لم يترجم الكتاب إلى اللغة العربية من اللغة الألمانية (اللغة التي كتب بها) مباشرة حتى الآن, إذ كان د. عبد المجيد القيسي قد ترجمه إلى العربية معتمدا ترجمتين إلى الإنجليزية صدرت الأولى عام 1888 ونشرت الثانية عام 1905 . وحاول كما يذكر في مقدمته التوفيق بينهما فقد حذفت إحدى الترجمتين فصولا من الكتاب, فضلا عن الاختلاف الكبير في عدد الفصول بين الترجمتين. تعتمد الترجمة التي نقدمها هنا (والتي ستصدر قريبا عن دار الجمل) الطبعة الأصلية باللغة الألمانية الصادرة عام 1886.
غادرت الأميرة سالمة بنت سعيد عام 1867 لتتزوج التاجر الألماني الذي أحبته, »هاينريش رويته«, وتعيش في ألمانيا. لكن زوجها توفي في حادث في شتاء 1870, فبدأت بالنسبة لها كأم لثلاثة أطفال حياة كفاح شاقة, لا نعرف عنها إلا القليل. فقد تنقلت بين عامي 1870 و 1885 من مدينة إلى أخرى: دارمشتادت, دريسدن, رودولشتادت, برلين وكولونيا, وحاولت في بعض هذه المدن أن تكسب بعض المال بتدريس اللغة العربية, إلا أن ما أعاق عملها لم يكن قلة الراغبين في التعلم فحسب وإنما أيضا فضول طلابها بشأن وضعها الأرستقراطي, مما كان يجرح كبرياءها. وقد عاشت السنوات الأخيرة من حياتها في بيت والدي زوج ابنتها في مدينة يينا.
المذكرات التي نشرتها عام 1886 لم تكتبها للنشر في الأصل, فقد دونتها وهي في وضع نفسي وجسدي اعتقدت معه أنها لن تعيش حتى يبلغ أطفالها سنا تستطيع أن تروي لهم فيها شيئا عن حياتها. لكن بعض أصدقائها أقنعها بنشر هذه المذكرات. فتهيأ لنا بذلك كتاب عن الحياة في بيت سلطان عربي من القرن التاسع عشر لا نكاد نعرف عنها شيئا. ولما كان الكتاب موجها إلى قارئ لا يكاد يعرف شيئا عن بلد بعيد مثل زنجبار, حاولت كاتبة المذكرات تقريب بعض الصور فيوم الجمعة هو (يوم أحد المسلمين), وشجرة البرتقال هي شجرة في حجم شجرة كرز كبيرة.
بيت المتوني
ولدت في »بيت المتوني«, أقدم قصورنا في جزيرة زنجبار وعشت هناك حتى سن السابعة. يقع بيت المتوني على البحر, ويبعد حوالي ثمانية كيلومترات عن مدينة زنجبار, في محيط جميل للغاية, مختفيا تماما في بستان أشجار جوز هند هائلة, وأشجار مانجو ونباتات استوائية عملاقة أخرى. استمد مكان ولادتي ؛بيت المتوني« اسمه من نهر المتوني الصغير الذي يبعد بضع ساعات قادما من الداخل, متشعبا إلى عدد كبير من الامتدادات التي تشبه الأحواض, يخترق القصر بأكمله, ويصب خلف أسواره مباشرة في ذراع البحر الرائع الذي ينشط فيه المرور ويفصل الجزيرة عن القارة الأفريقية.
تمتد ساحة واسعة واحدة بين البنايات الكثيرة التي يتكون منها »بيت المتوني«. نتيجة لاختلاف أنواع هذه البنايات التي أقيمت تدريجيا حسب الحاجة, حيث يمكن للمرء أن يقول عن الكل بممراته ودهاليزه التي لا تحصى والتي يتيه فيها من لا يعرفها إنه أقرب إلى القبح منه إلى الجمال. لا تعد أيضا غرف قصرنا. لقد غاب عن ذاكرتي تقسيم الغرف, وعلى العكس لاما زلت أتذكر بدقة تماما الحمامات الكثيرة في بيت المتوني. كانت دزينة من الغرف تقوم في صف في الطرف الأقصى من الفناء, حتى أن المرء ما كان يستطيع الوصول إلى هذا المكان المنعش المحبوب في الأيام المطيرة إلا وهو يحمل مظلة. وكان يقوم في الطرف الآخر في معزل عن غيره ما يسمى بالحمام ؛الفارسي«, وهو في الحقيقة حمام بخار تركي, فريد في طراز بنائه الفني في زنجبار. كان كل حمام يتكون من غرفتين يقرب طول كل منها من أربعة أمتار وعرضها ثلاثة أمتار. وكان عمق الماء فيها يصل إلى صدر الشخص الراشد.
كان جميع سكان البيت يحبون هذه الحمامات المريحة, حيث يمضي أغلبهم عدة ساعات من اليوم هنا, يصلون, ينامون, يعملون, يقرأون وحتى يأكلوا ويشربوا. لا تتوقف الحركة هنا من الرابعة صباحا وحتى منتصف الليل. فقد كان المرء يرى أشخاصا داخلين أو خارجين نهارا وليلا.
ما أن يعبر المرء بابا واحدا من هذه الحمامات التي بنيت بطريقة واحدة داخلا, حتى يرى دكتين للاستراحة إلى اليمين واليسار, مفروشتين بحصر فاخرة ملونة, يصلي المرء فوقها أو يستريح. تخلو هذه الغرف من السجاد وكل ما يعتبر بذخا. يحتاج كل مسلم للصلاة ثوبا نظيفا نظافة تامة, لا ينبغي استعماله إلا لهذا الغرض, ويكون أبيض اللون إذا أمكن. الأكثر ورعا وحدهم بالطبع يتبعون فرض الدين غير المريح هذا بدقة كبيرة.
تفصل حجرات الاستراحة هذه عن أحواض الماء التي توجد تحت سماء مفتوحة, ممرات ذات أعمدة. ثم يقود جسران حجريان مقوسان بدرجات, صاعدين من الأحواض صعودا هينا إلى غرف أخرى منفصلة تماما.
لكل حمام رواده الخاصون, وويل لمن لا يلتزم بدقة بهذا التمييز. لقد سادت في بيت المتوني روح طبقية كبيرة لدرجة أنها روعيت من قبل الأعلى والأدنى بكل رسمية بنفس المقدار.
تزدهر أشجار برتقال بحجم أشجار الكرز الكبيرة في صفوف كثيفة على طول واجهة بيوت الإستحمام. ولطالما وجدنا فيها كأطفال صغار ملجأ وحماية من معلمتنا الصارمة صرامة مخيفة.
كان الناس والحيوانات يتواجدون معا بصورة مريحة تماما في الفناء العظيم بأكمله, دون أن يسبب بعضهم للآخر أي مضايقة, كانت ثمة طواويس وغزلان, دجاج ماء وغرانيق وأوز, وبط ونعام تتجول بحرية, يحيطها الصغار والكبار بالعناية ويطعمونها. وكان يسعدنا نحن الصغار على الدوام أن نجمع البيض الكثير الموضوع هنا وهناك,خاصة بيض النعام الكبير ونحمله إلى كبير الطهاة, الذي اعتاد أن يكافئ جهدنا بمختلف أنواع الحلوى.
كنا نتلقى نحن الأطفال من سن الخامسة في هذه الساحة دروسا في ركوب الخيل لدى الغلمان مرتين في اليوم, في الصباح الباكر وفي المساء, بينما كان سكان حديقة حيواناتنا الصغيرة يتابعون حياتهم دون كلفة. حالما نكون قد نلنا ما يكفي من التدريب في هذا الفن يحصل كل منا على دابة خاصة به من أبينا, كان يسمح للصبيان أن يختاروا بأنفسهم حصانا من الحظيرة, بينما كنا نحصل نحن الفتيات على حمير مسقطية كبيرة ناصعة البياض, أغلى ثمنا في الغالب من الخيول العادية. وكانت هذه الحيوانات الجميلة طبعا مزودة بكامل عدتها.
كان ركوب الخيل في البيوت العائلية من هذا الطراز المتعة الرئيسية, إذ لم يكن هناك لا مسرح ولا حفلات موسيقية للترفيه. ولم يكن نادرا أن تجري سباقات في الخلاء, كثيرا ما تنتهي للأسف بحادث. وقد كاد أحد هذه السباقات أن يكلفني حياتي. لم أر وأنا في غمرة حماستي الشديدة, وكي لا أدع أخي حمدان يسبقني, نخلة عظيمة محنية الجذع سدت علي الطريق فجأة. لم أنتبه إلى العائق غير المتوقع إلا حين أصبح جذع الشجرة أمام جبيني. فزعة ألقيت بنفسي إلى الوراء ونجوت كما لو بأعجوبة من الخطر الذي تهددني. كانت السلالم الكثيرة التي ليس لها ما يضاهيها في شدة الانحدار من خصائص بيت المتوني, إذ تبدو درجاتها وكأنها قد بنيت من أجل العملاق غولياث. كان معظمها يصعد بصورة عمودية دون توقف أو انعطاف أو فسحات استراحة, حتى أن المرء ما كان يستطيع أن يرتقيها إلا بأن يسحب نفسه على السياج البدائي صاعدا. وكانت حركة الهبوط على هذه الدرجات دائبة مما يوجب إصلاح سياجها على الدوام. لا زلت أتذكر الذعر الذي انتاب جميع ساكني جناحنا حين وجدوا ذات صباح سياج سلمنا الحجري الذي كان ارتقاؤه صعبا في كل الأحوال, قد انهدم كلا جانبيه في الليل في نفس الوقت, ويدهشني حتى اليوم أن أحدا لم يصبه أذى على هذا السلم رغم ازدحام المرور عليه ليلا ونهارا.
ولأن الإحصاء في زنجبار شيء غير معروف, فما كان أحد ليعرف كم عدد النفوس الذين كانوا يسكنون في البيت. إذا أردت التخمين فلا أعتقد أنني أبالغ إذا قدرت عدد سكان بيت المتوني عامة بألف شخص. ولكي يفهم المرء هذا عليه ألا يغفل أنه من التقاليد في كل مكان في الشرق أن يجري تشغيل أيد كثيرة جدا, حين يريد المرء أن يعتبر وجيها وغنيا. وليس عدد سكان قصر أبينا الآخر أيضا, الواقع في المدينة, بيت الساحل أقل منه.
يشغل أبي السيد سعيد, إمام مسقط وسلطان زنجبار, الجناح الواقع قريبا من البحر في بيت المتوني مع زوجته الرئيسة التي تربطها به قرابة بعيدة. إلا أنه كان يقيم هنا في الريف أربعة أيام في الأسبوع فقط. أما ما يتبقى من الوقت فإنه يقضيه في بيت الساحل, قصره في المدينة. لقب الإمام هو لقب ديني من النادر جدا أن يمنح لحاكم. ويعود الفضل فيه إلى جدي الأكبر أحمد في الأصل. منذ ذلك الحين أصبح هذا اللقب يورث لعائلتنا بأجمعها, فلكل واحد منا الحق في أن يرفقه باسمه.
ولأنني كنت واحدة من أصغر أطفال والدي, فإنني لم أره دون لحيته البيضاء المهيبة. كان طوله يزيد عن المتوسط, ووجهه يتسم بما يشعر بالانجذاب والارتياح بصورة استثنائية, وكان بذلك ظاهرة تفرض الاحترام من كل النواحي. رغم حبه للحرب والفتوحات كان النموذج لنا جميعا كرب للعائلة أو كأمير على السواء. لم يعرف ما هو أعلى من العدالة, وإذا ما حدث تجاوز لم يكن ثمة فرق بالنسبة إليه بين ابنه أو عبد بسيط. وكان قبل كل شيء هو الخشوع بعينه أمام الله العلي. لم يكن يعرف الكبرياء المتبجحة مثل الكثير من الأمراء. وحين كان عبد عادي قد اكتسب احترامه بإخلاصه في خدمته فترة طويلة, يقيم حفل زواج, فلم يكن أمرا نادرا أن يوعز بلجم فرسه ليمتطيها ويذهب وحده لتهنئة الزوجين بنفسه. وكان يسميني »العجوز« بسبب حبي لحساء الحليب البارد الذي يحبه عندنا الشيوخ الدرد.
كانت أمي شركسية الأصل, انتزعت في وقت مبكر من وطنها. كانت قد عاشت في سلام مع أبيها وأمها وأخويها, وكان أبوها مزارعا. ثم إذ اندلعت الحرب, وامتلأت البلاد بأفواج اللصوص, لجأت العائلة بأكملها إلى مكان تحت الأرض, كما تقول أمي, ولابد أنها كانت تعني قبوا, وهو ما لم نكن نعرفه في زنجبار. لكن قطيعا متوحشا اقتحم هذا الملجأ أيضا, قتلوا الأب والأم واختطف ثلاثة من الألبان الأطفال الثلاثة ومضوا بهم على خيولهم. اختفى الأول الذي يحمل الأخ الأكبر عن أنظارهم بعد وقت قصير, بينما بقي الاثنان اللذان حملا أمي وأختها الصغرى ذات السنوات الثلاث التي لم تتوقف عن الصراخ طالبة أمها, معا حتى المساء, ثم انفصلا ولم تسمع أمي عن أختها وأخيها شيئا ثانية.
وصلت أمي إلى حيازة أبي وهي لا تزال طفلة, يبدو أنها كانت في سن السابعة أو الثامنة, فقد فقدت في بيتنا أول أسنانها اللبنية, وسرعان ما أصبحت وحتى سن اليفاعة رفيقة في اللعب لاثنتين من أخواتي كانتا في مثل سنها ونشأت وعوملت مثلهما. تعلمت القراءة معهما أيضا, وهي فن رفعها عاليا عن مثيلاتها اللائى كن يأتين غالبا بين سن السادسة عشرة والثامنة عشرة إن لم يتجاوزن هذه السن, فلا يشعرن بالطبع برغبة في الجلوس مع أطفال صغار تماما على حصيرة المدرسة القاسية. لم تكن أمي جميلة ولكنها كانت طويلة القامة وقوية البنية ذات عينين سوداوين وشعر أسود يصل إلى ركبتيها. وقد كانت رقيقة الطبع لا تحس بفرح عميق كفرحها حين تكون قادرة على مساعدة الآخرين. فإذا مرض أحد كانت الأولى التي تهتم به وتقوم برعايته عند الضرورة. لازلت أرى صورتها اليوم أمامي تحمل كتبها وتمضي من مريض إلى آخر لتقرأ لهم نصوصا دينية.
وكانت لها لدى أبي حظوة دائما, فلم يرفض لها أيا من طلباتها التي كانت غالبا من أجل الآخرين.كان يتقدم لاستقبالها بانتظام حين تأتي إليه, وهو امتياز نادر. كانت طيبة وورعة, شديدة التواضع, صادقة وصريحة. لم تكن متفوقة من الناحية الثقافية ولكنها كانت ماهرة في الأعمال اليدوية. ولدت اثنين من الأطفال فقط, فقد كان لها عداي ابنة أخرى توفيت وهي صغيرة جدا. كانت بالنسبة لي أما محبة حنونا, ولكن هذا لم يمنعها من معاقبتي بشدة حين كان ذلك ضروريا. كان لها في بيت المتوني أصدقاء كثيرون, وهو أمر نادر في بيت حريم عربي. كانت ثقتها بالله راسخة إلى أقصى حد, لا تتضعضع. لا زلت أتذكر حريقا شب ذات ليلة مقمرة في إحدى الحظائر وما حولها بينما كان أبي وجميع رجاله في المدينة, كان لي من العمر خمس سنوات في أقصى الأحوال, ارتفع لغط في الدار بأنها هي أيضا مهددة بالخطر المباشر, فما كان منها إلا أن حملتني فوق ذراع وحملت بالأخرى قرآنها مسرعة إلى العراء. أما الباقي فلم يكن له قيمة لديها في ساعة الخطر هذه.
كان لأبي في حياتي زوجة واحدة قدر ما أتذكر, أما باقي النساء فكن سراري (الواحدة سرية), وكان عددهن لدى موته سبعا وسبعين, اشتراهن جميعا واحدة بعد الأخرى. وكانت زوجته الشرعية عزة بنت سيف, وهي أميرة عمانية, صاحبة الكلمة المطلقة في البيت. كانت تملك رغم صغر حجمها وعدم وجود ما يميزها في المظهر, سلطة كبيرة على أبي, حتى أنه كان يتبع تعليماتها طائعا. وكانت متعجرفة إزاء النساء الأخريات وأطفالهن, متعالية ومتطلبة. وكان من حسن حظنا أنه لم يكن لها أطفال, وإلا لكان طغيانها لا يطاق. جميع أولاد أبي – وكان عددهم لدى موته 36 – من أبناء السراري. وكنا بذلك متساوين فيما بيننا, ليس ثمة ما يميزنا عن بعضنا.
كان الجميع من علا شأنه أو صغر على السواء يخافون بيبي عزة التي كان على الكل صغارا وكبارا مخاطبتها بالسيدة, ولكن دون أن يحبها أحد. لا زلت أتذكر حتى اليوم كيف كانت تمر أمام الكل بتصلب ونادرا ما تحدثت إلى أحد بلطف. كان أبي الشيخ الطيب على العكس منها سواء تعلق الأمر بشخص ذي مكانة رفيعة أو متدنية. لقد عرفت زوجة أبي كيف تتمتع بمكانتها العالية بشكل استثنائي, وما كان أحد يجرؤ الاقتراب منها إن لم تشجعه بنفسها. لم أرها تسير دون حاشية, باستثناء ذهابها مع أبي إلى الحمام الذي كان مخصصا لهما وحدهما. وكان كل من يقابلها في البيت يقف احتراما, كما يقف المجند في مواجهة جنرال.
وهكذا كان الجميع يشعرون تماما بالضغط الذي تمارسه من فوق ولكن دون أن تفقد بيت المتوني جاذبيته بالنسبة لسكانه. لقد كانت التقاليد تقضي أن يذهب جميع أخوتي الصغار والكبار على السواء إليها في الصباح ليحيوها. ولكن كان الجميع لا يحبها حتى ندر أن يذهب أحد إليها قبل تقديم الإفطار الذي كانت تتناوله في جناحها, وهكذا نغصت عليها متعة الفرح بالطاعة التامة التي تطلبها من الآخرين.
عاش في بيت المتوني أكبر أخواتي. كان يمكن لبعضهن مثل شيخة وزوينة أن تكون جدتي ببساطة. فقد كان للأخيرة ابن, علي بن مسعود, لم أره إلا وقد وخط الشيب لحيته, أما هي فكانت أرمل وجدت في بيت أبويها ملاذا بعد وفاة زوجها.
لم يفضل الأبناء الذكور على البنات في أوساطنا العائلية, كما يفترض الكثيرون هنا. ولا أعرف حالة واحدة فضل فيها أب وأم أن يكون لهما ابن وليس ابنة, أو فضلا الإبن عليها لأنه ذكر وحسب. لا شيء من هذا كله. وإذا كان القانون قد فضل الغلام على أخواته في أشياء كثيرة وأقر له بالامتيازات كما هي الحال في تقسيم الميراث, فإن الأطفال كانوا يتلقون نفس المعاملة ونفس المحبة. قد يفضل طفل على الآخرين هناك في الجنوب كما هو الحال هنا, بنفس المقدار سواء كان صبيا أم بنتا, رغم أن ذلك لا يكون معلنا, وإنما في السر, فهو أمر طبيعي وبشري. وهكذا كان الأمر مع أبينا أيضا . ولكن لم يكن الأبناء الذكور أطفاله المحببين وإنما اثنتان من بناته وهما شريفة وخولة. مرة, وكنت في التاسعة من عمري, أصابني في الخاصرة سهم من قوس أخي المتهور حمدان, وهو في مثل سني, ولم يصبني لحسن الحظ إصابة شديدة الخطورة. حين علم أبي بالقصة قال لي: ؛سالمة, إذهبي ونادي حمدان«. ولم أكد أحضر مع أخي حتى انهال عليه بأقسى كلمات التأنيب التي ظل يتذكرها زمنا طويلا. في هذه النقطة لا يكاد المرء هنا يعرف شيئا. يتوقف الأمر في كل مكان على الأطفال أنفسهم, وإنه ليس من العدل بالتأكيد معاملة الأطفال القساة مثل الأطفال المهذبين وعدم وضع فوارق واضحة بينهم.
كان أجمل مكان في بيت المتوني هو البنديلة أمام البيت الرئيس, الواقعة على البحر مباشرة, شرفة عظيمة مستديرة, كان باستطاعة المرء أن يقيم فيها حفلة كبيرة بشكل مريح, لو كان مثل هذا معروفا أو معتادا لدينا. كانت تشبه بأكملها عجلة دوارة ضخمة, فقد كان سقفها طبقا للبناء, مستديرا أيضا. بني الهيكل بأكمله, الأرض والدرابزينات وكذلك السقف الذي له شكل الخيمة من الخشب المدهون. كثيرا ما كان أبي الطيب يمضي هنا ساعات طويلة جيئة وذهابا مفكرا ورأسه منحن. كان يضلع قليلا بسبب رصاصة أصيب بها في الحرب, استقرت في فخذه وكثيرا ما سببت له ألما, وأثقلت خطوة الرجل المهيب.
كانت تحيط البنديلة كراس كثيرة من الخيزران, بضع دزينات منها بالتأكيد, وكان ثمة منظار عظيم للاستخدام العام, ولا شيء آخر عدا ذلك. كان المنظر الذي تطل عليه البنديلة المرتفعة بالغ الروعة. اعتاد أبي وعزة بنت سيف وأولاده الكبار أن يتناولوا القهوة هنا عدة مرات في اليوم. وكان من أراد أن يكلم أبي دون أن يزعجه أحد يأتيه إلى هنا وليس إلى مكان آخر, حيث يكون في ساعات معينة وحيدا.
وكان يرسو في مواجهة البنديلة مركب ؛الرحماني« الحربي طوال العام. وهو مخصص لغرض واحد وحسب, إطلاق المدفع في شهر رمضان لإيقاظ الناس ولتنبيه قوارب التجديف الكثيرة التي نحتاجها. كانت تحت البنديلة ثمة صارية مرتفعة رفعت عليها أعلام للإشارات البحرية تنقل الأوامر, ما إذا كان يطلب قدوم عدد كبير أو صغير من القوارب والبحارة إلى الشاطئ.
أما المطبخ فكانت تعد فيه سواء في بيت المتوني أو بيت الساحل عدا الأطعمة العربية الأطعمة الفارسية والتركية أيضا. فقد عاشت في البيتين أجناس مختلفة. وكان الجمال الساحر وعكسه تماما موجودين بين هؤلاء بوفرة. ولكن لم يسمح لنا بلبس غير الزي العربي, والسواحيلي للزنوج. فإذا ما جاءت امرأة شركسية بملابسها ذات التنورة العريضة أو حبشية بزيها الرائع ذي القماش الملفوف عليها, توجب عليها أن تخلع هذه الثياب وتلبس الثياب العربية المخصصة لها خلال ثلاثة أيام.
وكما يتوجب على أي امرأة محترمة هنا أن تمتلك قبعة وقفازا كأشياء ضرورية, فإن الأمر مثله لدينا فيما يتعلق بالحلي. فالحلي هي جزء من مكملات الزي الضرورية تماما, حتى أن المرء يرى متسولات يذهبن لممارسة عملهن بمثل هذه الحلي. كان لأبي في كلا بيتيه في زنجبار وفي قصوره في مسقط في مملكة عمان خزائن كنوز خاصة, مليئة بعملات اسبانية كبيرة من الذهب, وغينية وفرنسية وألمانية. ولكن عدا هذا كان جزء كبير منها حليا نسائية مختلفة, من البسيطة وحتى التيجان المرصعة بالماس, كل هذا اقتني ليقدم هدايا. كلما زاد عدد أفراد العائلة سواء عن طريق شراء سرار أو ولادة أمراء وأميرات وهو ما يحدث كثيرا, افتتح باب الخزانة لتقديم الهدية للقادم الجديد حسب مرتبته ومكانته. فقد اعتاد أبي حين يولد طفل, أن يزور الوليد والأم في اليوم السابع حاملا معه حليا هدية للرضيع. وكذلك كانت السرية الجديدة تحصل عند وصولها مباشرة هدية من الحلي الضرورية, بينما كان رئيس الغلمان يخصص لهن الخدم.
كان أبي غريبا فيما يتعلق بمحيطه رغم أنه كان شخصيا يحب البساطة الشديدة لنفسه. لم يسمح لنا جميعا أن نظهر أمامه في غير الزي الكامل, من الأبناء وحتى أصغر الغلمان. كنا نحن الفتيات نعقد شعرنا في ضفائر دقيقة كثيرة (يصل عددها إلى عشرين غالبا), تربط نهاياتها بصورة مائلة من الجهتين, وتتدلى في الوسط حلية ذهبية ثقيلة مرصعة بالأحجار الكريمة غالبا, أو كانت تعلق بكل ضفيرة قطعة نقود ذهبية كتبت عليها آيات قرآنية, وهي أجمل من التسريحة الأخرى الموصوفة أعلاه. كانت هذه الحلي تنزع عنا عند الذهاب إلى النوم ويعاد ربطها في الصباح التالي.
كنا نضع نحن الفتيات حتى الوقت الذي يكون علينا فيه أن نتحجب خصلة شعر إضافية مثل التي تستعمل هنا. ذات صباح ركضت دون أن أنتظر زينة الشعر هذه إلى أبي دون أن ينتبه إلي أحد لأحصل منه على الحلوى الفرنسية التي كان يقدمها لنا نحن الصغار كل صباح, ولكن بدلا من أن أحصل على الحلوى المشتهاة أخرجت من الغرفة وأعادني أحد الخدم إلى المكان الذي جئت منه. منذ ذلك الوقت تجنبت الظهور أمامه دون ارتداء الزي الكامل.
كانت أكثر صديقات أمي حميمية أختي زيانة وزوجة أبي مدينة. كانت زيانة وهي ابنة امرأة حبشية, في مثل عمر أمي, وكانتا تحبان بعضهما حبا لا يوصف. وكانت زوجة أبي مدينة شركسية هي الأخرى, من هنا نشأت صداقتها لأمي فقد كانتا وكذلك أيضا سارة, زوجة أخرى لأبي, تنحدران من نفس المنطقة. كان ولدا سارة هما أخي ماجد وأختي خدوج, وكان الأول يصغر أخته بسبع سنوات. وكانت أمي قد عقدت اتفاقا مع صديقتها سارة أن تتولى إذا ماتت سارة أولا تربية طفليها ماجد وخدوج, والعكس أيضا. ولكن حين ماتت سارة كانت خدوج وكذلك ماجد قد كبرا ولم يكونا بحاجة إلى مساعدة أمي أبدا طيلة إقامتهما في البيت الأبوي. كان المتعارف عليه لدينا, أي في عائلتي, أن يتابع الصبيان بعد سن اليفاعة أيضا, حتى سن الثامنة عشرة أو العشرين العيش مع أمهاتهم في البيت الأبوي وكان عليهم أن يخضعوا تماما لنظام البيت. فإذا بلغ أمير هذه السن فإن أبي سيعلن كمال أهليته إن عاجلا أو آجلا حسب حسن سلوكه أو رداءته. عند ذاك يحق له أن يعتبر نفسه من الراشدين, وهو تكريم ينتظره المرء هناك أيضا بفارغ الصبر. يحصل كل أمير في هذه المناسبة على بيت خاص به وخدم وخيول وكل ما يحتاج إليه, إلى جانب منحة كافية تدفع له شهريا.
بلغ أخي ماجد هذا التكريم, وقد حصل عليه بسبب شخصيته الكاملة أكثر مما بسبب السن. كان ماجد هو التواضع بعينه, كسب قلوب جميع من كان يتعامل معهم في كل مكان بشخصيته المحبوبة الودودة. لم يكن يمضي أسبوع دون أن يأتي فيه إلينا من المدينة راكبا, (فقد كان يسكن مثل أمه سابقا في بيت الساحل) ورغم أنه كان يكبرني بما يقرب من اثنتي عشرة سنة كان يستطيع اللعب معي كما لو كنا في نفس العمر.
وقد جاء إلينا ذات يوم منفعلا بفرح ليبلغ أمي حالا أن أبي أعلن بلوغه سن الرشد, وجعله يقف على قدميه وحصل على بيت خاص به. ثم رجانا بإلحاح, أمي وأنا, أن ننتقل لنسكن في بيته الخاص ونبقى نعيش معه هناك إلى الأبد. وقد نقلت خدوج إلينا نفس الطلب. لكن أمي نبهت أخي المتعجل إلى أنها لا تستطيع أن تلبي طلبه دون موافقة أبي, وأنها ستتحدث معه في الموضوع وتبلغه بالنتيجة. وبقدر تعلق الأمر بها فإنها تحب أن تسكن معهما طالما رغب هو وخدوج في ذلك. عرض ماجد أن يتحدث بنفسه مع أبي فيوفر على أمي المسافة. ثم جاءنا في صباح آخر بالخبر أن أبي الذي كان في ذلك الوقت في بيت الساحل قد وافق على طلبه. وبذلك تقرر انتقالنا. بعد تشاور طويل اتفقت أمي مع ماجد أن تنتقل إلى مسكنهم بعد أيام, حين يكون هو وخدوج قد استقرا في بيتهما الجديد.
بيت الواتورو
شق على أمي الانتقال إلى البيت الجديد, فقد كانت متعلقة ببيت المتوني جسدا وروحا, إذ عاشت هنا منذ طفولتها. مثلما شق عليها أن تفارق أختي زيانة وزوجة أبي مدينة, وفوق هذا فهي لم تكن تحب التجديد. ولكن رجح الشعور بأنها قد تكون مفيدة لأولاد صديقتها المتوفاة, كما روت لي فيما بعد, على كل تردد شخصي.
ما كاد قرار أمي بالانتقال إلى المدينة يشيع حتى أصبح الكل يناديها أينما ظهرت- جلفيدان – هذا هو اسم أمي الغالية – ألم تعودي تحبين العيش معنا فتريدين تركنا إلى الأبد? وقد كان جوابها »آه أيها الأصدقاء, إنها ليست إرادتي أن أترككم وإنما هو قدري أن يكون علي أن أذهب«. أشعر أن البعض سينظر إلي في أفكاره مشفقا لدى قراءة كلمة »قدر«, أو على الأقل لن يستطيعوا إلا أن يهزوا أكتافهم. ربما أغلق هؤلاء حتى الآن عيونهم وآذانهم أمام إرادة الله ورفضوا إدراكه بعناد, بينما هم يعطون للصدفة على العكس أهمية أكبر. لا ينبغي للمرء أن يغفل أن الكاتبة كانت مسلمة وأنها نشأت كمسلمة. وأنا أتحدث عن الحياة العربية, عن البيت العربي, هذا يعني أن ثمة أمرين يظلان مجهولين في البيت العربي الأصيل, وهما كلمتا »الصدفة« و»المادية«. لا يعرف المسلم ربه كخالق وحفيظ وحسب, وإنما يشعر بحضور الله دائما, وهو مقتنع أن ما يحدث ليست إرادته وإنما هي إرادة الله في ما صغر أو كبر من الأمور.
مرت أيام ونحن نقوم بالاستعدادات, ثم انتظرنا عودة ماجد الذي أراد أن يعد لرحلتنا بنفسه. كان لدي في بيت المتوني ثلاثة أخوة, أختان وأخ كرفاق في اللعب, كانوا في مثل سني تقريبا. تألمت لاضطراري لتركهم. أذكر بالاسم رالوب الصغير الذي كان قريبا مني جدا. وعلى العكس فقد فرحت فرحا لا يوصف لأنني استطعت بهذه المناسبة أن أودع معلمتي الجديدة غليظة القلب إلى الأبد.
كانت غرفتنا الكبيرة بمناسبة الفراق المزمع تشبه خلية نحل لكثرة الأصدقاء والمعارف. أتانا الجميع بهدية وداع, كل حسب إمكانياته ودرجة محبته لنا. كان يحرص لدينا على هذا التقليد. وحين لا يكون لدى العربي إلا أقل القليل, فإنه لن يتردد في تقديمه لأصدقائه لدى الوداع كهدية. لا زلت أتذكر حادثة وقعت حين كنت صغيرة جدا. كنا قد انطلقنا من بيت المتوني في رحلة قصيرة إلى بساتيننا وكنا ننوي أن نركب القوارب الكثيرة ثانية لنعود إلى البيت. هنا سحبني شيء من الخلف, ورأيت زنجية عجوزا تلوح لي. أعطتني شيئا ملفوفا بأوراق الموز قائلة: ؛هذه هدية وداع صغيرة لك يا بيبي يانغو (سيدتي), إنها أول ثمرة ناضجة أمام بيتي. فتحت الأوراق بعجالة, ووجدت في داخل الغلاف عرنوص ذرة وحيدا مقطوفا للتو. لم أكن أعرف المرأة الزنجية, لكن تبين فيما بعد أنها كانت خادمة قديمة لأمي الطيبة«.
أخيرا جاء ماجد وأبلغ أمي أن لدى قبطان مركب الرحماني أمرا بأن يرسل مساء الغد لنا نحن الاثنتين مركبا شراعيا بصارية واحدة ومركبا آخر لأمتعتنا وللناس الذين سيرافقوننا إلى المدينة.
كان أبي في ذلك الوقت في بيت المتوني. وهكذا ذهبت أمي إليه بصحبتي حين حان يوم السفر لتودعه. رأيناه في البنديلة يمضي جيئة وذهابا, وإذ رآنا اتجه إلى أمي مباشرة. ثم استغرقا بعد قليل في حديث متحمس حول رحلتنا. وقد أمر واحدا من الغلمان كان يقف على بعد معين أن يأتيني بحلوى وشراب, ليضع في الظاهر حدا لأسئلتي الأبدية التي كنت أوجهها له. فقد كنت كما يستطيع المرء أن يتصور متلهفة إلى أبعد حد لرؤية مسكننا الجديد وكل ما يتعلق بالحياة في المدينة بصورة عامة, فإنني لم أكن في المدينة حتى ذلك الحين, قدر ما أتذكر, سوى مرة واحدة وحسب ولفترة قصيرة فقط. من هنا فلم أعرف جميع أخوتي, ولا جميع زوجات أبي الكثيرات. بعد ذلك ذهبنا إلى جناح زوجة أبي المبجلة لنودعها أيضا. وقد وقفت لتوديعنا, وهو إكرام أيضا على طريقتها, فقد اعتادت أن تستقبل وتودع وهي جالسة. وقد سمح لأمي ولي أن نقبل يدها الرقيقة قبل أن ندير لها ظهرنا بعد ذلك إلى الأبد.
وقد مضينا الآن صعودا ونزولا لنودع جميع الأصدقاء ولكننا لم نجد سوى أقل من النصف في غرفهم, فقررت أمي أن تودع الجميع مرة واحدة في ساعة الصلاة حيث اعتاد الجميع أن يحضر. في السابعة مساء توقف قاربنا الشراعي تحت البنديلة, وهو قارب كبير يستخدم في مناسبات خاصة فقط. وكان مزودا بأربعة عشر بحارا كمجدفين, وقد زينته من الأمام والخلف راية كبيرة قانية الحمرة, رايتنا الخالية من أية علامة أخرى, وفي القسم الخلفي من المركب كانت قد نصبت مظلة كبيرة, يمكن لعشرة إلى إثني عشر شخصا أن يجلسوا على الوسائد تحتها.
جاء جوهر العجوز, وهو غلام مخلص لأبي, وأبلغنا أن كل شيء جاهز للرحلة, وكان عليه هو وغلام آخر بناء على أمر من أبي الذي كان يراقب انطلاقنا من البنديلة أن يرافقانا في رحلتنا. وقد وجه جوهر المقود كالمعتاد. رافقنا أصدقاؤنا بعيون دامعة حتى باب البيت, ولازالت كلمة »مع السلامة, مع السلامة« ترن في أذني حتى اليوم.
شاطئنا ضحل إلى حد ما, ولم يكن ثمة جسر للمرسى في أي مكان. وكانت ثمة طرق ثلاث للوصول إلى القوارب. أن يجلس المرء على كرسي ذي متكأ يحمله بحارة أقوياء, أو يركب المرء على ظهرهم, أو يعبر المرء فوق لوح خشبي يصل المركب بالرمل الجاف على الشاطئ. استخدمت أمي الطريقة الأخيرة في الوصول إلى السفينة, يسندها غلمان مضوا فوق الرمل المبتل من الجانبين. أما أنا فقد حملني غلام آخر على ذراعه إلى القارب وأجلسني أمام المقود إلى جانب أمي وجوهر العجوز وفي المركب نفسه كانت ثمة فوانيس مشتعلة نشرت مع النجوم اللامعة ضوءا خافتا ساحرا حقا. وفضلا عن هذا فما كاد المركب يتحرك حتى بدأ المجدفون الأربعة عشر بغناء عربي حزين حسب تقاليدنا.
أبحرنا على طول الساحل كما هو معتاد بينما نمت بعد وقت قصير نوما عميقا, نصفي في حضن أمي والنصف الآخر على الوسادة. فجأة جرى إيقاظي في غير رفق عبر الأصوات الكثيرة المختلطة التي نادت باسمي. مذعورة وبعينين يثقلهما النعاس تبينت تدريجيا أننا قد وصلنا وأنني كنت قد نمت طول الرحلة. رسونا مباشرة تحت نوافذ بيت الساحل التي كان جميعها مضاء, تطل منها رؤوس لا عد لها. كل هؤلاء المشاهدين كانوا أخوتي وزوجات أبي الذين لم أكن قد تعرفت على أغلبهم بعد. وكان الكثير من أخوتي يصغرني سنا, ولم يكونوا أقل لهفة للتعرف علي من لهفتي للتعرف عليهم. وقد روت لي أمي أنهم هم الذين بدأوا يهتفون باسمي من بعيد حين لاح لهم مركبنا. تم الرسو مثل الإبحار واستقبلني أخوتي الصغار بصخب. كان علينا وفق رغبتهم أن نذهب معهم مباشرة, وهو ما رفضته أمي بالطبع, وإلا لكان على خدوج التي كانت تقف أمام نافذة بيتها أن تنتظر أطول من ذلك. وقد حزنت جدا لأنني لم أستطع الذهاب إلى أخوتي الصغار مباشرة, وهو ما كنت قد فرحت من أجله طيلة أيام, ولكني كنت أعرف أمي جيدا لأدرك أن ما أرادته أو قالته مرة لا يمكن تغييره, رغم حبها المضحي الذي لا مثيل له لي فقد كانت قوية وحازمة في كل شيء. إلا أنها واستني بأنها ستدعني أقضي هناك يوما كاملا ما أن يأتي أبي إلى بيت الساحل. وهكذا مررنا أمام بيت الساحل متجهين إلى بيت الواتورو, بيت ماجد. وهو يقع قرب بيت الساحل مباشرة ويطل مثله تماما على البحر. حين دخلنا وجدنا أختي خدوج تنتظرنا عند السلم. رحبت بنا في بيت الواتورو بحرارة وقادتنا أولا إلى غرفتها, حيث دخل خادمها الخاص إيمان بعد قليل بمرطبات من مختلف الأنواع. كان ماجد في غرفة الاستقبال في الطابق الأرضي, ولم يكن ليسمح له أن يصعد إلينا إلا بطلب من خدوج ورخصة من أمي. آه, كم كان ماجد الطيب النبيل فرحا لاستقبالنا في بيته.
كانت الغرفة المخصصة لنا واسعة تطل مباشرة على مسجد مجاور. وهي مؤثثة مثل أغلب الغرف العربية, فلم يكن ثمة ما نفتقده. ولم نكن نحتاج إلا إلى غرفة واحدة, فالمرء يرتدي هناك نفس الملابس في الليل والنهار, ولدى العرب الموسرين المتشددين في النظافة فإن غرفة خاصة للنوم هي شيء فائض. تكون غرف الأغنياء والوجهاء مؤثثة على النحو التالي, يغطي الأرض سجاد فارسي أو بسط ناعمة دقيقة الصنع. الجدران السميكة المطلية باللون الأبيض مقسمة إلى عدة أقسام من خلال أقواس ذات عمق مناسب تمتد من الأرض إلى السقف. وتقسم الأقواس ألواح من الخشب مطلية باللون الأخضر تشكل طوابق صف عليها بصورة متناظرة أفخر وأثمن أواني البلور والخزف. ولا يبخل العربي بثمن من أجل تزيين هذه الأقواس, قدح مصقول بدقة, صحن يحمل رسما جميلا أو إبريق أنيق مهما كلف ذلك. فهذه الأشياء تشترى إذا كانت جميلة. يسعى المرء إلى تغطية الجدران العارية الضيقة بين الأقواس, حيث تعلق عليها مرايا كبيرة تمتد من الديوان الذي يرتفع قليلا عن الأرض حتى السقف, تطلب من أوروبا حسب ارتفاعها وعرضها. أما الصور فهي مستنكرة بشكل عام لدى المسلمين باعتبارها تقليدا للخلق الإلهي, ولكن جرى في الفترة الأخيرة التساهل فيها. وعلى العكس فإن الساعات محبوبة جدا ويجد المرء في البيت الواحد مجموعة كبيرة منها, حيث يعلق بعضها فوق المرايا ويعلق البعض الآخر أزواجا على جهتيها. وتزين الجدران في غرف الرجال رموز من أنواع مختلفة من الأسلحة الثمينة من البلاد العربية ومن بلاد فارس وتركيا. وهي زينة اعتاد كل عربي أن يزين بها بيته حسب مكانته وثرائه.
في إحدى زوايا الغرفة وضع السرير الكبير المصنوع مما يسمى خشب الورد, تزينه نقوش رائعة حفرت عليه بمهارة, وهو فن يدوي من شرق الهند. تغطي السرير بأكمله ستارة من التول أو الململ الأبيض. للأسرة العربية سيقان مرتفعة جدا, ومن أجل أن يرتقيها المرء بصورة مريحة, يرتقي المرء أولا كرسيا, أو يستخدم كعتبة طبيعية, يد واحدة من الخادمات. وكثيرا ما يستخدم الفراغ المرتفع تحت السرير كمكان للنوم من قبل المرضعات مثلا في حالة الأطفال الرضع أو من قبل الممرضات في حالة المرض.
لا يجد المرء المناضد إلا ما ندر ولدى الأشخاص ذوي المكانة الرفيعة وحسب. وعلى العكس توجد الكراسي من مختلف الأنواع والألوان. كما لا توجد خزانات ودواليب, وبدلا من ذلك كان لنا نوع من الصناديق لها اثنان أو ثلاثة من الأدراج وفي داخلها أيضا مخبأ سري للنقود والحلي. كانت هذه الصناديق التي كان ثمة العديد منها في كل غرفة كبيرة جدا, مصنوعة من خشب الورد ومزينة بصورة جميلة جدا بآلاف المسامير ذات رؤوس من النحاس الأصفر.
كانت الشبابيك تبقى على مر السنين مفتوحة, وقد تغلق الأولى منها فترة قصيرة في أقصى الأحوال عندما يكون الطقس ممطرا, وهكذا تبدو عبارة ؛ثمة تيار هواء« عبارة غير معروفة.
لم يعجبني البيت الجديد في البداية أبدا. افتقدت أخوتي الصغار كثيرا وبدا لي بيت الواتورو بالمقارنة مع بيت المتوني الهائل صغيرا وضيقا بصورة مقبضة. أيكون عليك أن تعيشي هنا إلى الأبد? أين ستبحر قواربك الشراعية, أفي برميل ماء? تساءلت في الأيام الأولى دون انقطاع. لم يكن هنا ثمة متوني, وكان ينبغي جلب الماء من بئر تقع خارج البيت. وحين نصحتني أمي المحبة الطيبة التي كانت تود أن تهدي الآخرين كل ما تملك, أن أعطي السفن الشراعية التي أحببتها كثيرا إلى أخوتي في بيت المتوني, لم أرد ذلك في البدء. باختصار شعرت هنا لأول مرة في حياتي أنني تعيسة ومتكدرة بشدة.
وعلى العكس فقد مارست أمي في الحال مهنتها وكانت طول اليوم منشغلة مع خدوج بالتنظيم ووضع الأثاث, حتى أنني لم أستطع أن ألجأ إليها. كان أخي ذو القلب الطيب ماجد أكثر من اهتم بي, أخذني من يدي في اليوم التالي مباشرة وأراني بيته بكامله من أسفله حتى أعلاه. ولكن لم يعجبني شيء. كنت عديمة الاكتراث بكل شيء ورجوت أمي أن تعود بي قريبا إلى إخوتي الأحباء في بيت المتوني. لم يكن ذلك ممكنا بالطبع, وليس لأنها كانت نافعة للاثنين حقا.
اكتشفت في ماجد لحسن الحظ شخصا محبا للحيوانات, وأنه يملك في بيته مجموعة من مختلف الأحياء, بينها أعداد كبيرة من الأرانب البيضاء وهو ما كان يزعج خدوج وأمي فقد خربت البيت الجديد تماما. ثم كان لديه عدد كبير من ديكة المصارعة من كل بلدان العالم, لم أر مجموعة غنية كهذه ثانية حتى في حديقة حيوان.
أصبحت بعد وقت قصير مرافقة دائمة لماجد عند زيارته لحيواناته الحبيبة, وقد تركني أشارك في جميع ما يحب بطيبة لا حدود لها. ولم يدم الوقت طويلا حتى أصبحت بفضل طيبته مالكة لكتيبة كاملة من ديكة المصارعة خففت من وحدتي في بيت الواتورو تخفيفا كبيرا. صرنا منذ ذلك الوقت نقف كل يوم تقريبا أمام أبطالنا الذين كان على بعض الخدم أن يأتوا ويعودوا بهم. صراع الديكة شيء مسل, يستأثر بانتباه المشاهد دائما ويقدم ترفيها حقيقيا وغالبا صورة شديدة المرح.
علمني فيما بعد المبارزة بالسيف والخنجر والرمح, وحين سافرنا معا إلى الريف علمني استخدام البندقية والمسدس. باختصار أصبحت من خلاله نصف أمازونية وهو ما أرعب أمي الغالية التي لم تكن تحب المبارزة والرمي. نتيجة لذلك فقدت كل رغبة في الأعمال اليدوية, كان استخدام كل الأسلحة الممكنة أحب إلي من الجلوس هادئة بضع ساعات أمام مخدة حياكة الدانتيل. إلا أن كل هذه الانشغالات الجديدة إضافة إلى الحرية التامة أعادت إلي النشاط بعد وقت قصير, فلم يكونوا قد وجدوا لي معلمة جديدة بعد. وهكذا تلاشى النفور من بيت الواتورو الموحش الذي شعرت به في البداية. ولم تهمل الفروسية أيضا, فقد كان على الغلام مسرور بناء على أمر من ماجد أن يتولى متابعة تدريبي.
لم تستطع أمي أن تهتم كثيرا بكل صغيرة تتعلق بي, فقد أشغلتها خدوج جدا, وهكذا استعنت مع الزمن أكثر فأكثر بحبشية ذات خبرة إسمها نورين, تعلمت منها أيضا شيئا من اللغة الحبشية. لقد نسيت كل ذلك الآن بالطبع.
بقينا على اتصال دائم مع بيت المتوني, وحين كانت أمي تذهب معي إلى هناك فيما بعد كان أصدقاؤنا يستقبلوننا بحرارة ويضيفوننا. وعدا هذا فقد اقتصرت اتصالاتنا على الرسائل الشفهية عبر عبيدنا من الجهتين. لا يحب أحد في الشرق المراسلة حتى لو كان قد تعلم الكتابة, حيث يملك كل وجيه وثري هناك بعض العبيد الذين يستطيعون أن يمضوا بسرعة في الحال ويستخدمون لهذا الغرض وحسب. يكون على كل واحد من هؤلاء السعاة أن يقطع بضعة أميال في اليوم. ولكنهم يعاملون أيضا معاملة حسنة بصورة خاصة وتوفر لهم احتياجاتهم. فكثيرا ما تتوقف على كتمانهم وإخلاصهم راحة أسيادهم, فهم يؤتمنون على أكثر الأخبار سرية. ولم يكن ليندر أن تخرب علاقات صداقة إلى الأبد من خلال فعل انتقامي لأحد هؤلاء الرسل. ومع ذلك لم يكن كل هذا العنت ليدفع إلا القليلين لتعلم الكتابة ليصبحوا مستقلين. ليست لكلمة »يرسل« في أي مكان ذلك المعنى الكبير كما هو عندنا.
كانت أختي خدوج تحب الحياة الاجتماعية وهكذا كثيرا ما أصبح بيت الواتورو شبيها بقمرية حمام تماما. لم يكد يمضي يوم واحد في الأسبوع لم يكن البيت فيه مليئا بالضيوف من السادسة صباحا وحتى منتصف الليل. وكان الضيوف الذين يأتون لقضاء اليوم عندنا ويصلون في السادسة صباحا يستقبلون من الخدم, ويذهب بهم إلى غرفة خصصت لهذا الغرض حيث لا تستقبلهم سيدة البيت إلا في الثامنة أو التاسعة. وقد اعتادت النساء القادمات أن يستأنفن في تلك الغرفة نومهن الذي قطعنه بسبب النهوض المبكر.
بينما أصبحت علاقتي بأخي الطيب ماجد وثيقة بعد وقت قصير, لم أنجح في ذلك مع خدوج. ولما كانت متسلطة ومتشددة, فلم أستطع أن أحبها من كل قلبي. كان التناقض بينها وبين الطبع النبيل لماجد كبيرا. لم يكن هذا رأيي وحدي, فكل من عرف الأخوين معرفة جيدة عرف بوضوح أيضا من منهما أكثر استحقاقا للمحبة. كانت شديدة البرودة إزاء الغرباء وكثيرا ما كانت حتى منفرة, وخلقت لنفسها من خلال ذلك مزيدا من الأعداء. لقد أظهرت نفورا كبيرا من كل جديد وغريب, وكانت دائما, رغم حسن ضيافتها المعروف, لا تشعر بالارتياح حالما تبلغنا أوروبية بنيتها في زيارتها, رغم أن هذه الزيارة لم تكن تستغرق سوى نصف إلى ثلاثة أرباع الساعة في أحسن الأحوال.
وفيما عدا هذا فقد كانت قياسا إلى أوضاعنا متبصرة وعملية, لم تكن تجلس مكتوفة اليدين, وحين لم يكن لها ما تفعله كانت تخيط وتحيك بمثابرة ثياب الأطفال الصغار لعبيدها المتزوجين, كما تعمل في القمصان الأنيقة لأخوتها. كان الأحب بين هؤلاء ثلاثة صبيان هم سليم, عبد الله وثاني, وهم أبناء عربي يعمل رئيسا للبنائين في خدمتنا. كانوا يصغرونني ببضع سنوات ولكنهم أصبحوا بعد وقت قصير رفاقي في اللعب لعدم وجود أطفال في مثل سني, حتى تعرفت في بيت الساحل على أخوتي الآخرين.
يوم في بيت الساحل
حل اليوم الذي انتظرته بشوق لا يوصف, اليوم الذي سأذهب فيه مع أمي وأختي خدوج إلى بيت الساحل ونبقى هناك من الصباح حتى المساء. كان يوم جمعة, يوم الأحد للمسلمين, حين غادرنا البيت في الخامسة والنصف صباحا متلفعات بعباءاتنا الحرير السوداء الفضفاضة الموشاة بحاشية ذهبية عريضة (المسماة شيلة) فقد كان هدفنا يبعد حوالي مائة خطوة منا وحسب.
لم يستقبلنا ناظر القصر المخلص ولكن الذي لا يطاق, ذو الشعر الأبيض بمودة على أي حال. أوضح لنا بتجهم يزيد عن المعتاد أنه ينتظر منذ أكثر من ساعة واقفا على ساقيه الضعيفتين, ليستقبل النساء الزائرات وحسب. سعيد النوبي هو اسم البواب المتذمر. كان كما يشير إليه اسمه عبدا نوبيا لأبي, كانت لحيته البيضاء – لا أستطيع أن أعبر بغير ذلك, فلدى العرب تقليد وعرف أن يحلق الرجال شعر رؤوسهم – قد ابيضت في خدمتنا. كان أبي يقدره جدا, بالذات منذ أن ضرب السيف المرفوع من يده حينما كان قد استله في حالة غضب كان فيها محقا, وهكذا وفر على سيده تأنيب الضمير الذي كان سيرافقه مدى الحياة.
ولكننا نحن الصغار لم نعرف خدمات سعيد وكثيرا ما قادنا نزقنا أن نعابث الخادم المخلص المتذمر بأكثر الألاعيب شيطنة. كنا قد وضعنا مفاتيحه الكثيرة نصب أعيننا, ولم يكن في بيت الساحل مكان كما أعتقد لم نخفها فيه مرة. وكان أخي جمشيد يملك مهارة خاصة في إخفائها بأكملها دون أن نستطيع حتى نحن مساعديه تخمين مكانها.
حين وصلنا إلى الطابق الأعلى وجدنا البيت في حركة دائبة, كان أولئك الأشد ورعا وحدهم لا يزالون يؤدون صلاة الصبح بعيدين عن أنظار العالم الخارجي. ولم يكن أحد ليجرؤ أن يكدر مثل هؤلاء المتعبدين حتى لو شب حريق في البيت. ينتمي والدنا الطيب إلى هؤلاء, لذلك كان علينا أن ننتظره. وقد روعي وجوده في تحديد زيارتنا في هذا اليوم, فجاء كثيرون آخرون لنفس السبب وهو ما أزعج سعيد العجوز.
لم تكن السيدات القادمات جميعهن من المعارف أو الأصدقاء, على العكس كانت الكثيرات منهن غريبات على بيتنا تماما. أتى أغلبهن من عمان, وطننا الأصلي, من أجل طلب المساعدة المادية من أبي وحسب, والتي كن يحصلن عليها دائما تقريبا. كان وطننا مثل أبناء عشيرتنا هناك فقيرا, وقد بدأ رخاؤنا الشخصي منذ أن استولى والدنا على زنجبار.
رغم أن القانون يمنع المرأة من أن تحادث على نحو ما رجلا غريبا, فإن ثمة استثناءين يسمحان لها بالظهور أمام الحاكم والقاضي. ولما كانت الكتابة غير معروفة كليا بالنسبة للآلاف المؤلفة, لم يبق أمام هاته الملتمسات إلا أن يحضرن بأنفسهن ويتحملن مشقة الرحلة من آسيا إلى أفريقيا. تقدم لهن الهدايا هنا حسب مكانتهن وموقعهن, دون أن توجه إليهن الأسئلة عن مئات الأشياء التي يسأل المرء الفقير عنها هنا في اوروبا. يحصل كل على حاجته وما يستطيع المرء أن يعطيه. يفترض المرء هناك بوجه عام أن الإنسان المستقيم لا يتلقى مساعدة غريبة من أجل التسلية, وهو في ذلك هنا على حق تماما في حالات كثيرة.
استقبلتني أخواتي اللاتي أعرفهن واللاتي لا أعرفهن بحرارة شديدة, وخاصة أختي الحبيبة التي لا أنساها خولة. بينما كانت محبتي الطفولية مركزة حتى الآن على أمي الغالية تماما, بدأت الآن إلى جانب ذلك أحب شعاع الضوء هذا في بيتنا من كل قلبي, أختي خولة التي أصبحت بعد وقت قصير مثلا لي, وكانت تتمتع أيضا بإعجاب كثيرين آخرين مثلما كانت طفلة أبي المحببة. إذا ما حكم المرء حكما عادلا دون حسد فإن عليه أن يقر أنها ذات طلعة نادرة الجمال. وأين يوجد إنسان لا يحركه الجمال أبدا? لم يكن في بيتنا على أي حال مثل هذا الاستثناء. لم يكن في العائلة كلها من يشبه خولة, فصار جمالها مضرب الأمثال. رغم أن العيون الجميلة كما هو معروف ليست نادرة في الشرق, فلم يطلق عليها إلا نجمة الصبح. وقد حدث لأحد رؤساء القبائل العرب خلال مهرجان للمبارزة المحببة لدينا, أقيم كما هو معتاد أمام بيتنا, مأخوذا بسلطة غير مرئية تسمر بصره إلى إحدى النوافذ فلم يشعر بالدم المتدفق من قدمه ولا الألم الذي سببه له ذلك, حتى نبهه إليه أحد أخوتي. كانت خولة تقف أمام تلك النافذة. لقد غرز العماني الذي وقع نظره صدفة على النافذة المذكورة وسحره جمال خولة تماما, رأس حربته في قدمه دون أن ينتبه وجرحها. وكان على خولة البريئة أن تتحمل معابثة أخي طيلة سنوات بسبب هذا الحادث.
كان بيت الساحل أصغر كثيرا من بيت المتوني, ويقع مثله على البحر مباشرة, وكان فيه ما يشعر بالانشراح والمودة ويترك هذا الأثر على سكانه. تطل جميع غرف الدار على المشهد الرائع للبحر بسفنه, صورة انطبعت عميقا في روحي. تنفتح جميع الأبواب في الطابق العلوي, حيث توجد هنا غرف السكن, على قاعة طويلة وعريضة لم أر شيئا فريدا مثلها ثانية أبدا. يحمل سقفها على أعمدة تصل إلى الأرض, ويمر بينها حاجز صفت على طوله كراس كثيرة, فيما كانت المصابيح الملونة الكثيرة التي تتدلى من السقف تمنح المكان ضوءا سحريا خافتا لدى حلول الظلام.
وإذا ما نظر المرء من فوق الحاجز فإنه يرى فناء ملونا مليئا بالحياة والضوضاء, لن يرى مثله ثانية بسهولة. وقد ذكرتني السوق المحتشدة في اوبريت ؛الطالب المستعطي« بالحياة الملونة هناك فيما بعد, وإن كانت بشكل مصغر.
يصل بين غرف السكن في الطابق الأعلى والفناء سلمان كبيران مكشوفان تماما, تستمر الحركة عليهما صعودا وهبوطا ليلا ونهارا دون انقطاع, وكثيرا ما يشتد الازدحام في نهايتيهما حتى يضطر المرء للانتظار طيلة دقائق قبل أن يستطيع شق طريقه إلى السلم.
في زاوية من الفناء تذبح المواشي بأعداد كبيرة وفي نفس الوقت تسلخ وتنظف, كل هذا سدا لحاجة بيتنا وحده, إذ يتوجب على كل بيت هنا أن يوفر اللحوم لنفسه.
في جانب بعيد يجلس زنوج لحلق رؤوسهم. وإلى جانبهم يتمطى عدة رجال من السقائين يريحون أعضاءهم الكسولة ولا يصغون لجميع النداءات لطلب الماء, حتى يأتي أحد الغلمان المهابين ليذكرهم بغلظة بواجبهم الذي لم يؤدوه. كثيرا ما كان هؤلاء الرجال يجرون بمجرد رؤية رئيسهم الصارم بجرارهم مسرعين فيثيرون ضحك الآخرين.
قريبا منهم تجلس المربيات في الشمس مع الأطفال, حيث يروين لهم حكايات وقصصا تاريخية. في أحد أروقة الطابق الأرضي يقوم المطبخ أيضا في العراء, تتصاعد روائحه مع الدخان الذي تذروه الريح. قريبا منه الفوضى التي لا يمكن وصفها, حيث يسود خصام دائم وصراع بين العدد الكبير من الطباخين. لا يبخل رئيس الطباخين ورئيسة الطباخات بتوزيع الصفعات التي تصيب هدفها, إن لم يسرع مساعدوه أو مساعداتها كما يرغبان.
تطبخ هنا كميات هائلة من اللحم, الحيوانات بأكملها. كثيرا ما كان المرء يرى أسماكا من الضخامة بحيث يكون على اثنين من الزنوج حملها, تختفي في المطبخ. أما الأسماك الصغيرة فتسلم في سلال وحسب والطيور في دزينات, الدقيق والارز والسكر بالأكياس. وأما الزبدة فيؤتى بها سائلة من الشمال, خاصة من جزيرة سوقطرة في جرار زنة الواحدة منها حوالي قنطار. وقد استخدم معيار آخر للتوابل وحسب هو الرطل.
أكثر مبعثا للدهشة تقريبا هو كميات الفاكهة التي كانت تستهلك عندنا. كان يصل كل يوم ثلاثون إلى أربعين وحتى خمسين حمالا يأتون بالفاكهة إلى البيت, فضلا عن الزوارق الصغيرة الكثيرة التي تأتي بها من البساتين الواقعة على الشاطئ. لا أعتقد أني أبالغ إذا قدرت الحاجة اليومية من الفاكهة في بيت الساحل بحمولة عربة قطار, وقد كانت ثمة أيام, كما يحصل مثلا عند جني المانجو التي نسميها عمبه, تتضاعف فيها الكمية المستهلكة. وكانت هذه الكميات من الفاكهة تنقل دون حرص, إذ كان العبيد الموكل إليهم نقلها يلقون السلال الرخوة المليئة بثمار ناضجة بكل قوة على الأرض, فيصاب نصفها بالبقع وينهرس الكثير منها تماما.
كان قد بني سور طويل سمكه حوالي مترين لحماية البيت من أمواج البحر, نما خلفه وترعرع أجمل الرمان. وأمام السور ربط في فترات الجزر عدد من أفضل الخيول إلى حبال طويلة لتستطيع أن تمرح وتتقلب على رماله كما يحلو لها. كان أبي يحب خيوله العربية الأصيلة من عمان حبا شديدا, وكان يريد كل يوم رؤيتها, وإذا مرض أحدها قام بنفسه برعايته في الحظيرة. وأذكر هنا مثالا على حنو العربي على خيوله المفضلة, كان لأخي ماجد فرس بنية ثمينة ولم يكن أحب إليه من أن تلد فلوا. حين حان الوقت واقترب موعد ولادة الكحلة( كان هذا اسم الفرس) أمر السائس أن يبلغه بالولادة في الحال سواء في النهار أو في الليل. وبالفعل أوقظنا جميعا ذات ليلة بين الواحدة والثالثة تقريبا لنبلغ بهذا الحدث السعيد. حصل السائس الذي جاء بالنبأ السار من سيده السعيد خمسين دولارا كمكافأة له. وليس هذا مثلا فريدا, إذ يقال أن التعلق الشخصي بالخيول داخل بلاد العرب أكبر من هذا بكثير.
حين انتهت ساعة الصلاة وعاد أبي إلى غرفته, ذهبنا إليه ثلاثتنا, أنا وأمي وخدوج, وكما هو دائما ميال إلى المزاح, التفت إلي بعد قليل قائلا: قولي لي يا سالمة, كيف وجدت المكان هنا? هل تريدين العودة إلى بيت المتوني? هل تحصلين هنا أيضا على حساء الحليب?
بين التاسعة والنصف والعاشرة أتى جميع أخوتي من بيوتهم لتناول الإفطار مع أبي. لم يكن مسموحا لأية سرية أن تتناول طعامها مع أبي مهما بلغ تفضيله لها على الأخريات. فما عدانا نحن أطفاله, وبالمناسبة بعد بلوغنا سن السابعة فقط, شاركته المائدة زوجته المصون عزة وأخته عائشة. لا يظهر التمييز الاجتماعي بين الناس في الشرق في أية مناسبة بمثل الحدة التي يظهر فيها لدى تناول الطعام. فالمرء ودود ومحب لضيوفه تماما مثلما هي الحال لدى السادة الوجهاء هنا في هذه البلاد, وكثيرا ما يكون حتى أكثر تواضعا, ولكن عند الطعام يفصل المرء نفسه عنهم بكل أدب. هذا تقليد عميق الجذور حتى أن أحدا لا يشعر بالإهانة الشخصية من جراء هذا الفصل.
وقد وضعت السراري بينهن تراتبية أخرى. الشركسيات الجميلات الثمينات اللائي يعين قيمتهن لا يردن أن يتناولن الطعام مع الحبشيات اللائي لهن لون القهوة. وهكذا كانت كل مجموعة عنصرية تتناول طعامها على حدة وفق اتفاق غير معلن. إلا أن لون البشرة لم يلعب بالنسبة للأطفال كما أشرت دورا في التمييز بالطبع.
لدى ترددي على بيت الساحل تشكل لدي انطباع بأن الناس هنا أكثر مرحا وسعادة منهم في بيت المتوني. استطعت أن أدرك في وقت لاحق فقط سبب ذلك. كانت لعزة بنت سيف هناك الكلمة, لقد حكمت الزوج والأطفال وأمهاتهم, باختصار كل ما كان حولها. وعلى العكس هنا في بيت الساحل حيث لا تظهر عزة إلا نادرا, شعر الكل بما فيهم أبي بأنهم أحرار غير مقيدين, يستطيعون أن يفعلوا ما يريدون. وفيما عدا أبي الذي كان طيبا ورفيقا بشكل لا يوصف, لم يكن ثمة من يصدر الأوامر. الشعور بالحرية وعدم التحفظ يبعث الحيوية والسعادة بين الناس في كل مكان سواء عاشوا في شمال الكرة الأرضية أم في جنوبها. لابد أن يكون أبي أيضا قد شعر بهذا, فهو لم يرسل منذ سنوات أحدا للإقامة الدائمة في بيت المتوني إن لم تكن تلك رغبته الشخصية, رغم وجود مساكن كثيرة خالية في هذا البيت, بينما يكتظ بيت الساحل بالسكان. إلا أن هذا الاكتظاظ أصبح في الأخير لا يطاق, حتى خطرت لأبي فكرة فذة وهي أن يقيم في الشرفة الكبيرة حجرات خشبية كغرف إضافية للسكن. وأخيرا كان عليه أن يبني بيتا ثالثا, سمي ببيت الرأس. أقيم هذا على بعد بضعة كيلومترات إلى شمال بيت المتوني على البحر أيضا من أجل أن يكون مسكن الجيل الجديد من بيت الساحل.
كان يمكن للرسام أن يجد في شرفتنا في بيت الساحل مادة وفيرة لريشته. كانت الصور في كل الأوقات شديدة التنوع وملونة. وجوه الحشد تتدرج من ثماني درجات لونية إلى عشر. وسيكون على الفنان أن يستخدم ألوانا صارخة ليستطيع أن يعكس صورة حقيقية لكل الثياب الملونة. كان الضجيج على الشرفة مربكا أيضا. أطفال من مختلف الأعمار يركضون, يتخاصمون ويضرب بعضهم بعضا في كل الزوايا. وخلال ذلك يرتفع نداء بصوت عال وتصفيق باليد يقوم في الشرق مقام الجرس لنداء الخدم, يضاف إلى هذا قرقعة قباقيب النساء الخشبية التي ترتفع من خمسة إلى عشرة سنتيمترات وكثيرا ما تكون موشاة بالفضة والذهب.
كان خليط اللغات في هذا المجتمع ممتعا بالنسبة لنا نحن الأطفال. في الواقع كان ينبغي الكلام بالعربية وحدها, وفي حضور أبي جرى الالتزام بذلك بصرامة. ولكن ما كان يكاد يذهب حتى تسود فوضى لغوية هائلة, فكان المرء يسمع عدا العربية الفارسية والتركية والشركسية والسواحيلية والنوبية والحبشية مختلطة ببعضها, بغض النظر عن اللهجات المختلفة لهذه اللغات.
لم تزعج هذه الضوضاء في ذلك أي إنسان, كان يشتكي منها من كان مريضا فقط. وكان أبونا الطيب معتادا على ذلك ولم يظهر تذمره أبدا.
في هذا المكان المليء بالحركة بدت اليوم جميع أخواتي الراشدات في زينة احتفالية, قسم منهن لأن اليوم كان يوم أحد عربي, وقسم آخر على شرف زيارة أبي. ذهبت أمهاتنا ووقفن في مجموعات وتحدثن بحماسة مع بعضهن, ضحكن, وتندرن وكن من المرح حتى أن أحدا يجهل الظروف, لن يصدق أنه يرى زوجات رجل واحد. ومن منطقة السلم ارتفعت قرقعة السلاح لإخوتي الكثيرين وأبنائهم الذين جاءوا أيضا لزيارة أبي وبقوا عنده, باستثناء فسحات صغيرة من الوقت, طول النهار.
وهكذا ساد في بيت الساحل كثير من الفخامة والإنفاق أكثر مما هو في بيت المتوني, ووجدت هنا أيضا أشكالا أكثر جمالا وجرأة مما هناك حيث لا توجد شركسيات أخريات عدا أمي وصديقتها مدينة. بينما كانت هنا على العكس غالبية النساء من الشركسيات اللاتي كانت لهن طلعة أجمل دون شك من الحبشيات, رغم أنه كثيرا ما كانت بين الأخيرات نساء ذات جمال غير عادي. أعطت هذه المفاضلات الطبيعية سببا للحسد والحقد, فكانت الحبشيات ذوات لون الشكولاته يتجنبن كل شركسية تتمتع بالجمال دون ذنب تماما وحتى يكرهنها, فقط لأنها تبدو ذات وقار. في هذه الظروف لا يمكن تجنب نوع من »الكراهية العنصرية« بين الأخوات أيضا. تتسم الحبشية رغم فضائلها من بعض النواحي بالكراهية والميل إلى الثأر دائما تقريبا. إذا توقدت عاطفتها فإنها نادرا ما تكون معتدلة, ناهيك عن أن تكون مستقيمة. كانت أخواتنا اللائي يجري في عروقهن دم حبشي يطلقن علينا نحن أطفال الشركسيات عادة »القطط«, لأن بعضنا كان له لسوء الحظ عينان زرقاوان. وكن يلقبننا بـ»أصحاب السيادة« سخرية, وهو دليل على عظم امتعاضهن من أننا ولدنا ببشرة بيضاء. ولم يغفرن لوالدي أبدا أن يكون قد اختار ابنتيه المفضلتين شريفة وخولة من أمهات شركسيات – من نسل القطط المكروهة.
مهما يكن فقد سادت في بيت المتوني تحت ضغط عزة بنت سيف حياة شبيهة بحياة الأديرة. كنت في بيت الواتورو أشعر بوحدة أكبر, لذلك أعجبتني أكثر الحركة النشيطة في بيت الساحل.
انضممت بعد وقت قصير إلى أخوتي الذين كانوا في نفس سني. وكانت ضمن الحلقة القريبة ابنتا أخ هما شيمبوا وفارشو, وهما الابنتان الوحيدتان لأخي خالد. كان يؤتى بهما كل صباح من بيتهما إلى بيت الساحل وتعادان إلى بيتهما في المساء, لتستطيعا أن تحضرا الدروس مع أعمامهما وأخوالهما ثم تنصرفا إلى اللعب بعد ذلك. كانت خورشيد أم خالد وهي شركسية الأصل ذات مظهر بهي بوجه خاص. فارعة الطول, تملك قوة إرادة غير معتادة يرافقها ذكاء طبيعي عال. لم أر في حياتي امرأة ثانية يمكن مقارنتها بها . قيل عنها حين أصبح خالد ينوب عن أبي فيما بعد عند غيابه, إنها هي التي تحكم البلاد وإن ابنها ليس سوى أداة في يدها. لم يكن يستغني عن مشورتها لدى العائلة بكاملها, وكان الكثير يتوقف على قرارها. كانت عيناها تراقبان وتريان في لحظة بنفس الحدة التي ترى بها مئات العيون لأرغوس. كانت تحافظ في القضايا المهمة دائما على ما يشبه حكمة سليمان. لكنها كانت بالنسبة لنا نحن الأطفال غير محبوبة وكنا نتجنب الاقتراب منها.
أردنا في المساء أن نعود إلى بيت الواتورو. هنا قال أبي لأمي ويا لعظم خيبتي, إن علي أن أتابع التعلم, يعني تعلم القراءة, وبذريعة أنهم لم يجدوا لي بعد معلمة مناسبة, تقرر أن يؤتى بي كل صباح مثل بنات أخي إلى بيت الساحل وأن أعاد في المساء, لأستطيع التعلم مع أخوتي. كان هذا الخبر بالنسبة لي غير مريح على الإطلاق. كنت أقل انضباطا من أن أكون قادرة على الجلوس هادئة, وعدا هذا فقد أفسدت معلمتي السابقة تذوقي للتعلم إفسادا جذريا. ولكن فكرة أن أكون مع أخوتي كل يوم ( عدا يوم الجمعة ) وحدها قدمت لي عزاء مؤقتا, خاصة أن أختي خولة الساحرة عرضت على أمي أن تقوم برعايتي والاهتمام بي. وقد فعلت هذا بإخلاص ورعتني مثل أم. كانت أمي على العكس متكدرة حول قرار أبي بإبعادي عنها ستة أيام في الأسبوع, وهو ما كان عليها أن تتدبره أيضا. إلا أنها أمرتني أن أكون في مكان معين عدة مرات في اليوم حيث تستطيع أن تراني من بيت الواتورو على الأقل وتومئ لي.
من حياتنا في بيت الواتورو وبيت الساحل
لا أريد أن أقول عن معلمتي الجديدة سوى أنني أحمد الله القدير أيضا على أنه هيأ لي في يفاعتي مثل هذه الصديقة المخلصة. كانت معلمة صارمة ولكن منصفة. كثيرا ما ذهبت إليها وحدي لأن أخوتي لم يكونوا يحبون الذهاب إلى غرفة مرضها المظلمة, ويفضلون استغلال عجزها ليتسللوا من المكان. لكني لم امتلك القسوة أن أرى المسكينة البائسة تطلب مني شيئا فلا ألبي رغبتها. وقد عادت علي طاعتي عدا رضاها طبعا بسخرية شديدة من أخوتي المتنصلين من الدرس وكثيرا ما كان علي أن أحتمل ضربهم أيضا.
ازداد حبي لبيت الساحل مع مرور الأيام, كنا نستطيع أن ننطلق في لعبنا هنا أكثر بكثير مما في بيت الواتورو. ولم يفتنا هنا أيضا أن نعبث, ولكن حين تبع ذلك عقاب كنت أقل من يتعرض له حيث كانت راعيتي خولة أكثر طيبة من أن تنزل بي عقابا.
وها هي بعض الأمثلة على معابثاتنا.
كانت ثمة طواويس رائعة في البيت بينها واحد عنيد, لم يكن يحبنا نحن الأطفال. ذات يوم حين مضينا, وكنا خمسة أطفال, حول قبة الحمام التركي الذي يرتبط ببيت الساحل بجسر معلق وبآخر مع بيت الثاني, وهو بيت ملحق بالأول, باغتنا ذلك الطاووس وهو ينفخ من الغيظ وهاجم أخي جمشيد. ألقينا بأنفسنا بسرعة البرق على الغول وغلبناه. ولكن غضبنا وخاصة جمشيد كان أكبر من أن نترك الحيوان, فقررنا أن نثأر منه بوحشية فنزعنا عنه ريشه الجميل. وكم بدا الحيوان الملون المحب للشجار بعد ذلك بائسا. لحسن الحظ كان أبي في ذلك الوقت في بيت المتوني وقد كتم عنه الأمر عند عودته لحسن الحظ.
خلال تلك الفترة جاءت إلينا شركسيتان من مصر, وبعد بعض الوقت بدت إحداهما لنا نحن الأطفال, متعالية لا تعيرنا اهتماما. وقد آلمنا هذا فبذلنا جهدنا من أجل أن نعثر على عقوبة مناسبة لها. ولم يكن إنزالها بها سهلا, فهي لا تمر في طريقنا أبدا ولم يكن لدينا ما نفعله معها. وقد زاد حقدنا عليها كونها لا تكبرنا إلا بسنوات قليلة. بمثل هذه المشاعر جئنا مرة ومضينا أمام غرفتها التي كان بابها مفتوحا كالمعتاد. كانت المسكينة تجلس على سرير سواحلي خفيف جدا, يتكون من أربعة قوائم مربوطة بحبال جوز الهند وحصيرة, وكانت تغني بكل استغراق أغنية مرحة من أغاني وطنها. كانت أختي شيوانة هي قائدتنا هذه المرة, وكانت نظرة منها تكفي لنفهم نحن الذين كنا نحمل نفس المشاعر. أمسكنا حبل السرير بصعوبة, ورفعناه معها قدر ما استطعنا لنتركه يسقط ثانية, مما أرعب المخلوقة التي لم تكن لديها أي فكرة. كان عبثا طفوليا حقا, إلا أنه حقق نجاحا, فقد شفيت من عدم اكتراثها بنا في المستقبل إلى الأبد, بعد ذلك كانت المودة بعينها ولم نكن نريد أكثر من ذلك.
وقد قمت بشقاواتي في تهوري وحدي أيضا. ذات مرة بعد انتقالنا إلى بيت الواتورو بوقت قصير أوشكت أن أكسر رقبتي في مناسبة كهذه. كنا قد ذهبنا كما يحدث كثيرا إلى واحد من بساتيننا الكثيرة الرائعة للراحة. ذات صباح استطعت في غفلة من مرافقتي أن أتسلق في لحظة دون أن ينتبه إلى احدى شجرات جوز هند باسقة, بخفة مثل قطة ودون أن آخذ معي البنغو, وهو حبل غليظ لتثبيت القدمين, والذي لا يمكن حتى لأكثر المتسلقين مهارة الصعود إلى نخلة بدونه. حين بلغت منتصف النخلة بدأت أنادي المارين بنزق وأحييهم بصوت عال.
يا له من رعب . لقد وقفت شلة كاملة من الناس في الأسفل ترجوني أن أنزل بحذر. لم يكن ممكنا إرسال أحد لمساعدتي, حيث يحتاج كل امرئ يديه لتسلق النخلة ولا يستطيع حمل طفل في السابعة أو الثامنة فوق ذلك. إلا أن المكان هنا فوق أعجبني ولم أنزلق هابطة ببطء إلا حين وقفت أمي في الأسفل يائسة تفرك يديها ووعدتني بأشياء مختلفة جميلة, ووصلت الأرض سعيدة دون أن يصيبني أذى. في ذلك اليوم كنت الطفلة المدللة لدى الجميع وحصلت بسبب نجاتي على هدايا كثيرة, رغم أنني كنت أستحق ضربا مبرحا.
كنا نقوم بمثل هذه الشقاوات كل يوم ولم تكن ثمة عقوبة تستطيع أن توقفنا. كنا سبعة أطفال, ثلاثة صبيان وأربع بنات, أولئك الذين أثاروا القلق في البيت وكثيرا ما سببنا لأمهاتنا المسكينات للأسف المتاعب أيضا.
احتفظت بي أمي بين حين وآخر في بيت الواتورو في غير أيام الجمعة, واستغل ماجد الطيب هذه الفرصة ليدللني كثيرا. كان ذلك في يوم أثار فيه رعبا لا حدود له. كان المسكين يعاني من تشنجات تعاوده بين حين وآخر, لذلك لم يكن يترك دون مساعدة أو لا يترك إلا نادرا. حتى حين يكون في الحمام و كانت خدوج وأمي اللتان لا تثقان بالعبيد تقفان بالتناوب أمام الباب على الدوام, لتتبادلا معه بين حين وآخر بعض الكلمات, وكان يجيب مازحا ؛لا زلت حيا«. وهكذا كانت خدوج تروح وتجيء أمام باب الحمام حين سمعت صوت ارتطام عميق, فأسرعت بالدخول مع آخرين يكاد يقتلها الخوف ووجدت الأخ الحبيب مطروحا على أرض دكة الصلاة في نوبة مرعبة, كانت أسوأ ما مر به, وهكذا أرسل فارس إلى أبي في بيت المتوني لإحضاره.
كنا بسبب الجهل بالأمراض ضحايا للشعوذة المزعجة في جميع مثل هذه الحالات, والآن بعد أن تعرفت على علاج الأطباء الطبيعي والعقلاني, كثيرا ما أشعر أن موتانا الكثيرين لم يكونوا ضحايا المرض في كثير من الحالات, وإنما ضحايا العلاج البربري. فلو لم يكن لدينا الايمان الراسخ بقدرنا فلا أدري كيف كنا سنتحمل مستسلمين حالات الموت الكثيرة في عائلتنا ومحيطنا.
كان على ماجد المسكين الذي استلقى ساعات في حالة مرعبة من التشنج غائبا عن الوعي, أن يتنفس فوق سريره هواء يمكن أن يضر حتى بشخص معافى. فرغم حبنا الطبيعي للعراء والهواء الطلق فإن المرضى بالذات, خاصة إذا حام الشك حول دور الشيطان في الأمر كما هو الحال هنا, يعزلون عن الهواء الخارجي فضلا عن إحراق البخور بكثافة في الغرفة وفي البيت كله.
بعد ساعة وصل أبونا الطيب لدهشتنا في متوبي, وهو زورق صيادين صغير يتسع لشخص واحد فقط, ليأتي بخطوات مسرعة إلينا في البيت. كان للرجل الشيخ أكثر من أربعين من الأبناء ولكنه كان يصاب بالهلع لمرض أي منهم! انهمرت الدموع على وجنتيه حين وقف إلى جانب سرير ماجد, ودعا دون انقطاع ؛يا رب, احفظ لي ولدي!« وقد سمع الله تعالى دعاءه فتماثل ماجد للشفاء.
سألته أمي فيما بعد, لماذا أتى في الزورق البائس فقال: ؛حين جاءني الرسول بالخبر لم يكن ثمة قارب واحد على الساحل, كان يتوجب إعطاء الإشارة أولا ولم يكن لدي وقت للانتظار. وإن أوعزت بسرج حصان فإنه يستغرق وقتا طويلا أيضا. هنا رأيت صيادا يمضي في زورقه تحت الشرفة, تناولت سلاحي وناديته, وحين غادر الزورق قفزت إليه وجدفت قادما إلى هنا« ينبغي أن يعرف المرء الآن أن المتوبي هو زورق بائس يتكون من جذع شجرة جرى تجويفه, ونادرا ما يتسع لأكثر من شخص ولا يستخدم لتحريكه المجداف وإنما جاروف مزدوج. إنه ضيق مدبب من الأمام وقصير نسبيا, وهو لا يشبه من هذه الناحية الزوارق المسماة هنا بالغرونليندية.
وبالنسبة لوجهة النظر هنا يبدو الأمر غريبا أن يجد أب قلق على حياة ولده, يتخلى عن كل اتيكيت, الوقت مع ذلك ليفكر في سلاحه. يصح هنا أيضا المثل القائل: بلاد أخرى, عادات أخرى. كما يبدو للأوروبي حب العربي الأصيل لسلاحه حبا لا حدود له غير مفهوم, فبالعكس يبدو الكثير مما يوجد في الشمال غير مفهوم للعربي. أذكر فقط بالحانات الفظيعة للرجال هنا.
وهكذا صرت أذهب إلى المدرسة في بيت الساحل لأعود كل مساء إلى أمي في بيت الواتورو. حين تعلمت أخيرا حوالي ثلث القرآن عن ظهر قلب, لم أعد أعتبر طفلة بالنسبة للمدرسة وكان عمري حوالي سبع سنوات. منذ ذلك الوقت صرت آتي مع أمي وخدوج أيام الجمعة فقط حين يكون أبي في بيت الساحل.
———————————-
* بيبي كلمة سواحيلية تعني سيدة, وكلاهما تعني سيادتكم.
تأليف: سالمة بنت سعيد بن سلطان (اميلي رويته) , ترجمة: سالمة صالح مترجمة عراقية مقيمة في ألمانيا