كانت تجلس كمن يتفقد جرحا طال وقت اندماله ، فلا نظراتها كفت عن بحثها فوق كل ذلك الجسد الذي تمتلكه، ولا أصابعها توقفت عن رسم تلك الوجوه في الفضاء أمامها، يندفع أصبعها ليدير قرص الوجه ثم تكتمل الشفتين… والأنف وتبدأ بمحاولة تدوير العينين فتفشل ، امتلأ الهواء بوجوه دون عيون ، فشعرت هي الأخرى بظلمة قاعة قد تعوقها بأكتشاف ندوب جسد اعتزت به طويلا وحين أرهقها برضوخه تخلت عنه الى غير رجعة. وفي وسط ذلك الاكتظاظ كان الهاتف مايزال يعذبها بوحشية هادئة.. خمس ساعات ماتت من حياتها وهي تنتظر بغرابة لا تفهمها، ما الذي تنتظره؟ أعادت السؤال مرارا رغم يقين الحواب لديها فتخادع نفسها بأنها لا تنتظر شيئا.. بل هو فراغ هائل يفزر رأسها ولا يدعها تفكر بحالة محددة بذاتها، أي عقل صامت تمتلك ، لا ذاكرة تولد، ولا أحداث تورق ، ولا أشخاص يتحركون ، فقط وجوه عمياء تؤطر صور تقرفص فوق كل ذكرياتها لكن بغير استرجاعات أربع ساعات ووقت عودته مازال بعيدا الا أنه يحبطها باقترابه.. سقف أمام الباب ليطرقه أولا وكأنه يعلن عن وصوله قبل أن يدير مفتاحه ثم يدخل متراخيا ليتمطى فوق مائدته التي تكره اعدادها ويسترخي فوق جسدها الذي تمقته منذ أن تخلت عنه بتلك الورقة اللعينة ، وبعدها تبدأ رحلة تثاؤب غبي على صوتها الذي تستطيل فيه الحروف ، وتعود لتنقذف وراء أسرار قيلولة رتيبة يمارسها باضطهاد قسري، وتبقى ترقبه وهو يبتعد عنها بمسافات أكبر وأكبر… فتلعن أشياء كثيرة أحبتها يوما وعشقتها أياما وحلمت بها سنوات طوالا لتكتشف بعد كل هذا لعنة صغيرة تسقط من بين شفتيها تحمل اسمها.
ثلاث ساعات ، وذاكرتها تأبى الانصياع لرغباتها.. أتكون انسانة ميتة دون أن تدري؟ أقفاص لا تتوقف تحجمها مع كل يوم يولد وتستقطع أنفاسها بألوان معتمة ، وبماذا تفيدها ذكرياتها الآن غير أن تزيد عذابات تجلدها بسياط لا ترحم.. كان عليها أن تفهم معنى تمطيه الدائم فوق كينونتها انه يسخر منها، بطريقة لئيمة في ذات اللحظة التي يشعرها فيها بأهمية تفاهتها.. أيحاول تسطيح مشاعرها لتصبح دمية تتحرك بأزرار آلية.. أي لؤم تدور داخله هي تعرف كل هذا منذ سنوات لكنها تخفيه حتى عن نفسها.. دون أن تسأل لماذا؟ أعليها أن تحافظ عليه ولماذا؟ أم أنها تبقى على زواجها فقط مع سؤال أخر.. وماذا يعني كل ذلك غير شلل ينمو فوق جسدها كأعشاب طفيلية ترقب اطرادها لتتباهى بقدرتها على التحمل.. ومن سيعطيها وسام قدرتها؟ هو؟ أم الآخرون؟ أم هي؟ أية خرافة وأي تزوير، شبكة ام شراك تحمل أم ضعف قرارا؟ لوثة أم فقدان.. أسئلة تعيش فيها فتقتل خلايا لا تجد طريق الانشطار.
حتى.. حتى.. تلك اللحظة التي انتظرت فيها أن يسألها إن كانت قد أحبت قبله ، يومها أرادت أن تبقى تتكلم دون توقف ، انتابها احساس رائع بأنها تكاد تحلق ، انها فرصتها لتقرب مشاعرها منه فلربما لا يعرفها دون أن توضحها له.. تحدثت.. كثيرا كثيرا جدا الى أن أحست بالتعب ثم استدارت لرؤيته ، فلم تكن تواجهه خشية أن تتوقف لو رأته يرقبها وليتها لم تفعل.. أصابها دوار مؤلم كان يتثاءب مستهينا بوجهها الذي انفعل احمرارا وبحركات يديها المضطربة ، وبنظراتها التي تألقت.. لم يشعر بكل ما لديها من لهفة ، استغفل محاولتها لاشعاره بأنها بحاجة الى كل ما سردته وما انتظرته منه جرح حتى دمها وهو يستدير موليا ظهره بعيدا عن ضوئها، متمتما.
– انها نزوة صبا، مؤكد لم يكن حبا.
– أية طعنة جربت أن تهادنه فليكن ما يقول لكن ألم يشعر بانفعالها وهي تستقبل نزوتها بحيوية تنبثق من ذكرياتها.
– ساعتان والهاتف على صمته.. القلق أتعب أصابعها التي شوهت وجوها كثيرة رسمتها منذ ساعات ،لماذا لا يرن الآن ، هي بحاجة لسماع صمته الدافيء وراء أسلاكها ، لا ينطق حرفا، ولآ آهة صغيرة ، صمت جميل ، سماوي، نقي ، مؤكد هو من يتصل ، منذ أن رأته قبل أسابيع ، وهاتفها لا يكف عن رنين متواصل وصمت أجمل يوم لن تنسده أعاد اليها دفقة حياة لا تعرف كيف تمتلكها كلها دون أن ينازعها بها استرخاء مشاعر زوجها ، كان المطر دافئا. أصرت على أنه دافيء رغم تكور زوجها وراء مقوده وشدة رغبته بالعودة. إلا أنها بقيت تستقبل تلك القطرات الحنون بوجه محروم ، ابتلت تباعا ولم تشعر بارتواء. واستمر هو وراء مقوده متكورا بطريقة بائسة فوق مساحة أكبر من ممتلكاته ، يومها استلذت ايلامه ، إن عليه أن يشاركها حبها، الله بعث لها بقطراته فلم لا تحتضنها بقوة ، وأيضا لم يفهم رغبتها بعيدا تماما بمسافات لن تقصر أبدا، وتمادت خلعت حذاءها وبللت قدميها ولم يعد يطيق صبرا فتح باب سيارته محاولا جذبها وهو يصرخ.
– سيبتل المقعد بملابسك كفاك.
بقيت لديها ساعة واحدة فقط.. لا يهم لحظة واحدة.. لا يهم لحظة واحدة الآن تغنيها عن سنوات وتكفيها لاسترجاع صورة وجهه الذي رأته يومها قبل أن تدخل السيارة مرغمة ، كان موجودا، صورة طالما رسمتها في الهواء بعيون حنون تعرف كيف تعشق ومتى تعطي وكيف تصمت وتتكلم ، وتسخر.. لم تكن نزوة كما أسماها زوجها. كان حقيقة صادقة عاشتها واستلذت ديمومتها حفنة من ثورة تدمر جليدها تقسم انه كان أمامها، من أين جاء؟ كيف؟ لماذا؟ والآن بعد سنوات الموت التي حنطتها.. لا تفهم غير وجوده قريبا مبتلا تماما، يستقبل ماء الله معها.
ذات الهواء المغسول بطهارة ، هل شعر بوجودها؟.. لماذا لم يحادثها ، أكان يرقبها هل راها لماذا لم يقترب أكثر. ألغى كل قيودها تلك اللحظة فهل خشي ذلك الالغاء وتوقف أم ماذا؟ ولم تعد بحاجة لقسم جديد لتثبت أنه كان موجودا.
نصف ساعة بقيت لوصوله متثائبا لم تكمل اعداد مائدته مثل بقية الأيام التي تصرمت بعد أن رأته وسط المطر.
لم تعد المائدة تخيفها ولم يعد جسدها يهينها.. ولا صوتها يجرحها ولا احصاء سخريته المتعمدة منها.. تبا لذاك السرير المفروش بعبوديتها وذكرياتها التي هشم صروحها.. ليست بحاجة لاحصاء أي شيء الآن لن يفيدها ذلك التعذيب الذي أدمنته فليس لديها شاغل غير وجوه ترسمها في الهواء وسماعة هاتف ترفعها مرارا لتستقبل صمتا حبيبا لا يحادثها لكنه يفعمها صورا وأحلاما وسعادة وثورة عشق أبدي.
خمس دقائق بقيت وصوت خطواته تقترب من أذنيها وفجأة اكتظ سمعها برنين هاتف انتظرته.. واسقطت ساعدتها فوق لهفتها رفعت السماعة ثم همست.
– آلو..
في اللحظة ذاتها كف زوجها عن طرق الباب مستعملا مفتاحه وصارخا لحظة ولوجه.
– لماذا لم تفتحي، ألم تسمعي خطواتي..
– آلو..
والصراخ يعلو أمامها.
– أغلقي الباب ورائي، ما بالك صامتة.
واستمرت تهمس بصوت أعلى.
– آلو..
والصراخ يزداد بخطوات تبحث عن مائدة لم تعد.
– أين أنت 0
– ايدها تتشبث بسماعة باردة وتصرخ
ألو..
وصوت يتثاءب وراء باب المطبخ كئيبا
– لم تعدي المائدة.. ماذا دهاك؟
– آلو.. أجبني.
وخطوات تقترب منها تحمل وجها دون عيون.
وظلمة تكتسح اقترابه.. انتظر ثانية صغيرة ثم أمسك يدها المتثلجة وسحب السماعة منها وأغلقها.
واجهت نظراته بوحشية مخيفة.. وازدحمت الأسئلة في رأسها أهو خامل ، مضطرب أم غاضب ، مسترخ أم كئيب أم ساخر أم مستغفل ، رجل أم ورقة شرعية ، زوج أم شاهد على جريمة قانونية ، جسد أم رغبة متمطية ، قيد أم تراه سوارا ذهبيا.
كل أسئلتها قرأها دفعة واحدة دون أن تنطقها.. وشعر بزمجرة تنبثق من مكان ما. وبشيء يقترب بسرعة رهيبة ، أفلت ذراعها وسألها مرتعبا.
– ما بك؟
وعلا رنين الهاتف في رأسها ثانية ، مزقت سؤاله وهرعت باتجاه الهاتف..
– آلو..
والصمت يقتل المسافة بينها وبين زوجها ، كان يرقبها وكانت تشعر به إلا أن مكانه كان بعيدا جدا صعب عليها تحديده حتى ملامحه لم تعد تراما جيدا ولا همهمات كلمات ينطقها ، ولا حركات يديه التي تلوح متشنجة.. كان يبتعد بسرعة شاهقة وتقترب هي من صمتها الحبيب وتكاد تسمع كلمات تطرق أذنيها.. من منهما الذي تكلم الآن.. وجه بعيد بمسافات ميتة أم صمت قريب يخترق أنفاسها.. وصرخت تستنجد.
– ألو.. أجبني.
الصمت يطوقها وزوجها يقترب والظلمة تخنقها.. وقف أمامها فلم تر غير ملابس كانت تعرفها.. امتدت يده لتمسك سماعة أصبحت آخر ما لديها من سلاح.. سحبها منها وأغلقها فعلا رنينها داخل رأسها مرة أخرى.. وقبل أن تمد يدها سحبها هو بعيدا داخل دائرة كانت تراها قبل قليل بكل مسافاتها المتعبة…. سمعت صوتا يصرخ من مكان ما… ويمتليء به بيتها يصطدم بجدرانها ويسقط فوق سطوح مساماتها.
– لماذا ترفعين السماعة كل قليل.
أجابت دون أن تعرف من الذي يسأل.
– الهاتف يطلبني.. فلا أجد عملا غير انتظاره امسك وجهها بيد أحست بها ميتة.. قرب شفتيه من أذنيها التي عاد اليها صوت الهاتف مرة ثانية حاولت التملص منه ونظراتها تتوسل لكنه أطبق عليها بقوة ، وصرخ بصوت حاقد.
والهاتف مازال يدعوها..
أنت تتوهمين. الهاتف معطل منذ أسابيع.
عالية طالب (قاصة من العراق)