وقرب المدخل انتصبت شجرة ورد ضخمة،وكانت ورودها بيضاء، ولكن ثلاثة من عمال البستان انهمكوا في طلاء تلك الورود باللون الأحمر، ووجدت اليس غرابة في هذا الأمر،
لويس كارول – اليس في بلاد العجائب
-1 –
في عام 1915 أقدم الأديب الهاييتي البارز إدموند لافوريست Laforest على الانتحار بطريقة رمزية فريدة ؛ لقد ربط الى عنقه نسخة ثقيلة من قاموس لاروس الفرنسي وألقى بنفسه من أعلى جسر الى مياه النهر الموحلة، وكان بذلك يعلن أن اللسان الأوروبي الذي يستخدمه في الكتابة والتعبير هو بمثابة اثقال مقيدة في الحياة واثقال مقيدة في ضامنة للموت (ا).وكان اختياره للقاموس، وليس أي كتاب فرنسي ثقيل آخر، دلالة على المحتوى الرسمي للغة كأداة كونية استعمارية قاهرة . والباحث الهندي هومي بابا Bhabha يروي الحكاية التالية المستقاة من سجلات الجمعية التبشيرية الكنسية " في الهند: في أيار (مايو) عام 1817،في ضواحي مدينة دلهي، اقترب واعظ مسيحي من مجموعة هنود تحلقوا لدراسة الكتاب المقدس . الهنود هؤلاء وافقوا على أن الكتاب معجزة ربانية وكلام الله، ولكنهم تساءلوا عن كيفية وصول الكتاب اليهم، وعن "الصاحب " الذي طبعه ووزعه، فاكتشفوا أن ذلك الصاحب هو ممثل التاج البريطاني المستعمر، وأنه (بعكس الكتاب) أبعد ما يكون عن الاعجاز الالهي: إنه غريب، آكل للحم، شارب للخمر، قاس ومتعجرف، ولكي يسترد الواعظ سلطته الروحية على الهنود، اضطر الى نفي صلته بذلك الصاحب، (بابا: 1985، 145).
هاتان الحكايتان تؤشران على اثنين من أبرز ملفات التجربة الاستعمارية في الميدان الثقافي، أي ملف اللغة الغازية التي تمارس هيمنة موازية ومكملة لأشكال الهيمنة العسكرية والسياسية والاقتصادية، وملف الانفصال الخارجي والاندغام الداخلي بين السلطة الاستعمارية ومختلف خطاباتها الحضارية، وما ينجم عن الملفين من تكريس ثنائيات المستعمر/ المستعفي، السيد/ العبد، المركز /المحيط الغرب /"الآخر"، ومن اغتراب داخل الهوية، وتشوهات في الانتماء وتوتر وتصارع ومقاومة قد تبلغ درجة عالية من العنف بالضرورة كما أشار فران فانون في أطروحته عن الشرط الاستعماري بوصفه حالة عداء مستعص بين ابن البلد Native والغازي.
ولأن تجربة الاستعمار لا تقتصر على العنف الفيزيائي بل تمتد أيضا الى العنف الثقافي واللساني والنفسي، فإن تجربة التحرر من الاستعمار Decolonization على صعيد الكتابة ظاهرة لا تخلو من العنف في جوهرها، والثنائيات السابقة تضع النتاج الثقافي ما بعد الكولونيالي Post-Colonial (2) في حالة تعارض مع الذات، وفي سياق من الاغتراب والاقتلاع وآلام البحث عن الهوية بعيدا عن الشروط الصحية للتفاعل الدينامي والتثاقف الطبيعي الحر، واذ يبحث الكاتب ما بعد الكولونيالي عن الاستراتيجيات التي تتيح له بلوغ صيغة تصالحية بين قيود الارث الاستعماري وضرورات كتابة الذات، فإن ذلك البحث قد يأخذ أشكالا عنيفة حين تضطر الذات الى كتابة نفسها بلغة المستعمر، تتراوح بين مثال لافوريست الأقصى الذي يبلغ حد الانتحار باستخدام القاموس، ومثال الهنود الذي يدرج النص بعيدا عن أخلاقيات حامل النص، وفي كتابه نحو الثورة الافريقية تحدث فران فانون عن سيكولوجية المقهور الذي «حاكم وأدان وتخل عن أشكاله الثقافية، ولغته، وعاداته في المأكل والمشرب، وسلوكه الجنسي وطريقته في الجلوس والاستراحة والضحك والاستمتاع، فلم يجد أمامه من منفذ سوى إلقاء نفسه على الثقافة القسرية بيأس الفريق (فانون 39:1964).
واذا كان هذا هو حال الكاتب الرجل، فان تجربة الكاتبة المرأة تكتسي طابعا أكثر حدة وازدواجا. إنها تشترك معه في الخضوع لأواليات الاستعمار في القهر والقمع والالغاء والتدجين، ولكنها تزيد عليه في خضوعها لقهر أخر يتصل بطبيعة موقعها في المجتمع المحلي قبل مجيء الاستعمار وأثناءه وبعد التحرر منه، وابن البلد في عين المستعمر هو "الآخر" المعمم،امرأة كان أم رجلا، أما المرأة فهي "آخر الآخر" في عين ابن البلد وأعراف الهيمنة البطريركية، وهي موضوع الرغبة البهيمية المحضة في عين المستعمر الغربي الذي جمد صورتها عند حدود الكتابات الاستشراقية ومناخات الحريم، حيث لا تتمكن من تمثيل نفسها خارج الجسد المجرد من إنسانيته،كما أوضح إدوارد سعيد في الاستشراق .
وفي دراستها "ثلاثة نصوص نسائية ونقد الامبريالية " والتي باتت كلاسيكية الآن، حاولت الهندية غاياتري شاكرا فورتي سبيناك Spivak أن ترصد ما يمكن تسميته "عقدة ميراندا" نسبة الى الشخصية النسائية المحورية في مسرحية شكسبير العاصفة، واذا كان توتر ثنائية بروسبيرو/كاليبان (أو السيد/العبد، المستعمر/ المستعمر بمعنى آخر) يثير مسائل الذات والآخر، الغرب وبقية أرجاء العالم، فان العلاقة بين كالبيان وميراندا تفتح السؤال النسوي في الخطاب ما بعد الكولونيالي: لقد استعمرت ميراندا لأنها أخر الرجل، وجانبه الخفي المنكر، وتجسيد انعدام الوزن الثقافي . لكن سبيناك تتجاوز هذا المعطى المعياري لتصل الى تحليل الأشكال الأدبية الأبوية (البطريركية) ذاتها، التي تتوالد على نحو "سري" وغير واع في إيديولوجية النص وأنظمة التوالد اللغوي الذكوري داخل الوعي الجمالي الجمعي للنتاج النسوي. وجوليا كريستيفا Kristeva أكد رأت أن الانقطاعات الحديثة في التراث الأدبي وتطور أشكال جديدة من الخطاب تتناسب مع بلوغ نص نسوي متحرر. لكن سبيناك تشكك في ذلك ؟ إن تسوية أو خلخلة المعنى بما هو معنى، لن تضمن مستقبلا خطابيا نسويا بالضرورة . ولن تخفف من الحتمية التاريخية لتنويعات عقدة ميراندا (سبيناك 76:1988) والإلحاح العصبي على رفض الهياكل الثنائية للخطابات البطريركية يهدد بإغماض العين عن القوى السياسية والاجتماعية والايديولوجية لثنائيات أخرى عنصرية واستعمارية مثل أبيض /أسود، مستعمر/ مستعمر، غربي/آخر..
ثمة، بالتالي، أواليات قهر إضافية تتسبب في اغتراب الكاتبة الأنش مرتين: الأول عن هويتها الوطنية في سياق الاستعمار والثانية عن هويتها الوطنية في سياق النظام البطريركي. وهي في الاغترابين تعيش حالة نفي قصوى عن صوتها الخاص في تاريخها وهويتها ولغتها، ويعكس نصها توترا شديدا في العيش ضمن صيغة "الآخر، تحت سقف الآخر" بحيث يتضاعف الوجود والمعنى وتختفي أكثر من لغة واحدة طي الكتابة، ولسوف نحاول استقصاء تلك الحالة المركبة في رواية الجزائرية آسيا جبار الحب، الفانتازيا L’Amour, la fantasia (التي صدرت بالفرنسية عام 1985 وترجمت الى الانجليزية في عام 1989 بعنوان فانتازيا: استعراض خيول جزائري Fantasia An Algerian Cavalcade)، ورواية المصرية أهداف سويف في عين الشمس 9(1) In the Eye of the Sun، والتي صدر بالانجليزية عام 1992.
– 2 –
في مقدمتها للترجمة الفرنسية لرواية نوال السعداوي امرأة عند نقطة الصفر، كتبت آسيا جبار: "ما هي الرواية النسوية في اللغة العربية ؟ إنها صوت قبل كل شيء وتمتمة ليلية، وعويل رثائي عبر عوائق الشفق التي تجد ولادتها في جزء من السماء يضاء فجأة، إنها جرح عتيق ينفتح أخيرا، وبالتدريج ليحرز أغنيته، والتمرد يتنامى أثناء بحثا عن كلمات جديدة، والتمرد يتطور هنا في الايقاع الدائري المتكرر لكلامه " (جبار 5:1981) وبعد أربعة أعوام من تنفيذها لهذه الترجمة، أصدرت جبار رو ايتها الحب، الفانتازيا وحاولت فيها أن تطلق هذا الصوت المؤنث الحبيس لكي يحتل فضاءه الجدير به وغير المنفصل عن معضلاته .
والرواية تستعيد تاريخ الغزو العسكري الفرنسي للجزائر منذ يومه الأول، فجر 13 حزيران (يونيو) 1830، وذلك في مستويات ثلاثة هي في الآن ذاته ثلاثة تواريخ: العمليات العسكرية للقوات الفرنسية والذاكرة القريبة للنضال الجزائري من أجل الاستقلال، والسيرة الذاتية للروائية كما ترد على لسان الشخصية الراوية . وهي في ذلك تحلل سلسلة من الوثائق والرسائل والصحف والمقالات عن الغزو، كتبها شهود عيان فرنسيون، باستثناء واحدة كتبها الحاج أحمد أفندي، المفتي الحنفي للجزائر، وهي بدورها مكتوبة باللغة التركية ومن المنفى التركي الذي سيق اليه أحمد أفندي بسبب مناهضته للاستعمار. وهذه مفارقة إضافية مزدوجة، لأن الروائية تنقل بالفرنسية شهادة جزائرية مكتوبة بالتركية . واللغة العربية غائبة دائما عن النص التاريخي الوثائقي، مثلما عن النص الروائي حتى حين تسترجعه وتعيد بناءه أديبة جزائرية عربية .
وتسرد جبار روايات الغزو كما سجلتها ذاكرة الجزائريين والجزائريات، ولم تحفظها سوى السجلات الأوروبية . ذلك يدفع الروائية الراوية الى الذهاب الى مسقط رأسها في قرية جبلية على كتف المتوسط، واجراء حوار تقاطعي بين النصوص الفرنسية المكتوبة والنصوص الجزائرية الشفافية التي تسردها نسوة القرية الناطقات بالعربية العامية، وباللغة البربرية في القرى المجاورة . وهذا التناوب بين النص المكتوب والنص الشفاهي، وبين النص الفردي والنص الجمعي يستدعي عنصر "الفانتازيا" الوارد في الشق الثاني من العنوان، وفي معانيه الثلاثة .
1- الفانتازيا كنمط هي التأليف الموسيقى الغربي ينطوي على الكثير من إسباغ الايهام على العناصر المعتادة أو الواقعية، وعلى الانفلات من القواعد التقليدية في التأليف واطلاق العنان للمخيلة المتحررة من الاعتبارات الشكلية . وفي هذا المعنى الأول ينقسم الجزء الثالث من الرواية الى خمسة أقسام وخاتمة، وينهض تركيب الحركة فيه على أساس الفانتازيا.
2 – التركيب الفانتازي لنثر آسيا جبار، والبناء اللفظي الخاص الذي يتوسط بين الصوت والكتابة وبين الكلام والتأليف، وعكس إيقاعات اللغة العربية في النص الفرنسي بحيث يرجع صدى الكتابات الفرنسية وينقلب في الآن ذاته الى "كتابة على لوح مكتوب " كما تقول .
3- المعنى الثالث هو التعبير العربي العامي "الفنطازيا" أو "الفنطزية " أي الحركات الاستعراضية اجمالا. رذ السياق الجزائري يتسع المعنى ليشمل استعراض الخيول التقليدي المعروف، والذي يترافق مع إطلاق الرصاص وحركات الفترة واستعراض الرجولة .
الغزو، بالتالي يشمل عنصري العنوان: الحب (وسوف يتضح جانبه المعقد المتصل بالهوية الوطنية والذاتية والانثوية) والفانتازيا كمظهر ثقافي – اجتماعي جزائري أصيل حولته التجربة الاستعمارية الى "فعل يمارسه حيوان متدرب يطلب منه أن يزأر فقط " (ميمي 93:1967).
ومنذ السطور الأولى في وصف الغزو، تشدد جبار على التماثل بين صورة الجزائر البلد وصورة الجزائرية المرأة بحيث يتحول الغزو العسكري الى عملية اغتصاب جسدي متخيلة، مشبعة بالرؤى الحسية الاستشراقية: "المدينة تظهر للمرة الأولى في دور امرأة شرقية، غامضة وبلا حراك " (ص 14) وفي ناظر أمابل ماتيريه، صاحب الشهادة الأولى والمراقب والغازي في أن معا، تندمج علاقة متكافئة بين الفتح العسكري والرغبة الجسدية، وتصبح المرأة الشرقية كناية عن الجزائر المستباحة: ددلماذا تبدو هذه الحملة الأولى على الجزائر وكأنها ترجع أصداء مضاجعة فاضحة ؟ حين ينبلج فجر هذا اليوم سيتقابل فيه الفريقان وجها لوجه، ماذا ستقول النسوة لبعضهن البعض ؟ أية أحلام رومانتيكية ستتوهج في قلوبهن ؟ لكأن الغزاة جاؤوا على هيئة عشاق (16).
والمرأة موضوع رغبة حتى في المشهد المؤثر لامرأة جزائرية سقطت قتيلة قرب جثة الجندي الفرنسي الذي نهشت قلبه . وهذا المشهد يصفه البارون بارشو أو بينوين، الشاهد الشأني "الذي يكتب انطباعات طازجة عن المشهد بصفته المحارب والمراقب والرجل الذي وقع في غرام الأرض التي يحرقها" (26). وهو يصفا في سياق تفصيل تسجيلي للحدث الرهيب الذي تلقطه آسيا جبار لتدشن به أولى التواريخ الداعية لغزو الجزائر والحدث يدور حول عدد من المقاومين الجزائريين البربر، معن رفضوا الاستسلام للغزاة ولجأوا الى الكهوف القريبة من القرية، فاستخدم الضابط الفرنسي بيليسييا سلاح الدخان لإخراجهم منها، فقضوا خنقا، وكان عددهم 0 150 من النساء والرجال والأطفال مع مواشيهم . وفي سردها لهذه الواقعة الوحشية، والتي ستتكرر بعد شهرين على يد الكولونيل سانت – أرنو، تقتبس جبار شهادة ضابط إسباني روى أن بيليسييه أمر جنوده بإخراج ستمائة جثة من ظلام الكهوف الى ضياء الشمس، وتضيف اليها مقاطع من تقرير رسمي كان بيليسييه نفسه ينوي رفعه الى رؤسائه "وبيليسييه الذي ينطق الآن بالنيابة عن هذا الالم الطويل، وبالنيابة عن 0 150 جثة مدفونة أسفل قرية القنطرة وبالنيابة عن المراثي التي لم تتوقف عن اطلاق شفاء الموت، سلمني تقريره وأخذت منه هذا اللوح الذي أخط عليه، بدوري مشاعر الألم المتفحمة التي عرفها أسلافي " (93).
ولأنها تستخدم لغة المستعمر لكي تسجل وحشيته وبعض الذاكرة الدموية التي خلفها، فإن كتابة جبار بتلك اللغة تأخذ صفة الاشكالية المفتوحة . الكاتبة تضع نفسها في موقع ابنة البلد التي يجب أن تتوافق مع تاريخ بلدها الجزائر ومع نفسها كذات عربية مؤنثة تكتب بالفرنسية عن النساء العربيات اللواتي لا يتكلمن الفرنسية، وعن رجال عرب حجبوا عن النساء حق الكلام بالأصالة عن أنفسهن . وجبار تقول "بذلك فإن اللغة التي جهد والدي كثيرا لكي أتعلمها، تخدم الآن كوسيط لسرد التاريخ، وهي منذ الآن علامة مزدوجة متناقضة تهيمن على عمادتي في الحياة " (12).
واللغة الفرنسية علامة مزدوجة لأنها جزء من ازدواجية السلطة البطريركية، الأب يريد لابنته أن تتعلم الفرنسية ولكنه يكره لها أن تقرأ – بالفرنسية – رسالة غرامية كتبها فتى مراهق، فيمزق الرسالة وهو يقول: "لا ريب في أن كل عذراء متعلمة سوف تتعلم قراءة وكتابة مثل هذه الرسائل الملعونة " ( 11). وعبارة الأب تدخل في سياق فعل الكتابة بالذات، وفي منطق السياج الاجتماعي الذي يحيط به خصوصا حين توضع في خدمة محرم محدد مثل الحب: "سوف تحين الساعة لهذه العذراء ويكون الحب الذي يكتب أكثر خطورة من الحب الذي يخبو خلف جدران موصدة " ( 11). وجبار هنا تلعب على التشابه اللفظي والاختلاف الكتابي بين كلمتي S’ecrit (يكتب) وكلمة ses cris (صرخاته) بحيث يجري تبادل المواقع دلاليا بين الكتابة واطلاق الصرخة، والعكس بالعكس، ولكنها لا تكتفي بذلك، فتنتقل من صيغة الضمير الغائب الى صيغة المتكلم حين تتقمص شخصية الفتاة المراهقة وتعيد تلصيق الرسالة، لكي تكتشف أن فرنسية هذا المراهق تقليدية وباردة ولكن تحريم الأب لقراءتها أسبغ عليها جاذبية خاصة .
والعودة الى عناصر السيرة الذاتية تتيح لآسيا جبار متابعة هذا الخط في معادلات اللغة والكتابة والصمت، وتأخذ مرة ثانية موقع الصبية بدرة، الابنة الوحيدة لسي محمد بن كأرومة والتي تؤسر في يوم زفافها وتقاوم الأسر على نحو ينقلب الى قدوة في الوجدان النسوي الجزائري، والرواية تتماهى مع بدرة وهي تتابع المفاوضات الشاقة بين أبيها وخطيبها حيث جسدها هو موضوع المساومة وحيث لا يقبل المتساو مان بأي تنازل دون ثمن يقتطع من السلعة واستنادا الى قوانين اقتصاد بضاعي. وفي برهة ما تتداخل صورة المتفاوضين مع صورة اللغة المستعمرة واللغة المستعقرة وتوتر الصمت والكتابة في ذلك كله: "هذا العالم الغريب الذي اختر قوه وكأنهم يخترقون امرأة، هذا العالم يواصل الصراخ بلا توقف . لقد تم الاستيلاء على افريقيا واختراقها وفض بكارتها بالرغم من صرخات الاحتجاج التي لا تستطيع كتمها" (70). وفي الجزء الثالث من الرواية والذي يحمل العنوان الدال "أصوات مدفونة " تكتب جبار "للرجل الحق في أربع زوجات شرعيات ولنا نحن الصبايا الراشدات الحق في أربع لغات للتعبير عن رغباتنا، غير الحق في التأوه والأنين: اللغة الفرنسية من أجل المكاتبات السرية، واللغة العربية من أجل رغباتنا المخنوقة في الوصول الى الرب – الأب والرب – صاحب الكتاب واللغة البربرية – الليبية التي تردنا الى الآلهة الوثنية والأمهات الالهات في مكة قبل الاسلام . أما اللغة الرابعة الخاصة بجميع الجنس المؤنث – الشابات والعجائز، المحجور عليهن وأنصاف المتحررات – فهي لغة الجسد: ذلك الجسد الذي يريد أبناء العم وأعين الجيران الذكور أن يكون أصم أعمى" ( 180).
ولغة المستعمر تبرهن هنا على العائق الأقصى، خصوصا في القسم الثالث من الرواية حيث تتزايد مناخات الاغتراب والاقتلاع، ويتذبذب السرد بين ضمير المتكلم وضمير الغائب، وتصبح اللغة تشخيصا ممتازا لثنائية الانتماء والنفي: "منذ طفولتي خدمتني اللغة الاجنبية كنافذة أطل منها على مشهد العالم وكنوزه . ولكنها سرعان ما انقلبت الى مدية سلطة على عنقي" (143) بل ان الأمر يبلغ عند الراوية حد اختيار الحبسة Aphasia الطوعية، أي القرار الذاتي بفقدان القدرة على الكلام في مسائل الحب وعند استرجاع ذاكرة الفتح الاستعماري: "هذه اللاامكانية في الحب دعمتها ذاكرة الفتح . لقد ورثت هذه الكتامة، ومنذ مراهقتي جربت نوعا من الحبسة في مسائل الحب، لقد تراجعت أمامي الكلمات المكتوبة، الكلمات التي تعلمت " ( 145). وفي نهايات الرواية لا تترك آسيا جبار ظلا للشك في طبيعة هذا الانقسام الثنائي: " حين أكتب وأقرأ بلغة أجنبية، فإن جسدي يسافر الى فضاء تدميري. الكلمات التي استخدمها لا تعكس واقعا من لحم ودم . وجميع ما تعلمته في القراءة والكتابة يقذف بي نحو موقع ثنائي الانقسام وضربة الحظ هذه تضعني عند حافة الانهيار" (208).
هذه الثنائية في استخدام اللغة أو هذا التعارض بين الانتماء والاقتلاع وبين الذات والآخر، يختزل المتكلم (أو المتكلمة بالأحرى) الى كائن يرتكز تشكيل هويته على حقلين لغويين وثقافيين منفصلين، يتكاملان في ترسيخ الثنائية وتجريد الهوية من سياقاتها التاريخية والاجتماعية والثقافية والسيكولوجية . ذلك لأن استخدام اللغة العربية يرتبط على نحو وثيق بتشكيل الهوية ويلعب دور "البرهة التطهيرية المطلقة " على حد تعبير جبار، الأمر الذي يرتطم على نحو حاد بالاستخدام القسري للغة الفرنسية التي تحرر وتأسر في آن معا.
وضمن هذا المعنى بالذات يمكن أيضا إثارة الاطروحة القائلة إن مفارقة الكتابة بلغة المستعمر (المفروضة من الخارج بفعل اعتبارات الاستيعاب الثقافي أو المثاقفة الالزامية) هي أيضا عتبة للقمع الثاني الذي تخضع له المرأة بوصفها "اخر الآخر" واطار لكتابة واعادة كتابة الخطاب الجمالي التحريري على صعيد الذات المؤنثة . وفي دراسته المتميزة "إعادة كتابة الكتابة: الهوية والمنفى والتجدد في رواية آسيا جبار الحب الفانتازيا" يتحدث هـ ادلي مردوك H. Adlai Murdoch عن جانب أساسي في التجربة الاستعمارية ينطوي على ثنائية تنازعية بين حاجة المستعمر الى الاعتراف به وعجز المستعمر عن تلبية هذه الحاجة لأن فيها نفيا لركيزة اختراقه الثقافي للذات المستعمرة (مرد وك 1993، 89).
والحق أننا لا نحتاج الى استراتيجيات تحليلية شائكة لكي ندرك هذا الجانب، وآسيا جبار توفره على نحو مدهش حين تقول: "الفرنسية هي لسان زوجة الأب . ما هو اللسان الأم الضائع منذ زمن بعيد، والذي تخلى عني واختفى؟ تثقلني المحرمات الموروثة . واكتشف أنني لا أملك ذاكرة من أغاني الحب العربية . الحب وصرخاته (الحب يكتب)… المسألة لم تعد تتعلق بالكتابة من أجل البقاء على قيد الحياة فقط . وبعد أكثر من قرن على الاحتلال الفرنسي، ما تزال توجد أرض محايدة بين الفرنسية واللفات الأصلية بين ذاكرتين وطنيتين واللسان الفرنسي، بجسده وصوته أسس في داخلي موقع تحصين يدعو الى الفخار في حين أن اللسان الأم كان يقاوم ويهاجم بتراثه الشفاهي فقط . أنا في الآن ذاته الأجنبية المحاصرة وابنة البلد المترنحة الموشكة على الموت " ( 240-241) .
وبعض هذا اللسان الأم الضائع تجده آسيا جبار في حواراتها مع عجائز القرية ومشاركتها في تقليد جزائري يقوم على سرد الأقاصيص و" الثرثرة " و"الوشوشة " من أجل إيقاظ الصوت واستعادة "أكبر قدر ممكن من الأخوات الضائعات ". وبعضه تجده بمعنى رمزي عند دولا كروا، وعند فرو منتان الذي يهديها "يدا غير منتظرة،يد امرأة مجهولة لم يكن بمقدوره أن يرسمها. انه يصف على نحو شرير كيف غادر الواحة بعد ستة أشهر من مذبحة الكهوف، وأثناء مسيره عثر في التراب على يد مبتورة لامرأة جزائرية مجهولة . بعد ذلك رمى اليد وتابع سيره . لقد التقطت تلك اليد الحية، يد البتر والذاكرة، وحاولت أن أضع فيها القلم 21أط اط و (الكلام، الكتابة) ". (226).
وهي. ثالثا، تستعيد اللسان الأم الضائع حين تكتب، وفي سياق فعل الكتابة تنبش من رماد الأيام رسائل امرأة فرنسية هي التي ستصالحها مع الجانب الانساني في لغة زوجة الأب، ومع تراث آخر في ثقافة وحضارة المستعمر يختلف كل الاختلاف عن مذابح الكهوف واستباحة الجزائر. وبولين رولان ثورية سان – سيمونية ونسوية داعية الى السلام، نفاها نابليون الى الجزائر بعد ثورة 1848 فعاشت في كنف الجزائريات كواحدة منهن وكتبت الى أصدقائها في فرنسا تصف علاقتها بنساء الجزائر اللواتي شاركتهن ظروف السجن القاسية . وآسية جبار تعتبر بولين رولان السلف الحقيقي لنساء الجزائر، وأم المجاهدات وممثلة لسان تستطيع الروائية الانتماء اليه دون أن تفقد هويتها، (3)
– 3 –
معضلات آسيا العُلما بطلة رواية أهداف سويف "في عين الشمس "، لا تتصل بالبحث عن الهوية أو إشكالية تشكيل الهوية في سياق ما بعدكولونيالي . ولكنها تبدأ من حيث تنتهي بطلة آسيا جبار، أي الانتماء الى اللسان الأجنبي (الانجليزي هنا) الذي عشقته في النص الأدبي والثقافي إجمالا، قبل أن ترتطم به في الحياة الفعلية وعلى صعيد لا يختلف في الجوهر عن ذاك الذي تواجهه بطلة الحب الفانتازيا، أي صعيد الجسد الممزق بين ولاء ين وجغرافيتين وثقافتين .
ولكن رواية أهداف سويف هي، من جانب ثان، تذكرة جديدة بأن قسطا هاما من الأدب المتميز الذي يكتب اليوم باللغة الانجليزية يوقعه أبناء المستعمرات السابقة في بريطانيا، مثلما في فرنسا والولايات المتحدة . ونتذكر بهذا الصدد أسماء سوينكا Soynika، واتشيبي Achebe، ونغرجي، Ngugi، ولمنغ Laming، وو لكوت Walcott، ورشدي وغيرهم معن يتولون اليوم صناعة المشهد الابداعي والجمالي الانجليزي. واذا كانت الدول العربية التي وضعت تحت الانتداب البريطاني تشكل شذوذ القاعدة – ربما بسبب المدى الزمني القصير نسبيا لفترة الانتداب، وعدم تحول الانجليزية الى لغة استعمارية كما كان الحال في افريقيا وشبه الجزيرة الهندية والكاريبي (4). فإن رواية سويف تعيد ترديد خطاب التابع المرتهن في اسار ثقافة اللغة ما بعد الكولونيالية. وفي مرحلة فاصلة من جدل علاقتها باللغة الانجليزية تقول آسيا العُلما "أتكون المسألة بأسرها مضحكة ؟ مضحكة وساذجة ؟ أهو نوع من الاستعمار الخبيث المستبطن المزروع في أعماق روحها؟ شكل من الاستعمار لا يستطيع أي عصيان أن يخفف منه، ولن تفلح أية اتفاقية في وضع حد له ؟" (512).
وقد لا يكون من المبالغة القول ان "في عين الشمس " رواية إنجليزية ممتازة حول ممر، ورواية مصرية ممتازة حول إنجلترا، ذلك لأن لقاء الشرق بالغرب هو الناظم المحوري وراء سرد لا يعيد الكتابة على كتابة سابقة (كما هو حال رواية آسيا جبار)، وإن كان يحاول استعادة استراتيجيات ثلاثية نجيب محفوظ في تصوير الطبقة الوسطى القاهرية عبر ثلاثة أجيال ووسط تأزم سياسي واجتماعي بالغ الخصوصية، وتوازيات التجربة الرائدة التي دشنتها لطيفة الزيات في الباب المفتوح حين سعت الى تكوين مستويين متوازيين من الصراع لاحراز الهوية والكيان والاستقلال: مستوى مصر، ومستوى المرأة المصرية . وعنصر السيرة الذاتية لا تخطئه العين في الرواية، وهو يندمج بقوة وببراعة دراسية واقعية في النسيج اليومي للحياة السياسية المصرية والعربية منذ هزيمة حزيران (يونيو) 1967، الى مذابح أيلول الأسود في الأردن الى حرب تشرين الأول (أكتوبر) عام 1972، مرورا بوفاة جمال عبدالناصر وصعود أنور السادات واتفاقات كامب ديفيد واجتياح لبنان وبدايات تكون التيارات الاسلامية في الشارع العربي.
وآسيا بطلة الرواية ولدت وترعرعت في القاهرة، ودرست في جامعتها، وكونت وعيها على خلفية اجتماعية وثقافية عربية مصرية واسلامية واضحة ولكنها ولدت في أسرة أكاديمية لأب شغل منصب وزير الثقافة ويعمل الآن عميدا لكلية الفنون، ولأم درست الأدب الانجليزي في بريطانيا وهي تعلمه اليوم في الجامعات المصرية وتحث ابنتها على السفر لدراسته، ذلك يقوي عند آسيا حس الانتماء الطوعي الى الثقافة الانجليزية خصوصا حين تغادر بدورها الى انجلترا لاعداد أطروحة دكتوراه حول الاستعارة في الشعر هي التي ظلت رؤيتها للعالم المحيط بها تعتمد كثيرا على الاستعارة حتى أنها تضع العوالم الاجتماعية المحيطة بها في تشخيصات مستمدة من الأدب العالمي. فالأم (في أسرة محسن نور الدين زوج شقيقتها، على سبيل المثال) نموذج خارج من مسرحيات لوركا، والأب من تولستوي، والشقيقتان من الأخوين غريم Grimm أو لويزا ماي الكوت Louisa May Alcott، والشقيقان من شارلز ديكنز أو فيلدنغ . وهي لا تستثنى نفسها من هذا الميل الى التشخيص، ويحدث مرارا أن تتماهى مع شخصيات روائية نسائية من نوع أنا كارنينا (تولستوي)، ودوروثيا وماغي تولليفر (جورج إليوت)،وايما (جين أو ستن)، مصر بالتالي، هي أرض ولادتها ونشأتها وثقافتها ودراستها ودينها، أما بريطانيا فهي موضوع أحلامها وأرض در استها العليا وتفتح وعيها بالآخر ومراجعتها المشحونة لمجمل تفاصيل ذاكر تها في تاريخ أسرة عريقة (ترسم شجرتها العائلية في الصفحة الأولى من الرواية)،منعمة ومثقفة وتعيش أسلوب حياة أوروبيا في خلفية اسلامية وتقاليد أقرب الى أعراف وأخلاقيات الطبقة المتوسطة .
وآسيا التي تغادر الى بريطانيا هي آسيا المنتمية الى الجيل المصري الشاب الذي شاهد بطله الروحي والوطني عبدالناصر يقدم استقالته في اعقاب الهزيمة المريرة، وسقوط نظرية
"الاشتراكية العربية " وانتحار الحلم، وانفضاح وهم القوة والتحرر الذي كانت تغذيه أغنيات فايدة كامل (واته زمان سلاحي) أو أم كلثوم (أعطني حريتي أطلق يديه). وتقول آسيا وهي تنتحب أمام جهاز التلفزة أثناء متابعتها لخطاب استقالة الرئيس "ماذا فعلت بنا باريس ؟ ماذا فعلت بنا؟ حسنا، قد تكون مسؤولا،والمؤكد أنك مسؤول ولكن كيف سندعك تذهب وتتركنا؟ وماذا سنفعل بدونك ؟" (62). وبابتهاج تتذكر "الرئيس وهو يحضر حفلة لأم كلثوم، وبمرارة تتذكر حملة التطهيرات في الجامعة،ومعسكرات الاعتقال التي جعلت اليساريين والأخوان المسلمين يقفون في طابور واحد، وتتذكر صلاح نصر والمخابرات وأساليب التعذيب، ولكنها تعود الى السؤال الحائر: ولكن ماذا نفعل بدونه ؟ جيل لطيفة مرسي (والدتها) يفاخر بأنه استولى على جامعة القاهرة من يد البريطانيين عام 1952، أما جيل آسيا فهو ينكمش أو ينسحب ليلعق جرحه وليرتا بنفسا الى الجامعة البريطانية حاملا الحس المأساوي باستحالة الانتصار أو تجاوز النفي الحاد للذات وللتاريخ .
وفي برهة فاصلة من هذا الارتداد الطوعي تتساءل آسيا: "وماذا؟ ماذا بعد؟ سوف تفقدين فرصة الاقرار بقوة الذاكرة وسترين أن أحدا منا لا يستطيع الفرار من الماضي. وستدركين العذوبة الآسرة التي ستحاصرك بسبب الأشياء والبشر الذين فقدتهم الى الأبد. لماذا لا يتعلمون كل شيء عن هذا في اللغة العربية ؟ على الأقل سيكون في وسعهم حيازة مراجعهم الخاصة عن القرآن وامريء القيس وسيعرفون أن المرء حين يتحدث عن العام 1882 فإنه يشير الى عرابي والاحتلال وحين يتحدث عن العام 1919 فانه يشير الى ثورة سعد زغلول، سوف يتعلمون كيف يكون للطمة صوتها بحق السماء. ما شأنهم بالأدب الانجليزي، وما شأن الأدب الانجليزي بهم حتى يتلهف الجميع عليه هكذا؟" (452). ولكن آسيا تشخص حالة هي ذاتها بين أفضل ممثليها، بل هي التجسيد السيكولوجي – السياسي المتقدم لانقلابها من حالة استلاب ثقافي موضوعي الى حالة انشطار ثنائي يتوغل عميقا في أطوار الروح والجسد على حد سواء.
وهو انقلاب تحرص أهداف سويف على تقديمه في أكثر من صورة واحدة، هي الوفية لتقاليد الرواية الانجليزية الفكتورية عامة، واستراتيجيات رسم الشخصية المؤنثة داخل سياقات اجتماعية وسياسية عاصفة في رواية جورج إليوت مدلمارش Middlermarch بصفة خاصة .
1- صورة البطلة مراهقة،تكاد مدركاتها الجنسية تقتصر على أقاصيص من هنا أو هناك (مشهد صديقتها العروس الشابة وثورتها في وجه أمها التي تساءلت عن البقع الصفراء على الشراشف: "هذا مني زوجي. مني! مني! مني زوجي")، ومشاهدة عن سابق قصد لأشرطة بورنوغرافية في مكتبة صدقي الطرابلسي والد صديقتها وقراءة كتاب الشيخ النفزاوي الروض القاطر فضلا عن كاما سوترا والرسوم اليابانية والايطالية، واذا كانت مدركاتها محدودة، أو هكذا تقدمها سويف دون إيحاء بالعكس فان تفاعلها مع المحيط الأسري (علاقة الإبنة – الأم وأنساق تصريف النرجسية الطفولية الغريزية في شبكات معقدة من الاحتكاك بأفراد الأسرة والغرق في التفاصيل الحياتية اليومية ذات الطابع الروتيني والممل أحيانا) والمحيط الخارجي (الأحداث السياسية جوهريا، ثم الصداقات والجامعة والنوادي) يكاد يستأثر بالقسط الأعظم من خطوط تكون وعيها.
وثمة افتراض ضمني (تبرع سويف في تنفيذه سرديا) بأن الأحاسيس الجنسية ماثلة على نحو طبيعي في هذا الطور، ولكنها دفينة في القشرة المباشرة التالية لمستوى الوعي بالمحيطين الأسري والخارجي. انها – بسبب من هذا التراتب بالذات – لا تساهم في صناعة صورة بريئة أو محايدة لطور مراهقة هادئة، وتكاد تخلو من أية عناصر ومحرضات على إطلاقها في شكل سلوك جنسي مباشر. وفي نهاية الرواية نرف أن والدة آسيا اصطحبتها الى السجن لزيارة الخال المعتقل لأسباب سياسية، وهي لا تتجاوز 14 يوما من العمر. ونتذكر أن أحلامها المتمحورة حول السفر الى انجلترا اختلطت على الدوام باسترجاعات كثيفة لمشاهد منتقدة (بصفة شبه عشوائية من حيث المظهر. ولكنها منظمة من حيث المحتوى والوظيفة) للحياة الداخلية والخارجية، والسياسية العامة والاجتماعية اليومية، المصرية تارة والعربية طورا والعالمية هنا وهناك . وفي تحضيرها لامتحانات الثانوية العامة، تسترجع آسيا اتفاقات سايكس – بيكو، مثلما تسرد وثائق هزيمة 1967 واستقالة عبدالناصر.
2- صورتها راشدة ومن المدهش هنا أن سيرورات اكتشاف الهوية الأنثوية بقيت في حدودها الدنيا أثناء المراهقة،وهي هنا تمس تلك الحدود مسا رفيقا لأنها تتواصل في صيغة استيهامات غير معمقة وغير قاطعة، قبل تدشين العلاقة العاطفية الأولى (والأخيرة على نطاق مصر) مع سيف ماضي. هذه العلاقة هي الحقل الذي سيشهد توترات انتقال آسيا من طور مراهقة قصير وشبه رتيب الى طور رشد تبدو فيه باحثة عنيدة عن هوية الذات المؤنثة وحق الجسد في التفتح على قدم المساواة مع تفتح العقل والمدركات . وهي حقل خيبات الأمل في سيف الرمز والجسد في آن معا، لأن الذكر الذي كان يبدي الكثير من التعالي الثقافي والعقلي والسلوكي ويوحي بامتلاك درجة متقدمة من العصرنة والتمدن يرفض ممارسة الجنس مع آسيا قبل الزواج رغم أنه يصطحبها في رحلة سرية الى بيروت حيث يقيمان معا تحت سقف واحد في البنسيون ذاته.
لقد مارس على آسيا الكثير من الوصاية، وكان يختار لها الكتب والأغنيات، واختلى بها في الفنادق وعلمها شرب الكحول ولكنه في لحظة المواجهة الحاسمة مع جسدها أسفر عن مزيج من التفكير البطريركي التقليدي، والأنانية، والعجز عن استكمال نصيبه من الدائرة الثنائية لعلاقة – خطوبة تبدو طبيعية وصحية ومنطقية في مراحل تطورها. وأهداف سويف تقدمه في فقرة حوار داخلي مع نفسه إثر إعراب آسيا عن رغبتها في ممارسة الجنس معه، وتلتقطه متغطرسا ومذعورا ولائقا بالمعنى الرمزي لطرفي اسمه، السيف والماضي "أفزعتني. أفزعتني بإقبالها الريح، وتفاؤلها وإيمانها. هي أصلا، لا تعرف انها تمتلك هذه الصفات . إنها تعتبرها تحصيل حاصل . وكانت بصدق تظن أن في وسع المرء أن يكيف الحياة كما يشاء، وأنه اذا أراد شيئا ناله . كانت منفتحة للغاية، ضعيفة مستهدفة للغاية . لم تكن تعرف أي شيء، لا شيء على الاطلاق " ( 140).
3- صورتها امرأة – زوجة، ثم امرأة عشيقة في بقعة جامعية قارسة من شمال انجلترا، نأيها عن سيف ماضي (الذي يعمل لصالح المخابرات العسكرية السورية ويقيم بعيدا عنها بين دمشق وبيروت والقاهرة، ولا يزورها إلا على نحو سياحي) يفضي بها الى متاهة زميل انجليزي جلف وبراغماتي وشهواني يدعى جيرا لد ستون (أو جيرالد "الحجر" إذا شاء المرء متابعة الدلالة الرمزية للا سماء). ونحن هنا أمام عب ء الجسد العربي المؤنث كما وصفت معضلاته آسيا جبار، وكما تحاول أهداف سويف رصد خضوعه لتقاطع الثقافات والعقائد والميول والتواريخ . لقد مثل سيف ماضي الماضي المصري الذكوري التقليدي، الذي اقترنت آسيا به ولم تتمكن من التصالح معه مرة واحدة . وما دام قد رفض ممارسة الجنس معها حين كانا خطيبين، أو لأنهما كانا خطيبين على وجه الدقة، فان جسد آسيا يستعصي وينكمش وتعجز عن ممارسة الجنس معه حين يتزوجان .
هذا التفصيل المحوري الأهم في الرواية يتوزع على عدد من العنا هو التي تكونه وتعيد تكوينه وتفتح فضاءات دلالته أكثر من مرة:
أ – آسيا تظل "زوجة عذراء" رغم أنها تحمل من سيف بطريقة غامضة وقبل سفرها الى انجلترا، وتقرر الاجهاض لأن الجنين تخلق في سياق غير متكافىء، لا لشيء إلا لكي يثبت ما يشبه المال القسري الطبيعي لصيغة علاقة غير طبيعية، أو لم تصبح كذلك بعد، في غياب الجسد الأم – والجسد الأب بمعنى ما – أي عرف أمومي أو أخلاقي أو عائلي يبرر هذه الولادة الإعجازية العجيبة ؟ قرار آسيا هو ذهاب الى الحدود القصوى في تغريب الجسد في الصمت والفراغ، حتى حين ينتهي هذا الذهاب المأساوي الأقصى بالحزن على فقدان الطفل "طفلي، طفلي، إنها تشعر بوحشة بالغة، تشعر أنها فارغة، باردة في أغرار أحشائها (…) لكن قلبها يتألم أكثر. إنها تشعر بالأسى لأن الطفل المسكين يرقد الآن في كيس بلاستيكي، إنها تريده الآن " ( 282/.
ب – لا يفلح في تطويع جسد آسيا وانهاء عذريتها سوى جيرالدستون، ابن الغرب وسليل المستعمر الذي تصوره أهداف سويف على نحو بشع بالقياس الى شخصية سيف ماضي، ولكنها لا تملك حجب حقه في امتلاك الجسد ما دام قد امتلك قسطا كافيا من التاريخ والثقافة . وبين أذكى أقسام الرواية ذلك المشهد الذي يسبق وقوع آسيا في إغواء جيرالدستون، حين تهجس وهي تراقب رجلا إنجليزيا نموذجيا: "بسبب إمبراطوريتك يا سيدي جاءت في الثلاثينات عانس بريطانية في أوا سط العمر، قادمة الى القاهرة من مانشستر لتدرس الانجليزية، ووقعت في غرامها طفلة فوضوية في الثانية عشرة من عمرها، وعاشت وتنفست الأدب الانجليزي منذئذ، تلك الطفلة كانت أمي وها أنا زي هنا. ليس في وسعك التنصل من مسؤولية وجودي هنا، قرب نهرك، اليوم " (512).
ج – تدرك آسيا أنها إنما ترتكب الزنا الصريح، وتقولها وهي تحول نفسها الى استعارة وتتكيء على مرجعية التشخيص الروائي الأدبي ذاته أيام المراهقة: "لقد رنيت والتحقت بصف آنا وايما وانفصلت عن دوروثيا وماغي"، هي آسيا العُلما سليلة مصر والشرق الأوسط العاصف الموشك على حرب ثانية، والإسلام، والعائلة، التي تخاطب الامبراطورية وهي تذهب بنفسها الى غزو جديد يطال جسدها هذه المرة وليس بلدها: "لم آت اليك لأخذ فقط، ولم آت فارغة اليدين، أنا أجلب معي شعرا عظيما مثل شعركم ولكن بلسان ثان، وأجلب العيون السوداء والبشرة الذهبية والشعر المجعد، وأجلب لكم الاسلام والأقصر والإسكندرية والعود والدف والبلح والأقمشة الحريرية وضياء الشمس والبخور والطرق الشهوانية … " (512).
وبذلك تبدو شخصية آسيا في ذروة خضوعها لتوترات الهوية ما بعد الكولونيالية، بل إنها تطرحها على النحو العنيف الذي أشرنا اليه في البداية على لسان فران فانون . وهل من عنف أشد قسوة من التفصيل المتعلق بعجز آسيا وزوجها سيف ماضي عن ممارسة الجنس ونجاح الرجل الانجليزي الجلف في اختراق الجانب الأكثر حميمية في حياة زوجين شرقيين عصريين ارستقراطيين، متورطين عميقا في معطيات الحضارة الغربية لأن الزوج مختص بعلوم الكومبيوتر والزوجة تعد أطروحة دكتوراة عن الاستعارة في الشعر الغربي؟ هزيمة آسيا الأنثى تمت على نحو سياسي وايديولوجي في مصر الناصرية واستكملت فصلها الثاني بهزيمة الجسد أمام المستعمر السابق، في أرضه وتحت سمائه .
وماذا تملك هذه المحصلة الانثوية المهزومة في نهاية رحلتها الشائكة سوى العودة الى "الجذور" الى مزيج من مصر الفرعونية ومصر الاسلامية وهي تتأمرك بصورة شائهة على يد أنور السادات ؟ أهنا تتحقق حريتها، التي غادرت أصلا لكي تستكملها في الغرب وتعود بها الى الشرق ؟ أم أن هذه هي قيودها الجديدة ؟ أهداف سويف تترك أسئلة جارحة كهذه معلقة في فضاء التأويل وفي القرار العميق من سيكولوجية إغلاق الهزيمة، ولكنها تغلق الرواية (بعد 791 صفحة) على مشهد كثيف حافل بالدلالات: عثور آسيا أثناء رحلة الى صعيد مصر على تمثال لأميرة فرعونية دفن رأسها في الرمال كأنه يشير الى التحرر من أسر المومياء والخروج الى عين الشمس ومعانقة الأرض . وحين تتماهى آسيا مع الحضور الواقعي والرمزي والآسر للتمثال تتعال في أذنيها الآية القرانية ( نفخ في الصور فاذا هم من الأجداث الى ربهم ينسلون . قالوا يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون)
هي لحظة حافلة بالاستدعاءات التي تقفل خطوط الرواية، وها إن شخوصها تكاد تنتقل بأكملها الى مقبرة الأسرة في "مدينة الموتى" حيث يتولى قراءة القرآن الشيخ زايد (صديق الجد، والضمير المصري الأكبر سنا في هذه البرهة من تطور الرواية)، ونرتد معه الى بدايات تقديمه في الرواية "العائلة بأسرها تتحدث عن مقدار قوته حين كان شابا. لقد علمهم السباحة جميعا، وكان يقفز وهو يحمل العديد من الصغار. ثم وقع في غرام تلك المرأة نصف المغربية الفاتنة للغاية، الساحرة بطريقة بربرية بعض الشيء، والتي لم تقبل به لأنه لا يرتدي الثياب الأوروبية وهكذا خلع ثيابه الصعيدية وارتدى بزة من أجلها …" ( 0 20) إنه الشيخ المعمم اليوم، الذي يتلو القرآن ويربط الموتى بالأحياء، والذين جربوا الهجرة الى الهوية بالذين حافظوا (أو تخلوا عن ثم ارتدوا الى) الهوية .
لكن اللحظة لا تخلو من أمثولتها الموازية في التاريخ الثقافي – الاستعماري الانجليزي والتعقيب الختامي في الرواية تتصدره ثمانية أبيات من قصيدة الشاعر الانجليزي رود يارد كبلنغ Kipling «أغنية الأطفال العقلاء» تقول سطورها الأخيرة:
سحر جوانب الطريق ورقى العتبة
سرعان ما ستبطل ما فعله «الشمال »
بسبب الأبصار والأصوات والروائح
التي فرت مع شبابنا في عين الشمس .
وآسيا قطعت مشوارها في تواتر ثقيل من عناصر الوطن (النشأة، اللغة العربية، الاسلام، السياسة، الشرق، التاريخ العاصف للعالم العربي بعد هزيمة 1967) وعناصر الرحيل بعيدا عن الوطن (ثقافة الغرب، قيمه، جسده الغاصب الطاغي). ذلك وضعها على عتبة الرقية السحرية لكائن أنثوي مزاجي، هستيري، مرهف، نرجسي لكنه شديد الصلة (شاء أم أبى) بتلك الحقائق التي ستبطل مفعول سحر الشمال عند أول خطوة في مشوار اختراق الصمت والعودة الى الجنوب، الى عين الشمس .
وفي درسها الجامعي الافتتاحي تسأل أهداف سويف طالباتها عن سبب اختيارهن دراسة اللغة الانجليزية، فتقول احداهن "لكي أتعلم لغة أعدائي" وتطرق أخرى محجبة فتسأل آسيا عن سبب صمتها فترد زميلة لها قائلة: «لأن صوت المرأة عورة ». القول (باللغة وعن اللغة) هو عورة كالجسد الذي نفي أو نفى ذاته في مشوار البحث عن هوية حرة منطلقة متكاملة لشخوص مدفونة طولانيا، على الوجه، في رمال التاريخ أو كهوفه، تحت وطأة انبعاث الوثيقة واحتقان الذاكرة وهيمنة التاريخ، انه المشوار الذي اعتبرته آسيا جبار "جرحا عميقا ينفتح أخيرا، وبالتدرج ليحرز أغنيته "، وفي الحب الفانتازيا وصفت حالة اللواتي يواجهن ذلك الجرح على نحو شبيه بالتمثال الفرعوني المدفون في الرمال: "والنسوة يتقدمن كأطياف بيضاء وكشخوص مكننة مدفونة طولانيا، لكي يمنعني من القيام بما أقوم به الآن . أي منعهن من إطلاق عواء الرجع الدائم تلك الصرخة الضارية البربرية، والراسب المروع لقرن لابد أن ينصرم ".
اشارات:
1- هذه الدراسة نهضت على ورقة قدمت في ندوة " نساء كاتبات" والتي نظمها ملتقى أورون بالتعاون مع «بيت ثقافات العالم » في برلين أواخر شهر أيلول (سبتمبر) وهي هنا صيغة معدلة ومطورة من حيث الحجم وبعض الاعتبارات المنهجية والشكلية التي تقتضيها ضرورات
النشر في دورية، بعد أن كانت الورقة معدة للتلاوة في ندوة، وغني عن القول إن خيارات المقاربة والأفكار الأساسية بقيت على حالها جوهريا .
2- للمزيد من التفصيل حول نظريات الخطاب ما بعد الكولونيا لي، انظر دراستنا "الخطاب ما بعد الكولونيا لي في الأدب والنظرية النقدية المعاصرة " في كتاب دليل الناقد الأدبي، د.هيجان الرويلي ود. سعد البازعي (1995، فهرسة مكتبة الملك فهد الوطنية، مكان الطبع غير مذكور) وهو بصفة عامة، مرجع ممتاز وفريد من حيث حداثة مادته في اللغة العربية .
3- من الطبيعي أن يتأثر موقف آسيا جبار الاجمالي بأحداث السنوات الأخيرة في الجزائر. بيد أنها في الواقع تذهب أبعد مما يحتمله الضغط الطبيعي لتلك الأحداث (على عمقها وما أضفته من تحولات في بنية علاقة المهاجر – والمهاجر اللغوي تحديدا – بالوطن وباللغة الأم). في حوار نشرته صحيفة لوموند بتاريخ 28/ 4/1995، تقول جبار: "تنتابني رغبة في تسليط ضوء الشمس على لغة الظل التي هي عربية النساء. ذلك لأن كامل دراما الثقافة الجزائرية تنهض على هذا السبيل في إقحام لغة رسمية ووحيدة هي عربية السلطة، وسيط الايديولوجية المرتدة ". وعلى لسان جبار تقتبس الكاتبة ماريون فان رانترغيم ان "العربية الرسمية هي لغة الرجال ". وينبغي على الكاتب أن يقاوم بوسيلة استخدام لغة اللهجة "غير الرسمية وغير المشفرة " اي "لغة الظل" التي قد تكون مزيجا من البربرية – الليبية ولغة الجسد «حيث وسيلة النساء الى العثور على الهوية من جديد».
4 – في مراجعته لرواية أهداف سويف ناقش إدوارد سعيد هذه النقطة وقارن بين الأدب العربي الذي انتج وينتج بالفرنسية (كاتب ياسين، عبد الكبير الخطيبي، آسيا جبار، جورج شحادة، إتيل عدنان، ناديا تويني…) وذاك المكتوب بالانجليزية وترك التساؤل معلقا حول الفارق في الكم – وربما الكيف – بين الأدبين أنظر:
Said Edward. "The Anglo – Arab Encounter," TLS, June 19, 1992. P.19.
المراجع
1- Bhabha Homi (1985): “Signs Taken for Wonders: Questions of Ambivalence and Authority under a Tree Outside Delhi, May 1817,” Critical Inquiry, 12.1
2- Dijebar, Assia (1985): L’Amour, la fantasia J.C. Lattes, Paris.
……(1986), Nawal al-Saadawi: une voie a Lenfer, Lrad, Assia Djebar, des femmes, Paris.
3- Fanon, Frantz (1970): Toward the African Revolution, trans, Haakon Chevalier, Harmondsworth, Penguin, London.
4- Memmi, Alber (1967): The Colonizer and the Colonized, trans. Haward Greenfeld, Beacon Press, Boston.
5- Murdoch, H. Adlai (1993): “Rewriting Writing: Identity, Exile and Renewal in Assia Djebar’s L’Amour, la fantasia, “ Yale French Studies, V 38.
6- Said, Edward (1978): Orientalism, Routledge, London.
7- Soueif, Ahdaf (1992): in the Eye of the Sun, Bloomsbury, London.
8- Spivak, Gayatri Chakravorty (1988): “ Can the Subaltern Speak?” Marxism and Interpretation of Culture, Cary Nelson and Lawrence Grosbeng eds., Chicago, lllinois U.P.
صبحى حديدي (كاتب ومترجم من سوريا يعيش في باريس)