباحثون،…فأغلب الظن أن ابن سلام وهو يقرر نظرية الشعر الموضوع ويؤاخذ عليه العلماء، وقع في مثل ما عابه على ابن إسحاق، فأضاف إلى بعض الجاهليين ما ليس لهم، وأورد شعرا جاهليا لا يطمأن إليه، فهذه الأبيات التي أوردها في مقدمة كتابه أنها من قديم الشعر الصحيح، وأضافها إلى المستوغر بن ربيعة، أو إلى أعصر بن سعد بن قيس بن عيلان، في أخذ الليالي من المرء، وفي السأم من الحياة، هذه الأبيات لا بد أن تؤخذ بحذر، وقد يقدر الباحث أنها وجدت قبل أن يصل الشعر الجاهلي إلى الإتقان والإحكام، ولكن لينها وإسفافها وموضوعها ومعانيها، لا تدع لها السبيل ممهدة إلى التصديق بها، والركون إليها.”(29)
ويبرز المؤلف عناية ابن سلام بتتبع الأسباب والدواعي التي حملت على وضع الشعر، ويرجعها إلى سببين:
– “العصبية في العصر الإسلامي، وحرص الكثير من القبائل العربية على أن تضيف لأسلافها ضروبا من المكانة والمجد، وهذا المجد سجله النقد وديوانه الشعر.”(30)
– الرواة وزيادتهم في الأشعار.(31) ويردف المؤلف في هذا أن ابن سلام لم “يذكر ما حملهم على ذلك”(32) في إشارة إلى أنه كان ينبغي لابن سلام البحث أبعد من ذلك وبيان أسباب وضعهم.
– قد يكون سبب ثالث وهو الدين، “كتطويل قصيدة أبي طالب في مدح النبي – صلى الله عليه وسلم- وإن كانت تحتمل الرجوع إلى العصبية أو الرواة”(33)
هكذا يضعنا المؤلف في تصور جهد ابن سلام منظما، ابتداء من تقرير وجود الشعر الموضوع فعلا، ثم إيجاد منهجية لنقده وكشفه، لكنه في هذا يطرح أن إمكان كشف الموضوع من الشعر ليس كله في درجة من السهولة، ” وليس الشعر الجاهلي سواء في معرفته والوقوف عليه عند العلماء، فمنه ما يسهل فصله، ومنه ما يشكل بعض الإشكال، فقد يكون سهلا معرفة ما وضعه راوية على شاعر، ومعرفة ما يضعه المولدون، فأما الشعر الذي يلتبس فهو ما يضعه أهل البادية من أولاد الشعراء أو من غيرهم”(34)
ثم يفصل الأسباب والدوافع الداعية إلى وضع الشعر، ممثلا على ذلك بنماذج.
ولا يغادر المؤلف قراءته لقضية الشعر الموضوع عند ابن سلام، حتى يعلن بوضوح أهم ما تميز به منهج بحثه، يقول:” واضح جدا أثر ابن سلام في تدوين الحقائق العلمية الشائعة في عصره، فهو لا يكتفي بنظرة، ولا برأي، ولا بكلام مفكك منبت، بل يلم بالفكرة من أطرافها ويأخذها أخذ العلماء بالنظر والتحليل …وبون شاسع بين كلمة يقررها رجل كالمفضل الضبي في انتحال الشعر وبين هذا البحث الفسيح العميق الذي قام به ابن سلام”(35)
والملاحظ أن المؤلف أشاد بجهد ابن سلام في فكرة الشعر الموضوع، ولم ينتقده في شيء من حيث التنظير، إلا طلب بيان أسباب وضع الرواة. بينما سنجد أنه انهال عليه بالانتقاد في الفكرة الثانية فكرة الطبقات مع تقدير جهده وتثمينه.
والحقيقة أنه ليس المؤلف فقط الذي لم ينتقد ابن سلام في دراسته وبحثه قضية الشعر الموضوع، إنما الظاهر أن العلماء والباحثين بعده سلموا له بما كتب, واكتفوا به، فمنذ زمنه لم يعد للقضية زخم علمي، حتى أثارها أخيرا طه حسين في كتابه الشعر الجاهلي، بطرح مغاير تماما ومذهب مختلف.
– فكرة الطبقات:
يضع المؤلف القارئ في تصور أهمية فكرة الطبقات ومكانتها من الكتاب، فهي “أساس الكتاب وقوامه ودعامته الكبرى”(36)، مذكرا بأنها الفكرة التي تحمل عنوان الكتاب.
ويفيد بأن فكرة الطبقات ليست ابتكارا محضا لابن سلام، فإن “جعل جماعة من الشعراء في منزلة واحدة فكرة قديمة، فطن إليها الأدباء الإسلاميون في أن جريرا والفرزدق والأخطل طبقة، ونماها اللغويون بجعلهم امرأ القيس وزهيرا والنابغة والأعشى طبقة”(37)، ومنها يقرأ المؤلف في فكر ابن سلام أن جعل أولئك الجاهليين وهؤلاء الإسلاميين طليعة شعراء عصرهم، أوحى إليه بفكرة الطبقات، فـ “فكرة الطبقة الأولى توحي بالضرورة بطبقات أخرى، وكذلك فعل ابن سلام، فجعل الشعراء طبقات.”(38)
وفي هذا المعنى نذكر كتابا لعله متزامن مع “طبقات الشعراء” هو” فحولة الشعراء” لمؤلفه السجستاني( ت 255هـ)، غير أن مادته لشيخه الأصمعي (ت 216هـ)، بل قد نسب بعضهم الكتاب إليه(39)، وأسلوب الكتاب يكشف أنه فوائد جمعها السجستاني من شيخه الأصمعي، بسؤاله المباشر، أو سماعه لشيخه معلما ابتداء، أو إجابته لسائل، فتجد استفتاح المسائل بعبارات: “قال أبو حاتم: سمعت الأصمعي، قال أبو حاتم: قلت فما معنى الفحل، قال أبو حاتم: وسأله رجل، وسأله رجل وأنا أسمع، وسألت الأصمعي”(40)، ونحو هذه من العبارات التي تفصح عن أصل الكتاب بوضوح، والأصمعي أقدم قليلا من ابن سلام، ولعل محمول مصطلح الفحولة عند الأصمعي هو الذي أوحى بفكرة الطبقات لابن سلام؛ إذ الفكرة واحدة “تتجه بالحكم إلى منزلة الشاعر بالنظر في مجمل شعره.”(41)، غير أن ابن سلام طور الفكرة بالتفصيل في الفرز، فأعدّ سلما من الدرجات.
ويسير بحث المؤلف في توضيح ما جرى عليه العمل في فكرة الطبقات عند ابن سلام، مبرزا ماله من إنجاز، ومطعما ذلك بكثير من ملاحظاته ومناقشاته.
يبين أولا موضوع الأحكام التي بنيت عليها الطبقات، فيقرر في ذلك أن تصنيف الشعراء في طبقات ابن سلام يحمل أحكاما على الشعراء لا الشعر، حيث إنه “لم يتعرض لتحليل النصوص الأدبية فيظهر جمالها الفني، وعناصرها الرائعة، أو ما عسى أن يكون فيها من ضعف وهزال، بل انصراف إلى الشعراء أنفسهم، ذاكرا لهم ما يراه جيدا، دون ذكر أسباب تلك الجودة في الغالب الكثير، فليست لابن سلام إذن أحكام على الشعر نصا، بل أحكام على الشعراء، وتنويه بما لهم من القول الطيب، وبما لهم من نظراء، وبالمنزلة التي هم أهل لها.”(42)، ويعلل ذلك بأن بنية الكتاب وروحه هي التي حملت المؤلف على هذا المنهج،(43)ولعل وجه هذا الحمل نجده في جملة تالية، في سياق آخر وهو: كون ابن سلام معنيا بجعل الشعراء طبقات ،صرفه عن تحليل النصوص(44). لكننا نجد له بعد ذلك استنتاجا يفاجئ به القارئ، أفاده من معطيات دراسته الكتاب، يمكن أن نعده تعليلا آخر، وهو أن “ملكة ابن سلام الأدبية أضعف بكثير من ملكته العلمية”(45)، ويدلل على ذلك بأن “ملكته الأدبية في تحليل الشعر وتذوقه لا تكاد تظهر فيما كتب”(46) “وكان لنا أن ننتظر من ابن سلام، وقد تأخر به العهد تحليلا للشعر فسيحا عميقا يلائم انفساح النقد في الميادين الأخرى، لكننا لا نجده يتقدم في تذوق الأدب خطوة عن الذين عاصروه أو سبقوه، بل لقد نرى له أحيانا كلاما عاما لا يحدد ذوقا خاصا، ولا يشعر بتفهم النصوص على النحو المقنع…”(47)
إذن الطبقات كتاب عالج مسائل أدبية، لكنه لم يتعرض لتحليل النصوص بما يؤهله لأن يكون مرجعا فنيا في نقد الأدب وتحليل النصوص، ولذلك يرى المؤلف أنه لا يمكن الاعتماد عليه لمعرفة الذوق الفني عند ابن سلام، فإن “ذلك لا بد من معرفته في رجل يتصدى لنقد الأدب”(48)، وابن سلام في الطبقات “كان معنيا على الأخص في مثل هذا المقام بجعل الشعراء طبقات…، فلا يظهر له فيها من الذوق إلا بمقدار ما يعينه على وضع الشاعر في إحدى الطبقات.”(49)
وإذ يقرر المؤلف ذلك، بشأن الذوق والمملكة الأدبية في تحليل النصوص عند ابن سلام، نجد له عبارة مخالفة لما قرره، يقول فيها: “على أن ابن سلام من اللغويين، ولنا إذن أن نقول إنه من أذوقهم بوجه عام”(50)، فإما أن يكون هذا اضطراب عند المؤلف في الحكم، أو هو حكم بضعف الذائقة الأدبية عند اللغويين، فإن “أذوقهم” ضعيف الملكة. إلا أننا نستبعد الأخير هذا، لما سبق تقريره من المؤلف من بيان مساهمات اللغويين النقدية التي تنبئ بذوق وقدرة على تحليل النصوص مكنتهم من التقدم بالنقد وتطويره.(51)
ومما يسطره المؤلف عن منهج ابن سلام: أنه يعنى بما قيل قبله في الشعراء، ويستأنس بتلك الآراء، ويجعل كلامهم بدء بحثه، غير أنه يفهم من كلام المؤلف أن جمع ابن سلام لتلك الأقوال والآراء ليس من باب التقليد والمتابعة، بل هو نظر الناقد المجتهد، لأنه يزيد من عنده أحيانا، ويحكم على الشاعر حكما قد لا يتفق مع ما رآه بعض السلف، بل كثيرا ما يكون له رأي مبتكر لم يسبق إليه.(52)
ويحرص المؤلف على تتبع آراء ابن سلام تتبع الناقد، فيرى في بعضها سطحية وعمومية، يقول: “وأما أحكامه التي لم يتقدمه بها أحد فهي كثيرة، وإن كانت أحيانا غير عميقة ولا محدودة.”(53)وعبارته هذه تشعر بالرضى عن أغلب تلك الآراء، وأن وصف النقد هذا إنما هو في القليل منها.
وأما عن أساس تصنيف مراتب الشعراء في الطبقات، فيراه اعتمد “الأساس القديم: كثرة الشعر وجودته عند الشاعر، فبمقدار ثروته وإجادته تكون منزلته”(54)، ولعل من الخلل في هذا المقياس حقيقة ضياع كثير من الشعر، فربما أودى ضياع شعر شاعر بمنزلته.
ويفسر المؤلف تقسيم ابن سلام الطبقات إلى بادين وحاضرين تفسيرا إيجابيا، يلمح فيه مراعاة ابن سلام لأثر البيئة في الشعراء، كما يلمح بتفسيره قصر الطبقات على البدو وحدهم إيمان ابن سلام أن الشعر الجاهلي في جملته شعر بادية.55 ومع أن المؤلف يرى ابن سلام “موفقا كل التوفيق في تفرقته بين الجاهليين من سكان البادية والجاهليين من سكان القرى”(56)، إلا أنه يراه أخل بشيء من رسم الكتاب فلم يتعرض لمكانة شعراء القرى”(57)
كما يعتب عليه في بعض التفاصيل، منها “أنه لم يذكر لنا منزلة شاعر كبير كحسان، هذا إلى أنه أهمل بعض فحول الشعراء كعمر بن أبي ربيعة، والطرماح بن حكيم، والكميت الأسدي، ومكانتهم لا تنكر في الشعراء الإسلاميين”(58)، ويعيب عليه أيضا خلط الجاهليين بالإسلاميين مع أنه فصل بين طبقاتهم وخصص لكل عصر منهما طبقاته، يقول “ولسنا ندري كيف جاء بشامة بن الغدير، وأبو زيد الطائي في طبقات الإسلاميين، مع أنهما جاهليان”(59)
ويورد المؤلف ملاحظة، لكنه يكتفي بإيرادها دون التعليق عليها، وهي: “مع أن ابن سلام عاش في عصر المحدثين، وعاصر أمثال مروان بن أبي حفصة، وأبي نواس، ومسلم ابن الوليد، وأبي تمام، فإنه لم يتصد فيما كتب لشاعر محدث، واقتصر على الجاهليين والإسلاميين.”(60)، وكأنه يشر إلى تعصب اللغويين للقدماء من الشعراء، وتهميشهم للمحدثين في ميزان النقد.
و ينتقد المؤلف ابن سلام في عموم تصنيف الطبقات، وتوزيع الشعراء عليها، فيقول بعد أن أورد جملة من الشعراء لم يوافق على موضعهم من الطبقات : “ومهما يكن من شيء فقد اضطرب ابن سلام كثيرا في منازل الشعراء، وسر هذا الاضطراب واضح مفهوم، فليس من الرأي في شيء أن يكون الشعراء عشر طبقات، وليس من الممكن بحال أن نعرف من الفروق بين الشعراء ما يمهد لنا أن نوزعهم على طبقات عشر، والخصائص الفنية رقيقة متموجة لا تطيع الباحث إلى مثل هذا المدى.”(61)
وينتقده في جعل كل طبقة تتألف من أربعة شعراء، و يرى أن ذلك ليس مبنيا على أساس من المقاييس الأدبية، وإنما هي “المصادفة في أن تتألف الطبقة الجاهلية الأولى من أربعة شعراء حملت المؤلف ? ابن سلام – على أن تكون كل طبقة تالية لها مؤلفة من رجال أربعة”(62)
وهذه الانتقادات توحي إلى القارئ بخطأ منهجي أوقع فيه ابن سلام نفسه، وطوقها فيه بقيد التنظير، إذ فرض على الواقع تنظيره بإعداد خانات للطبقات، ثم ملأها بالشعراء، ولم يترك للواقع حرية الحركة في صنع الطبقات من حيث عددها وعدد الشعراء في كل طبقة. ولذا يرى المؤلف أن الواقع تمرد على ابن سلام وعصاه ولم تسعفه المقاييس الأدبية إلى مطلبه.
والمؤلف إذ يبدي نقده الطبقات وتوزيع الشعراء عليها، فإنه يقترح على ابن سلام لو كانت طبقاته وزعت الشعراء ثلاث فئات: “مبرزين ومتوسطين ومتأخرين، وهو التقسيم الذي عليه جمهرة العلماء و يرضاه المنطق”(63)
لكن هذه الانتقادات والملاحظات لا تهدف إلى التقليل من شأن الكتاب، ولا تعني الغض من قيمته وأهميته، “وليس من عالم إلا وأنت آخذ من قوله وتارك”(64)، لذا يعلن المؤلف أنه “يظل كتاب ابن سلام على هذه المآخذ من أهم ما كتب في النقد الأدبي عند العرب، ويظل ابن سلام من أجلاء النقاد صحة ذهن، ونفاذ بصر”(65)، وهو مرجع العلماء والمؤلفين بعده، ففيه “كثير من آراء الأدباء واللغويين التي انتفع بها فيما بعد من كتبوا في نقد الأدب، أو في سير الشعراء”(66)، بل يراه المؤلف: “جماع القول في الشعر العربي في الجاهلية والإسلام.”(67)
1- طه أحمد إبراهيم، تاريخ النقد الأدبي عند العرب من العصر الجاهلي إلى القرن الرابع الهجري، ط: مكتبة الصفاء، أبو ظبي صـ76
2- المرجع السابق، صـ76
3- المرجع السابق، صـ77
4- المرجع السابق، صـ76
5- المرجع السابق، صـ77
6- المرجع السابق، صـ76
7- المرجع السابق، صـ76
8- ابن قتيبة، الشعر والشعراء، تحقيق أحمد محمد شاكر، ط: سنة 1427هـ،2006م ،دار الحديث القاهرة، ج1، صـ61
9- ابن قتيبة، الشعر والشعراء، ج1،صـ62
10- طه أحمد إبراهيم، تاريخ النقد الأدبي ، صـ85
11- المرجع السابق، صـ85
12- المرجع السابق، صـ85
13- المرجع السابق، صـ82
14- أنظر المرجع السابق، صـ82، 83
15- المرجع السابق، صـ83
16- – محمد بن سلام الجمحي، طبقات الشعراء، صـ43
17- المرجع نفسه،صـ44
18المرجع نفسه،صـ44
19- طه أحمد إبراهيم، تاريخ النقد الأدبي عند العرب صـ77
20- المرجع السابق، صـ77
21- المرجع السابق، صـ77
22- المرجع السابق، صـ77
23- المرجع السابق، صـ77
24- المرجع السابق، صـ77
25- المرجع السابق، صـ77
26- المرجع السابق، صـ78
27- أنظرالمرجع السابق، صـ78
28- المرجع السابق، صـ81
29- المرجع السابق، صـ86
30- المرجع السابق، صـ79
31- المرجع السابق، صـ80
32- المرجع السابق، صـ80
33- المرجع السابق، صـ81
34- المرجع السابق، صـ80
35- المرجع السابق، صـ81
36- المرجع السابق، صـ82
37- المرجع السابق، صـ83
38- المرجع السابق، صـ83
39- أنظر أبي حاتم السجستاني، فحولة الشعراء، تحقيق ودراسة:محمد عبد القادر أحمد، ط: سنة 1411هـ- 1991م،مكتبة النهضة المصرية، القاهرة، مقدمة المحقق صـ68 وما بعدها
40- أنظر أبو حاتم السجستاني، فحولة الشعراء،صـ106 وما بعدها
41- أنظر كتابنا نظرية قدامة وأثرها في التراث النقدي، ط1، 2013م، بيت الغشام للنشر والترجمة، سلطنة عمان ? مسقط ،صـ31
42- طه أحمد ابراهيم، تاريخ النقد الأدبي عند العرب صـ81
43- أنظر المرجع السابق، صـ81
44- انظر المرجع السابق، صـ86
45- المرجع السابق، صـ86
46- المرجع السابق، صـ86
47 – المرجع السابق، صـ86
48- المرجع السابق، صـ86
49- المرجع السابق، ص87
50- المرجع السابق، صـ87
51- أنظر المبحث السابق
52- أنظر هذا المعنى في المرجع السابق، صـ82- 85
53- المرجع السابق، صـ82
54- المرجع السابق، صـ84
55- أنظر المرجع السابق، صـ83، 84
56- المرجع السابق، صـ88
57- المرجع السابق، صـ88
58- المرجع السابق، صـ88
59- المرجع السابق، صـ88
60- المرجع السابق، صـ83
61- المرجع السابق، صـ87، 88
62- المرجع السابق، صـ83
63- المرجع السابق، صـ88
64- المرجع السابق، صـ86
65- المرجع السابق، صـ88
66- المرجع السابق، صـ88
67- المرجع السابق، صـ88
قاسم بن سالم آل ثاني