كيف تتمتع شجرة واحدة بهذا الثراء العجيب
الذي يصل في وفرته الى حدود الوهم!!
استطاعت النخلة أن تبرهن على أنها الأكثر عطاء دون سائر الأشجار، فهي الى جانب سخائها الذي لا ينقبض على مدارا لعام، تحتوي على اشتقاقات انتاجية كبيرة، حيث تشكل – على هزالها الظاهر- مصنعا بشريا لا نظير لتنوعه بين المخلوقات الخضراء، فلنتوقف مثلا عند حدود السعفة، ولننظر الى بحر الأيادي التي تركض فلفها، وكيف ينتفع بأخضرها ويابسها.
فبداية من التشريط الذي يعتبر أحدى مهن البيدوة الأساسي وانتقالا الى الظفر أو السف _في مشهده الجماعي الحميم _ متهاطلا من بين أصابع المسنين في دائرة أحاديثهم وتشنجاتهم (1) التي لا تدور بعيدا عن النخلة وشؤونها، ثم ما يرصد ذلك من تنويع هندسي يعكس فجوات الحاجة المتعددة التي استطاعت النخلة أن تسدها على مدار حياة الريف العماني، فالأجربة بأحجامها المختلفة وبنوعيها.المفتوحة (القفر) والمغلقة (3) (الضروف )، والمضفورة بمهارة وقوة تعص عن اختراقها والعبث بها أكثر أشعة الضوء سطوة ونشاطا.
وهناك الجبب أوعية السعف الصغيرة التي يتأرجح بها الأطفال والصبايا حديثات الزواج في التواءات الظهيرة والغروب باحثين عما تسقطه الريح في، الأرض من بلح وخلال (4).
لذا يمكن رؤية هذه الأواني بأحجامها المختلفة منتشرة بين مسالك الأحواش ومرابض الماشية (5) أو معلقة في نتوءات الأشجار وكرب النخل.
وهناك ضفائر أخرى لا تقل أهمية (6) يمكن اشتقاقها من السعف فالسمة
تلك الرقعة الدائرية المتفاوتة الأحجام، لا معنى لعدم وجودها في مناسبات الولائم والذبح في الريف العماني وحبال طلوع النخل من أهم اشتقاقات السعف وأكثرها مرونة في هندسة الشكل واتقانه، لدورها المصيري في توثيق حياة طالع النخلة المعلقة في فجوة هلامية بين رأس النخلة والأرض.
وهناك الدعون (7) مرابض النوم الضحية، التي تجمع سكان البيوت فوق
أسطحها المعلقة والقريبة من ترددات الريح ونسائم الليل يرطنون الأحاديث الخافتة الى أن تغشاهم سحب النوم.
الى جانب قائمة أخرى من المشتقات التي تبرهن على سخاء جانب واحد من
تكوينات النخلة وهو السعف، فهناك الملاهب (8) بثقوبها البارقة بوميض متردد وهي تموج أمام الوجوه المعروقة والنظرات الساهمة في المدى القائظ، والمجامع (9) المسنونة في أحزمة من العصي توجه انحناء السقف في وجه نثار النفايات المبعثرة فوق الأحمرة المصنوعة بدورها من السعف. والمباخر (10) التي تتمايس سيدة لساحات الأعراس وموائد البخور بدخانها العطري الكثيف الى جانب الشتوت(11) والمناسف (12).
كما ساهم السعف في ترحب الأنواع المختلفة لأفرشة الجلوس والتحميل في الحيوانات مثل الاثواج الاأحلاس (12) والتي لا بد منها لاناطة دور عملي للحمير. واذا توقفنا عند هذه القائمة من الاشتقاقات الصناعية التي يوفرها السعف وحده وانتقلنا الى أحد النتاجات أو الزوائد الخارجية للنخلة وهو الليف ذلك اللحاء البني ذو القسمات المجروشة. المترددة بين التشابك والانفراد، لنجد تعددا غير هين للوظائف، فمن هذا العنصر يمكن استصناع أحجام مختلفة من الحبال يرى لتنوعها وكأنما اشتقت من منابع مختلفة وليس من ذلك اللحاء الذي لا يلمح لهامشيته، فمن الاستصناعات التي توفرها مادة الألياف الجواني أو الأشوال بأحجامها ووظائفها المتباينة والحبال بأنواعها الكرار(14) والصواع (15)، والموارد (16) ومقاود أخطمة الدواب، الى جانب دخوله في الكثير من الصناعات اليدوية كالحصائر الحبلية وأغطية المنازل السعفية وغيرها.
واذا توقفنا عند الكربة، فإننا نجد بجانب وظيفتها الطبيعية الظاهرة وهو اعتمادها كمسند لتسلق النخلة حيث توضع أصابع القدمين فيما اعتلت وتوثقت منه أصابه اليدين، نجد هناك وظائف أخرى، فالكرب يعتبر مادة فعالة للتدفئة، والطبخ وتسوير جداول الأفلاج، ويمكن أن يثبت كوتد مصقول في صدور بيوت الطين، وكل هذه المعطيات والمشتقات المذكورة آنفا، تبين على أن الثمرة ليست هي المحطة المباشرة والأولى للقطاء، فرغم ما توفره الثمرة من متوالية انتاجية متعددة فهي لا تشكل إلا جانبا ضمن هذا الدفق العجيب.
حيث نجد في الثمرة نفسها تنويعا وتحولات يعسر حصرها، فيمكن ملاحظة في واحة صغيرة من النخل عدة أنواع من الثمر تتضارب في أحجامها وألوانها وطعمها، ولكل نوع منها قيمة خاصة ومذاق مختلف يميزه ويفرده، رغم ما يشترك فيه من سقي وتسميد (17) واحاطة وطقس.
فالثمرة بمجرد ما يكسوها الصفار ويبدأ بالزحف الى قشرتها الخارجية،
تجمع في مراجل ضخمة وتفي الى أن تلين وطفر حلاوتها فتكتسي طعما لذيذا يتسابق الناس الى تذوقه وهو ما يعرف بالفاغور (18)، ويأتي كإحدى المراحل التنويعية في التصرف بالثمرة، وعندما تترطب قشرتها بعد ذلك وينتصفها الشحواح (19)، فإن المجالس تتبارى ال الاستحواذ عليها، وفي هذه الاثناء لا تتوقف أيادي الخرافين عن طفها، فترى مسالك الواحات عامرة بالصواني والحبال، وتدب بحركة لا تنقع والاهفال الذين تمور بين جوانحهم الفحولة يتناهون متسلقين الاثداء الصفراء والحمراء يساعدهم في ذلك العجائز بتحريض مبحوح وأعين مغمضة.
أما حين يفي الشحواح الثمرة بأكملها، فإن في ذلك إشارة عر اقتراب موسم الجداد الجماعي، هنا يمكن رؤية روح التعاون في أوج عظمتها حين تتوافد العائلات في فرح ونشاط يموج بينهم الضحك والفكاهة وتطو النداءات.
وما يتم جنيه فإنه يجمع في أوان وأحمرة واسعة ويتم تنقيته من الخشاش
(20) الا وشاب، فيعزل ما يلين منه ويكنز في أجربة وصفائح إما موضعا، أو منثورا أو مدلو كا(21) مما يضمن استمراره هول أيام الشتاء في دورة لا تعرف الصمت. الى جانب إمكانية استخلاص مادة العسل من القمرة نفسها، فبعد أن يفصل التمر عن قمعه (22) ونواته، يصب في قدور ضخمة ويترك أياما طويلة حتى يتماهى ويتحول الى سائل غليه يقترب في هيئته من عسل النحل البري.
وهكذا فإن البلحة تتدرج في فوائدها ويتحول كل شيء فيها الى مادة صالحة في حياة الريف العمانى، فالفلحة أو النواة مثلا تتحول الى وجبة فاخرة للماشية وخاصة البقر الحلوب منها، حيث يمكن صناعة طبق المغبرة وهي مزيج من مدقوق النسوى والبرسيم والقاشع(23).
بل إن الفاعلية الانتاجية للنخلة تستمر حتى الى ما بعد انحنائها وموتها، حن تعتمد جذوعها كمادة صلبة وفعالة في بناء بيوت الطين، حيث تستعمل كوتد لتقويم الزوايا أو تجرش وتقطع ويتم خلطها بالطين لصقل سماكته وغلظته، أو تعمد فوق أحواض تصريف المياه كنواعير تحركها الدواب، وكل ما ذكر دلالة على ثراء هذه الشجرة وشساعة مواردها، فكل جزئياتها قابلة للانتفاع الفوري الى الحد الذي لا تترك فيه آثار تكنسها الرياح. ثم أن التعقيد والتشابك الذي نواه في تكوين الأفلاج وشقها وتصريفها والتواء مجاريها(24) يقابله تعقيد أشد في عملية توزيع الوظائف والقسمة من المياه وما يرصد ذلك من متابعة وحرص وأيد بانية(25).
وهكذا تظل النخلة كائنا محكما في غموضه وكثافته، في شموخه (26) وتواضعه.. القلب الذي كان العمانيون يشدون نياطه الشاسع في دأب مؤرجحين حياتهم بين ظلاله في أفراحهم والعابهم(27) واعراسهم وماتمهم.
الهوامش
ا – تضطلع النخلة فى تحديد أمزجة المحيطين بها ومدى انسجامهم النفسي والعصبي، فرخاؤها وتوافر حاجاتها يعكس رخاء أهلها ووضاءهم بينما جفافها ومرضها معني تبرمهم وتعبهم، ففي سنوات المحل المتقطعة يكون الناس في أوج توترهم وخلوقهم كأنما أصابها الجفاف يظهر ذلك من نبرتهم الحزينة حين يتحدثون عن النخلة وجفافها، وحين يصيبها مس فإن وجوههم تشحب وتموج بظلال الخوف والترقب ويتحدثون طوال الوقت وبنبرة منكسرة عما أصاب النخلة، بينما في حالات السخاء والفيض تتهلل وجوههم ويموج بينهم النشاط والفرح ويتحدثون _ طوال الوقت كذلك _عن الخير الذي يستشعرونه تحت ظلالها.
2- القفير هو أكبر الأوعية السعفية المفتوحة حجما، وتسمى مجتمعة باسمه، ويناط لكل منها دور في التحميل والجمع ويمكن حصرها حسب حجمها في المتوالية التالية :
قفيرــ مبدع ــ زبيل ــ مخرافة ــ جبة
وتمتاز الجبة بالخفة والدوران وخلوها من العصمين أو الاذنين المستخدمين
كمماسك.
3- الضروف : عتل معفية تستخدم غالبا في تخزين التمر وحفظه وهي غير قابلة للتفريغ اليومي لتركيبتها الطولية، يسمى أكبرها في الحجم بالوضيع (بحذف الألف وضم الواو) وأصغرها يسمى الساعنه
(بشد النون )، ويمكن حصرها حسب حجمها في المتوالية التالية :
وضيع ــ جراب ــ ضميده ــ ساعنه ــ
4- الخلال : هو المرحلة الثانية من مراحل الثمرة في طريقها الى النضج :
عجنجيز ـــ خلال ـــ بسر ـــ رطب ــــ تمر
5- في انتشار هذه الأوعية بين مرابض الماشية دلالة على أهمية الجني المسائي كغذاء يومي للحيوان، حيث تلقي الجني مكانها بعد أن ترتفع أمام أفواه المراثي، وذلك لسهولة ايجادها وتوفير البحث عنها في المساء التالي.
6- السمة : حصيرة معفية تنقسم الى أحجام وسميات حسب الدور والوظيفة ونذكر منها. أ – سمة خباط : توضع تحت الأشجار المراد خبطها خاصة شجرة النبق، والأشجار الشوكية التي تنفض في مواسم جني الجراد.
ب – سمة عزاف : تستخدم غالبا كسفرة لتقطيع اللحم والأكل.
ج – سمة المنظف : تستخدم كمصلى.
7- الأعن أو السجم : سرير سعفي واسع، يركز في أحواش بيوت الطين، ويلخص تركيبه جل مكونات النخلة من أخواص وجذوع وألياف، ويتوافق موسم جني النخلة مع أعلى درجات الحرارة في العام، ليعكس بالتالي مدى انسجام هذه المشتقات مع هذا الفصل القائظ ومقدرة عقلية الريف على توظيف هذه المواد مع حاجتها للتحايل على قيظ هذا الفصل وما توفره النخلة في سبيل ذلك.
8- الملاهب : مراوح هوائية مصنوعة من السعف.
9- المجامع : أحزمة معفية مسنونة الأطراف بخوص طري، تمتاز بخفتها في كنس الأرضيات.
10- تشبه المبخرة في هيئتها سلة معفية مقلوبة الشكل، ومعمدة باربعة قوائم رفيعة، توضع كغطاء لمجامر البخور وتقوم بتوزيع الدخان في أوسع رقعة ممكنة من المكان المراد تعطيره.
11- جمع شت : أغطية معفية متفاوتة الأحجام ومزدانة بنقوش وألوان محدبة قليلا من أعلاها وتنتهي بمقبض يدوي، يغطي بها أواني التمس والطعام، كما تشكل رادعا فعالا لهجمات الدبي والذباب.
12 – جمع منساق أو موخل : غربال سعفي حوافه مائلة الى الأعلى يستخدم في تنقية الأرز والحبوب.
13- الأثواج والأحلاس : أوعية معفية مثنية بين جانبي ظهر الدابة، ينتهي كل جانب منها بجيب واسع يساهم بفعالية في حمل المؤن والأثقال.
14- جمع كر : وهو الحبل الذي يتبع الدلو أو المنزفة في طريقها الى قاع البئر.
15 – جمع صوع : وهو مادة ليفية تدخل في تركيب حبل الطلوع المكون من (الاذنين، الصوع، الكفة ) وهو بمثابة الركيزة من هذا الحبل.
16- جمع موراد وهو الحبل الذي يظل منتصبا طوال فترة الجني، ويسحب
بواسطته وعاء الخرافة ممكنا في هبوطه خاويا متراقصا في صعوده.
17- أصحاب العدد الوافر من النخيل يعمدون _ من أجل تعجيل فترة الجني أو ابطائها – الى استخدام نوعين من السماد:
أ – السماد الحار المعد من روث الغنم والذي يساهم في تعجيل نضج الثمرة لطبيعته الحارة الدافعة للنمو.
ب – السماد البارد المعد من روث البقر، وتساهم طبيعته في إبطاء نضج الثمرة وتمديد فترة وجودها. وبهذا يستطيع ملاك المساحات الواسعة من النخيل قبض زمام البشارة عن طريق تسميد الحار وسد ثغرة النقص والحاجة التي يوفرها سماد البقر بمقعوله البارد البطيء مما يضمن وجود الثمرة الى فترة متأخرة من القيظ.
18- يجمع البس بلونه الأصفر الخشن في مراجل ضخمة مليئة بالماء ويترك هكذا فترة من الزمن الى أن تتضح حلاوته من مسام الثمرة وتلين خشونته، وبعض أصناف البس لا تصلح للتفغير مثل بسرة الفرض، وبالمقابل فإن بعضها هو الأكثر قابلية ومرونة للتفغير كما هو الحال في بسرة المبسلي الممكنة والسريعة في تحولها.
19- الشحواح : هو القشرة اللينة التي تزحف الى القمرة في مراحل نضجها وعندما تكسوها الى منتصفها تسمى رطبا، وعندما تغطيها كاملة تسمى تمرا.
20-الخشاش : هو الهش من الملح وغالبا ما تلفظه النخلة من رأسها الى الأرض إثر كل هزة ريح عابرة.
21- يكنز التمر في الأوعية على ثلاث حالات :
أ – موضعا : مصفوفا باتساق، كل تمرة بجانب الأخرى.
ب – مدلوكا : تفصل خبات التمر عن نواتها وتدمك بتماه تام حتى تصبح عكة متماسكة.
ج – منثورا : مصنفوفا كما اتفق.
22- القمع : الغطاء الملتصق برأس القمرة.
23- القاشع : أنواع من السمك صغيرة الحجم، تجمع بكميات ضخمة وتجفف تحت الشمس، وتلمح بجلاء أمام بيوت الصيادين ببريقها الفضي الساطع.
24- يراعى في تسوير الأفلاج موقع النخلة بشكل أساسي وقد يضطر أحيانا الى إمالة وتعريج جدول مستقيم لأن نخلة ما اعترضت طريق بنائه، وأحيانا مسافة صعبة الى أن يأخذ استقامته مرة أخرى لذلك فإن خط الأفلاج لا يسلك مسلكا مستقيما إلا في حالات معينة كأن يبني في أطراف الحقول أو على مشارف الأودية.
25- يمتاز أهل الريف بالمقارنة مع غيرهم من سكان الصحاري والسواحل باكتظ شهم الذاتي وقلة هجراتهم – فيما مضى- للبحث عن عمل، ولم يكن سبب ذلك في رأيي سوى ما كانت توفره النخلة من شروط الاصرار والبقاء، وفي هذا دلالة على أنه لم يكن هناك مجال واسع للبطالة تحت كنف النخلة فلابد وانها ستقطع له من جسدها عملا يعتاش عليه.
26- من المفارقات المؤلمة أن بعنى البيوت الخرسانية بدأت تزحف الى الحقول على حساب البيوت الواطئة والتي رغم بساطتها إلا أنها بنيت حسب متطلبات المناخ والهواء واصغاء لنغم الطبيعة وحاجتها، الى جانب انفتاحها واحتضانها للنخيل ومسارح الحيوان والدجاج، بينما البيوت المستحدثة تمتاز بضخامتها وعلوها واحكامها فنرى النخلة إثر ذلك منكسة الهامة ونتوء بحزن ثقيل.
27- من الألعاب العديدة التي توفرها النخلة لعبة العصا، وتبدأ باقتراع الفتية على أحدهم ليلتقط العصا التي ستطير عنه مرتعدة الى أبعد مسافة ممكنة، وعندما يصل الى مكانها يكون رفاقه قد اعتلى كل منهم نخلة وصعد الى رأسها بأتى قوته، وكل من يتأخر في الصعود فإن العصا كسعه في رجله ليردد عبارة (عني وعن وباعتي) أي أن اصابتي هذه تساوي إصابة جميع رفاقي فينتكسوا هابطين ويبدأوا باللعب من جديد، وأفطن. الفتية من يختار لنفسه نخلة طويلة تكون مصدرا للمنافسة من الجميع ولا يستطيع حامل العصا مجاراتها، ويستمر الفتية في لعبهم وجنونهم العذب الى أن يغشاهم الظلام.
محمود الرحبي (كاتب من سلطنة عمان)