الوجدان الخاوي يبدأ بأكل نفسه، هذه الشارة، قد تنطبق وبشكل كبير ومكثف على الخواء الفكري، الاصيل والعارض. والمقصود بدقة، الوهن الشديد الموقوت للفكر، حيث تغوص عميقا في لجةٍ – هاويةٍ شديدة السكينة والهباء.
«تشعر» [علينا استخدام هذه المفردة «الشعور» بالكثير من الحيطة والحذر، لان دلالاتها النفسية غير متوافرة…، أي ليس لها ما صدقات بالمعنى المنطقي].. وأنت تخوض وتغوص في هذا الخواء العظيم بغبطةٍ تتسلل وتنخر.. وهي تتدفق من ذاك «الشعور» الفطري الدفين المعجون بالحاجة الى السكينة والهدأة غير المتكئة على أي من التنظيرات.. ففيها ذاك الخدر والكسل اللذيذان .. الخدر المشتهى والمعافى من كل ضرائبه ومصادراته التي يستدعيها، عادة، تأمل الوهن والكسل الذي ينتج التثاؤب وينسج اليباس.
– لنحاول «فصفصة» المشهد المركب الآن/ هنا:
– أنت محاصرٌ كعنكبوت لا يجيد النسج، تترصدك العيون، تناورك المتاهات المدججة، تقصف في صميم نسغك، وتصرعك الشعارات، تشتم دماء العذارى مسفوحة حولك.. على شمالك.. وعن يسارك الأقصى، تدوّي طيور المعدن في فضاءاتك مرحة.. مستبشرة تقاعدنا.
تركن وتسترخي بدعةٍ في «حبسٍ» مشيدٍ على تخوم المدينة – الذكرى «مسقط نسغك»، وقد تكون مسقط كل الكرامات المتبقية.. انها مدينةٌ شهباء.. حيث صدثت ألوان الليل والغيب فيها…
تحدجك وجوه.. ضحكاتٌ قادمةٌ من متاحف العفن.. انهم أسياد المرحلة العاقر.. انهم حثالة القاع.. حيث المدينة قاعٌ لا غور له. وجوهٌ لا ملامح لها.. ضجيج يبعثر الفراغ.. يخلخل الأفق.. انهم ايقونات متحركة! هل هي متحركة فعلاً؟! أم أنها ظلالهم؟!.. هل يمتلكون ظلالا أيضاً؟! اسئلة تتنسل لتنبئ ان الخدر لم يستحكم وان الدعة عارضة، وان ينابيعي لم تتصحر ولم تتناثر وتتيه في أروقة الشرايين والأوراق .. وان الغبار.. التكلس قد تلوى ونفذ من ثغراته التي نحتت وألهبت كل هواجسها.. ومع كل هذه الملاحظة التي ترمم النبض:.. أراني مسالماً وبحاجةٍ وثنيةٍ الى الحوار الذكي.. والآخر.. وليس إلا الوهن!.. ليس إلا الذاكرة التي لا عمل لها غير العطالة والتقاعد مثل خثرة شديدة الوطء..
ورغم لزوجة الأوكسجين والتقنين الحاصل.. رغم كل الوجوه والعيون المنحوتة من معدن وقناع يتيم «فعلى أي جانبيك تميل».. ورغم كل السخط الراكد في الأعماق، والذي أتنسم جذوته كالصندل.. أو كالحور العتيق، ورغم كل المؤامرات التي أنحيّها عن قارعة القصيدة.. ورغم كل الليل – الذي أحدجه من نافذتي.. الصغيرة – وتفتقاته ولمعانه الوثني الذي ينتشلني صوب وجهٍ شامي بعيدٍ، برق جوار ابن العربي.. وتثنى بميسمه مثل هديل السماح، فانني أشعر عميقاً بوميض عتيق] ينبعث بأضلعي.. أشعر بفزاعات تركض وتتهادى في صدري.. أرصد هطلاً يوشك على الطوفان.. أنبضُ انفتاقات تتبعثر مزناً تندلع من أخمص الرأس.. أقصدُ جذر التلافيف وأس البحث واللهاث المتربع مثل عجينة من لحم ودم. أتحول كومه هائلة التوثبات.. تتفجر السماء.. الغيمُ بصواعق مريبةٍ.. أتجدول، أعانق نداوتي.. أكون صنوي لأبرق أحوالي:
مصل الحواس:
– الارتيابُ الأكبر المعجون دهشة كسولة باهتةً انني ومنذ حفنة هائلة من الأيام، (أيام لم تكن طويلة أو قصيرة، ممتدة بسيولةٍ.. أو متثائبة، بل ربما لم تكن الأيامُ زمناً!.. ربما كانت من طراز شيء غريب.. لا اسم واضح له إلا أنه شيء.. ليس بالكتلة أو الهلام.. وليس التناثر سمته.. انه هكذا.. معبأ في جيوبي.. أفركه كسبحة الميلاد.. آناً تلو آن. انه كائن حي.. أراه في الأخاديد الجديدة التي نحتت تضاريسها في ملامحي.. في كل مسافة من وجهي وذاكرتي.. انه شيء أقرب الى التذكر.. أقرب الى صوت بعيد يتناسل غتمة.. ضوءا).
أقول.. منذ حفنةٍ من الايام لم يقتحمني شعور عزيز ما، أقصد حالة فرح ما.. حزن ما.. كنت مثل؛ بل؛ فقاعة تتدحرج دون اثارة ما.. (من الجبل في الجنوب.. الى الشام.. الى حلب..) فقاعة هباء تمسد الغبار بهمسٍ أو دونه.. فقاعة لم تدرك مفهوماً او سمتاً لوجودها في مكان «المحايثة الوجود في مكان» كنت أعبر الامكنة والوجوه الكثيفة مثلما أعبر نبضي ككائن حيادي عن أي شيء حيادي ايضا، هكذا.. فقاعة… او تلاويح غيمة صيف تعبر قعر الظهيرة والقيظ .. انها فقاعة السراب.
جدولة الكارثة
«سراب»! .. غريب كم هو جميل ومغرٍ ايقاع وتركيب كلمة «سراب»!.. كنت قديما احلم بامرأة طفلةٍ وأسميتها سراب.. يا للسحر والدحرجة الجديدة!.. وكأن اللاشيء العظيم يزخرف ويزين ويعوض وجوده الوهمي الافتراضي من خلال وجوده اللغوي وسطوته الجمالية الايحائية التي تبهرج الروح وتصنع لها العلو المشتهى، وهذا ما اراه متطابقاً والقصيدة؛/ وشم أصيل لاشتقاق معنى ما للشعر وضروراته ووظائفه../ «انه السراب المطلق.. العلو المطلق للروح وفسيفسائها البراقة.. المتوثبة الوهج، ان التجاوز للذات والعلو المستمر بها هو البعد السري والأصيل لكينونتنا في ابتعادها عن اليباس واقتناصها السراب الخلاق للروح وزخارفه اللغوية- الروحية العصية على الترجمة.. انه النبض متباهياً بغزارته الموشاة بالرقص المؤسس للجسد الذي يحفل بالنداوة.. معششاً القصيدة.. مقترحاً آفاقاً بكراً للكينونة المشتهاة.
«سراب».. لنرى الآن، والى نفس المعنى البدهي الأخاذ «المكان غير الموجود» في احتمال آخر ولغة أخرى.. كم نشعر بأحاسيس وخيالاتٍ مريبةٍ تنسجها طموحاتنا في القبض على المستحيل، غير المرئي.. وغير الموجود ضمن مداركنا المحدودة.. المحدثة عرضاً.
لنتأمل ايقاع ألـ«يوتوبيا» وكم ورطت الحالمين الذين لن يقنعوا إلا بالحصول على ما يصوره الخيال.. لسخط ووضاعة في تكوين الموجودات الملموسة اليابسة المحنطة.. وأقصد الموجودات المشتقة من التكوين الانساني ونظامه القيمي المتخثر.. ولا أقصد الموجودات الطبيعية وافتراقاتها عنا في نظمها وفطرية حضورها.
وربما كان الخيال واحتمالاته العميقة في اقتراحاته وتصاويره هو أس الابداع وجذره، وعلى رأس الهرم التجليات الشعرية والتصويرية.
.. لنرى الآن الى «هوميروس»، ورغم حرصنا على وجوده لأنه يقرب «المثل».. فانهم يخربون علينا من خلال عمائه.. ومن خلال الشك في وجوده. فالوجود للعابر والزائل فقط.. وكأنه غير مباح للانسان «هوميروس» هذا العلو في الرؤى والاقتراحات.. وهذا السراب الكينوني اغراء آخر للصبوة ومفازة بكر للعلو!.
كذلك «سقراط» يحاولون محوه وأسطرة كينونته.. حتى ان الجمهوريات او المدن الفاضلة تبدو كبديلٍ أصيل يقبع في مغر الادمغة وخيالاتها العصية على التخمين..
ويبدو أن تحييد الكائن واقتراحاته «الكائن المتعالي» قد يمنح.. وهو يمنح الشعر والتصوير دماء طازجة لتصنيع سراب جديد ومشتهى.. يوتوبيّات وجناتٍ وفراديس تمحي بمجرد حضورها، وهي شرط وركيزة أساسية لحضورنا الوثاب..
وليس من تناقض!.. لذلك لن تغريبنا الآلهة بوجودها لاننا لن نتخلى عن سرابنا.. قصائدنا.. ولن تُلهب جهنم إلا خيالاتنا في تصعيدٍ مستمرٍ للغة واللون. وفي الاقتحام اللامتناهي لبساتين السماء واقتلاع خضرتها وأعشابها وتفاحها وعصافيرها المذهبة وترساناتها العذبة ومطازجتها في اقتراحاتنا العظيمة اللوثة.. وتخصيبها في جلجلة المعري، وفي حقول «فان غوغ» وسنابله المندلعة من حرائق عينيه اللتين تتفجران لوثة من ذهب ويباس.. كذلك تتفتق من الغي المؤسس للوعة والجمال العميق الشفيف ونحن نبحر كسحرةٍ مأجورين في مركب سكران يقوده «رامبو» وأبالسة العشق والدهشة لقضاء فصل يتيم في جحيم مجنون.. ونتساءل، هل سترافقنا دهشة «ثربانتس» وصديقه الحميم «دون كيخوته» وأشباحه التي أشعر اننا بأمس الوجد إليها الآن/ هنا ونحن نرتع صوب وقرب عتبة وهاوية من المعدن الامريكي وتجلياته واشتقاقاته الفقهية والبنلادنية والقومجية والعجعجية.. والسر؟!.. اسرائيلية!!..
– ان الكارثة المفارقة لكل رمحٍ يطمح ان يجرف الهباء.. ان الطواحين تصدأ.. حيث لا هواء!
ولكن هل كانت اللثغة الأم/ الاضاءة اليتيمة ما صرح به سليمان العاشق في نشيد أنشاده- النشيد المركب.. المذهل واليتيم-؛ كل شيء باطل وقبض الريح».. أم ان هذا كلام «الجامعة ابن داود الملك في أورشليم» الذي وجه قلبه لمعرفة الحكمة ولمعرفة الحماقة والجهل. وعرف ان هذا ايضا قبض الريح. لأن في كثرة الحكمة كثرة الغم، والذي يزيد علماً يزيد حزناً، وها هو الكلام ينبعث في كل ما أتى وسيأتي من عشائر اللغة/ «فاذا الكل باطل وقبض الريح ولا منفعة تحت الشمس»/ وقبائل الشعراء.. مع تلويناتها وبرازخها اللامتناهية. وها هو الدرويش، ايضا، وكان اعلن «أعذب ما في الحب انه يعذبُ.. انه يخربُ نرجسة الأمنية».. وصحراؤنا قد اعلنت «وكل غريب للغريب نسيب» حيث السراب المترامي والحرير القتال… وكان استاذ درويش قد أنبأ.. «أنا تربُ الندى..!!.. أنا في أمة تداركها الله.. غريب كصالح في ثمود «مستعيداً عكاز السماء ليؤسس فتنة الأرض وسحرها اللغوي المفارق لكل الخساسة والعفن.. ويحضرني «بودلير» معلناً انتماءه الى كل الغيب ودهاليزه المتجددة وهو يناور «الموت» ناثراً أزاهير شروره الوضاءة المنتجة للتعالي: «الموت..! أيها القبطان العجوز، لقد آن الأوان لنرفع المرساة.. هذي البلاد تسئمنا. أيها الموت لنبحر..» ترى أين وكيف ينغرس عميقاً سر النزوح من كل البراثن المحيطة ليشطح بنا صوب عوالم تلفحنا وتكون البديل الأثمن؟!
ألأنه صنيعتنا المعجونة بكل الدماء والسخط المتطاول الى سحرهها الفريد!.. أم أن اللغة سحرنا حيث حقولنا وثمارها الطازجة.. المرتجاة!
والآن..، الى أين ستؤدي بنا دحرجتي الشديدة الكثافة والضوء والعتمة هذه؟! .. هل أتجرأ وأعلن موشوشا؟ انه من الحكمة وانت تقود أسراب الهباء.. وأنت تقبع وسط خليطٍ عالٍ من الحصارات (رومٌ… وخلفهم؛ أخوةٌ.. أعداءٌ؛ وأعداء طازجين) أن تتذكر واحدة من أثمن العطاءات التي تحصلها الروح، ومن أغلظها وأوقحها أيضا.. من أثمنها لكثافة احتمالاتها واضطراباتها. ومن أغلظها لأنها تتهادى كبقايا جيش يجرجر الضباب والغبار لينتج نشوةً كسيحة النوايا. لأن السر الذي وشوشته لصديق؛ وبعيداً عن «اندريه بريتون» واغماءاته اللغوية التي تكثف الجسد وضبابياته المرتجلة، «الحيطة يا صديقي.. ان تمارس التنفس بعيداً عن الكائنات».. ولأن «أعذب عذاباتنا ان نحب وأن نُحبَّ».. مع ملاحظتنا التي تعتني باقتناص دروش الماهر وتوزيعه العذب لخراب نرجسة الامنية، والتي استعارها من بريتون.. الذي استعارها من أستاذه الذي أسس، عفو الخاطر، لسريالية الحكمة.. والموت المقتنص، أيضا، من سومر.. وليس المقصود سومر وصواعقها المعاصرة، بل سومر جلجامش، وأفعاه التي تتجدد وتتربى في اقمطةٍ وحللٍ.. وحسب الدارج، كل موسم لانها التهمت بجدارة وحرص لم نمتلكهما عشبة الخلود.. التي نقتاتها (الآن/ هنا) متبخترين في أروقة (الخلود/ الوهم/ وهسهسة الخشخاش والخيال المترنح بغتة.
k يذكرني التناغم البشري في توريثاته الجينية، وتوريثاته المفهوماتية عن (الموت.. العشق.. الحرية!!) وعن تلك المفاهيم التي تشكل ارق حضورنا وكينونتنا الموغلة في أساليب التلقي واشكالها، التي تشكل جوهر الابداع ومبرراته.. ومشروعية منابره وأعلامه- كي لا تقع ضحية في قافلةٍ يجرجرها الخطأ والخطاؤون-.. يذكرني بذاك البدوي اللماح، الذي يلتقط القانون الطريف والمفارق لعلاقات العشق الغريبة المرتجلة ضمن فخه الشعري العظيم:
«علقتها عرضاً.. وعلقت رجلاً غيري، وعلق غيرها ذلك الرجل»
.. يا للدقة.. والانفتاح!!
قيلولة:
الآن / هنا، وفي هذا الحبس المترامي – دون مجاز- وفي هذا الزمان الموبوء بالحصيان وتفسخ الشعارات وجيوش المرتزقة في الداخل.. والداخل جداً، وفي البعيد.. والقريب جداً. وفي هذا المكان الذي تنعى فيه جحافل الجراد هذا اليباب المستتب المجيد..
.. الآن؛ هل هناك ألذ وأشقى وأدق وأمكن من هذا الخراب الذي يُعرش انحائي.. أقصد، هدية الغيب الثمينة والوقحة في تزامنٍ يخدشني ويدهشني ويوغل في مساربي.. ولا أقصد غير «غياب العشق ولوثاته الضرورية والمشتهاة».. كنت جربت هذا المكان ورطوبته وعسكره.. وطالما انك تعيث /كما يقترح/ في مستنقع تحكمه ضفادع الحكمة فانه لابد ان تكون قد مررت الى هذه الحاويات البشرية..
أو أنك ستمر لا محال!..
حينها؛ في زيارة قديمة للحاويات؛ كنت ألتهب عشقاً وتضخُ خلاياي ومساماتي حدائق من الكوارث والهواجس التي تضيء قتامتي وتحول اقامتي في الحاويات الى هلعٍ، وكأني أركن الى سريرٍ ووسادةٍ منسوجين من ابر الفوضى..
الآن، هل اشكر الغيب على وقاحته.. واعترف «كفقاعة الصباح» أن لا شيء يعكر صفو مهبي المرصود للعنة ولعنة الفراغ.. ذلك اللاشيء المتحرر من الصدى.. دون رجفة أفقٍ.
كنت اعرف ان العشق يؤاخي.. وصرت موقناً ان الوحدنة وقلاعها سيدة اللهاث العتيق.. سيدة سرمدية قبيل السديم.. كما هي سيدة للبدعة والضلال والصلاح والترميم القادم على سفوح الحكايا..
..؛ وكنت أوقن أن «العشق لسعة لا تبرأ..!!» والآن تحلمني الهشاشة وعدم القدرة على النبض العاشق (وبعد رحلة الجبل وافتراء ملامحها الذي ألهب المساء وأوداني الى قعر حاويةٍ..) الى التأني واعلان» أن العشق.. الوهن.. الليل.. التوجس.. الشوق.. القهر.. أوثان أحتاجها كمجوسي ضال.
ورغم التماسك، رغم عدم التماسك في كل هذا.. أحسدني لغياب العشق- الجحيم.
وأشفق عليّ لغياب العشق- الرجيم.. وأنا الذي؛ وأعرف؛ ان غياب التوق.. اليتم.. الولع.. الهبل كتجليات نحيلة للعشق هو غيابٌ- جامع مانع- للنبض.. للحياة.
– هناك مفردات كثيرة عامرة الضباب والدلالات (الحياة.. الحرية.. العشق.. الغيب..) نراها مترنحة لولا مهارة الكائن الحي «الانسان!!» في جعلها أضحوكة مرنة ومعبأة بكل المهارة والخبث التي يحيلها الانسان الى مضغةٍ تدعو بثباتٍ الى السخرية والبكاء اللذين انعجنا وبشكل فريد.. قاسٍ ومفجعٍ ومزغردٍ بين أصابع «غويا» الذي حفر عميقاً وأرسى- بعد حصاده لكل الهدم والتهويمات- اللوحة؛ المرآة لملامح وأفعال واشكال الغش اللامتناهية التي أرست وجودنا في براثن غريبةٍ التقطها «غويا» بمهارة وخبثٍ عاليين ايضا.. ليرسي.. ويرثي ذلك الوثن.. الانسان الضئيل المضحك.. الآلي، المنطقي، العبثي، الحائر المارك… وليريق ألوانه القاتمة وينثرها على احتمالات بشرية محيطة كجناز السديم.
هل هي هدية ثمينة إذن؟
– نرى هل اجبتُ.. قبل أن أقفز وأتوثب ثانية لأرتق أحوالي؟.. وأنا اتكئ الى اللغة.. العشق.. وأنصبها وملامحها الغائرة.. ولهي ويُتمي.. ايقاع كوارثي.. نسغي الذي انجذر من براثني.. اذن، سأعشب لغتي، أطأها كغوايةٍ لا تعتق.. غواية يتلوها الفيء المعشش أركان الهلع الرابضة في الألف العصية على الحروف.. في الف الغيب.. في الهاء وانين اللعنة.. في الياء وعظاءات الفتنة.. في الزرع المنبث في مفازات الأضرحة.. وأنت فيئي أيتها اللغة- اللعنة وما تخامرينه مطمئنة الى ملامحها.. ودهاليز الذاكرة. وعلى ذكر الطاعون/ الذاكرة.. أحاول انتشالي من هذا الطاغوت وأنا أدندن باسم روسو «جان جاك روسو» صاحب «العقد الاجتماعي» ونظريته التي سيكون مكانها اللائق ساحة سيرك جوال؛ يقول روسو مخلصاً كل رؤاه بأن الفرد يتنازل عن ذاتيته للسلطة المنتخبة من أفرادٍ متخلّين بالضرورة عن ذواتهم- ضمن عقد اجتماعي، اضرمه في خيالاته وقصور عساكره- حيث تكون النتيجة، ان الدولة «أي، مجموع الأفراد المنتخبين للسلطة» التي تمثل من خلال أفرادها كل أفراد الشعب فـ… تدافع عن الشعب لأنها تدافع عن ذاتها أيضا!!.. شيء بهلواني حقا!. أنت وآخر غيرك.؟!.. أي انك غائب.. حاضر؟! مغترب عن ذاتك من خلال الآخر.. وتشعر بكينونتك المتسلخة؟!
– أرى في العقد الاجتماعي أوضح حالة وضعية للاغتراب عن الذات.. حيث يتم الانسلاخ عنها لصالح ذاتٍ جمعيةٍ لا تشبه الفردية والذاتية الاولى ولا تمثلها في شيء.. ومن هنا ستأتي كل تنظيرات التكنولوجيا والحداثة اللاحقة والتي ستؤدي بالأنا لصالح النسق؛ لصالح العامة، لصالح القطيعية التي تحتفي بالأرقام بدل الذوات… مثل أي شيء او قطعة في آلة ما.. تلك الآلة ستكون عماد النهوض التقني، وعماد الغيب الأكيد للذات.. للذات المبدعة.. إلا من تمرد وأدرك وانتقى حجم وجوده!.. وارتكب هذا الوجود بمهارةٍ ضروريةٍ، رغم أسراب وقطعان الضرائب والنكبات التي ستعرض الروح الحي فيه.. ومع هذا؛ فذاك الاغتراب/ الوشم ليس بدعة عقد اجتماعي، بل هو غريق الحضور العتيق للانسان في صراعه مع الطبيعة والانسلاخ عنها ليشكل أناه. وهو ايضا وليد كل السماوات وكتبها وقنوناتها.
حيث وفي تعريجٍ جديرٍ نرى الى الصوفية ونزوعها «الى الطمأنينة من خلال التخلص من الأنا والانسلاخ عنها في اغترابٍ موبوء يحاول التصعيد وتعويض خساراته في اتحاد وهمي مع المطلق.. عبثاً!.. حيث الاغتراب المضاعف..
– كل هذا التداعي سيبرره محاولة اقترابي من العاشق وتجلياته التي تقترح أن يكون دفقة واحدة الأول والثاني.. الأنا والآخر لنشكل كائنا واحداً من خلال الفطام العظيم كل منا صوب الآخر لنكون لحمة نكون نسيجها: كائنٌ واحد يلوحهُ الوله منعجنا كذاتٍ واحدة في نصفه الآخر الذي بحث عنه طويلاً.. والذي يؤسس الوهم والاعتياد سماته المضيئة التي تتقطرُ.. فيتبسُ.. ليبدأ البحث ثانية عن النصف الآخر الى ما لا نهاية.. وقد يتم البحث في معظم الحالات بعد ملاقاة النصف الآخر… لاغواء يحملهُ عدم العثور على الذات المكسورة المنشقة في اعماقها… ولكن من شاء له الغيب أو الوهن او.. الاعتياد والتأقلمُ- مع نصف مقترحٍ- السريع مع الاخر ليكون «الاثنان».. «واحداً»!!.. ما يحمل صرخة المنطق والعبث.
لأنك لا تتحد بآخر ملموس؛ بل بفكرةٍ.. بمفارقٍ.. بإلهٍ.. بلا مرئي. بمتاهةٍ.. أي بلا شيء. مهما كان يقينك به. ومن هنا تتفتحُ اللغة ثانية على آفاق طازجةٍ لتنتج لنا ابن الفارض وابن العربي، وابن الشهوة الذي صرعُ كل مساماته من اجل الاتحاد.. / ويعلن/،.. ومن أجل الدفاع عن وجدهِ ولحمته واتحاده الحاصل. والاعلان هنا.. لغة مترعة.. معبأة بالرؤى العظيمة التي تغذي نسغ وجودنا وتبرره شعراً يؤجج السكينة في خطوة لا تسكن زواريب الطمأنينة والبوح.. ذاك سر الابداع والبحث الذي أفنى المتصوفة وأراقوا صوبه كل هواجسهم ومساءاتهم وصباحاتهم وهم يلهثون- وعلى الطريقة السوريالية – لتأسيس الوهم والعبث..
لأن سخطهم انصب على المسافة؛ تلك العثرة/ السخط الحائل بينهم وبين المحبوب، المعشوق.. الإله «بيني وبينك إني يباعدني… فارفع بانيك إني من البين».. هذا ما أعلنه الحلاج مترنحاً، وهو يحاول اغتيال المسافة.. التي أعلنتها ونثرتها قديماً كخنجرٍ يقرر
«الزمن هاوية المسافة».. ولأن الزمن الصوفي خارج عن سياق النبض والمعايشة.. فهو زمن مشتهى ويحمل وحاماً مستمراً لتجاوزه من خلال التهويم والابحار في لجج العناصر التي تتقافز وتلغي ما بيني والآخر.. لتنتهي الحكاية رغم القلق المتين الى لقاء ما.. في دماغ ما..
صوب متلقٍ ما. وهذا ما يجعل من المتصوفة سرياليين كمذهب رؤيوي ابداعي، وما يجعل من السوريالي المزروع في الأرض- رغم دك قلاع الغياب كزائر غيب- شديد الإلفة والشطح والتصوف!
.. إذن، المسافة بيننا وبين الرب.. المسافة بيننا وبين الفردوس- كثمن مدرك مسبقاً للطهارة والخنوع- فخٌ لغويٌ لذيذٌ وجدير بالقلق والتهور والتعب.
.. والجدوى، ثانية، في النتاج الأرضي، والذي يرى الى هاوياته مع نصوص السماء وأصحابها.
وتلك المسافة ناقوسٌ.. فخٌ، واقرباء الجسد يخوضون في ماء آخر رغم انتمائهم الى ماء الوصل والحياة كغايةٍ يتيمةٍ- بعد لقاء الروح- الى «الوصل ولقاء الجسد» والوصلن لغة، ترميم ما تصدع وانهدم وأضحى مسافة.. وكان العبث يعاود ظهوره في فكرة غير مقتنصة من «نيتشه» ورؤيته لـ»العود الأبدي» بل منسلة من الشعاع الأعتق للخطيئة والخليقة والبحث واللأي عن النصف الآخر.. الذي يكون نصفي ولا يكون لأن المستحيلات وتحقيقاتها على قارعة لا تقربُ هواجس الغيب وتوثبات مريديه التي لا تستطيع رتق مسافةٍ إلا من خلال مسافة لغوية تحتفي بالأناقة وتدوزن الكون وترتبُ ايقاعاته وفق نظامٍ سحري انتج الشعر والفلسفة والأنبياء وأبناء الوهج والأرق واللوعة والهباء.
تأسيس الحواس:
…، في مقامٍ آخر تتنطح طواغيت الذاكرة لأتكئ بداهة على ما حاول «أدونيس» ترميمه من وضوح يرتج وارتج من خلاله كل قراء الغيب والخديعة الذين اعتنوا بالأرض والبشر وناوروا متاحف الغيب وسراديب السماء.
يعلن «أدونيس» في عنوانه المفارق اللماح «مفرد بصيغة الجمع» الذي يتكئ على الفرد الذي يحاول ان يكون الآخر مدججا «الجمع».. والجمع هنا، لن يكون الآخر فيه مضافاً للآخر!.. بل الآخر المشتق من الأنا المفرد.. لأن المفارق الأصيل هنا.. انك تستطيع ان تشتق من الأنا الأصيل الهواجس والكوارث أنواتٍ لا تحصى كون البحث يشقق الذات ويصنع الفصام المؤسس والمركب والعظيم ضمن اتكاءات مبهمةٍ على…
«وتحسب انك جرمٌ صغير… وفيك انطوى العالم الأكبر». إذن، وبمفارقةٍ أدونيسيةٍ لن تدنس العشق (دنسٌ.. قداسةُ!!..) كأن العشيق/ الطموح.. المشتهى/.. الآخر الذي يتأسس عليه حضور الذات.. كان على مسافة، ومسافةٍ مدركةٍ كنكوصٍ يحمله صوفي «أدونيس» من طراز يشير ويرمز الى ما يحصل وما ينبض؛.. يعلن دون طمأنينةٍ أو أريحيةٍ أن الآخر ليس الذات.. الأنا. الآخر غيري!!. ولكن الرغبة ان تتم «صياغته».. «تصنيعه» في حالة الجمع.. الفصام.
.. يقول «أدونيس»، «وحين التقاء الشهيق بالشهيق كانت بيننا مسافة» «!!!
ويكمل محدقاً بقسوة الى الاتصال الجسدي الذي لن يروي الخيال والروح وتوثباتها رغم انشدادٍ عظيم بين الأنا والآخر كجسدين يحاولان التماهي عبثاً: «… والنطفة بالنطفة كانت بيننا مسافة».. أي طعنةٍ وهاويةٍ مباغتةٍ هذه؟!
– هل هي مسافة الخيال الذي لا يرتوي في بحثه عن ذاته مع الآخر؟ او متلبساً بالآخر، خلال التماهي الذي يحفزُ فينا البحث عن آخر لا يحقق. وهذه المسافة تنسحب، بآنٍ، على الذات وعلاقتها بذاتها، وعلى الذات وعلاقتها بالآخر الذي سيشكلُ جزءاً من الجمع.. وإلا ما كانت القصيدة.. ولا كانت الغواية.. غواية الخلق.. البحث والقلق.
.. علينا، ايضاً، استحضار ما يردده أدونيس بتعبٍ واضح:
«لست سؤالك.. ولست انت جوابي».. والتعب المقصود يتعلق بوهم اللقاء.. وتطابق الرؤى والهواجس الذي يكسرهُ أدونيس.. انه بوحٌ لا يرتضيه ولا يتقنه شعراء الواحات ان لم نقترف البداوة هنا!.. لأن الكسل والخجل وقداسة العشق «!!» وكسر المسافات الناجز مثل يقين الغيب استحوذت على المتخمين فطنةً وصنعت وهماً/ وهناً عظيم الفعالية متكئاً على غيث الواحات والصحارى وأبناء اليباب.
– يقترب أدونيس، كقبيلة شعراء، من تأسيس معارضةٍ واعيةٍ لما ينظرُ غليه في «الابداع والاتباع» بقسوةٍ لن تفاجئ سوى المركونين في الفيء.. على مسافة من القيظ والوهج الذي يمنحه السؤال.. البحثُ.. وعبق وهول ملامحه..
– يقول في توثب عنيد مفتتحا قصيدته اليتيمة كسيرةٍ ممنهجة، وهنا اقترب من الشاعر مفكراً.. وبما يخدم الغيّ الذي أحاوله، «لم تكن الأرض جرحاً.. كانت جسداً.. كيف يمكن السفر بين الجرح والجسد؟!.. كيف تمكن الاقامة؟!..»
– ان الرصد الدقيق لمتاهة المسافة التي لن تُردم وبكل تفاصيلها.. سيطرت على أدونيس كمتصوف حداثوي يحمل في جعبته وترسانته اللغوية محاولة ردم السذاجة ومريديها لتؤسس قلقاً جديراً بالكينونة وشقائها الوضاء.
يقول في قرار طازج ومركون في عتمة الانتماء مكرراً سخطاً دفيناً بينه ومواطنيته التي تعصف بها المسافة كسيحة من طرفها الآخر: «الوطن؟.. نعم.. لكن، ان ينتمي هو أيضاً، إليّ» … انه لا يركن الى ما استطاعه الكسل محتفياً بانتمائه الى قبيلة العتمة؛ التي استبدلها أدونيس بعشيرة الضوء اللغوية والجمالية وحجم الالتباس الذي يشرشُ أحوال الشعر.. الشاعر ستنتج فسحة وهم وجمال عالية حين يتجاوزها «النفري» وهو يتلو بيان عشق ولغة»
«إذا ما رأيتنا لدى الضمِّ والتعنيق.. حسبتنا حرفاً مشدداً.. رادماً كل المسافات دون أن يدرك – أو انه يتجاوز ادراكه الحزين- ان الحرف المشدد هو كتابة حتمية عن حرفين يعيان وجودهما المنفصل.. والمشدود الى تطابقٍ مجازي اضطراري لخوفٍ واسع من صقيع المعنى ولوثة الوحدة… وليس لنا تجاوز النفري الذي يعترفُ مواربةٌ بصعوبة ردم الهوة وهو يعلنُ «حسبتنا» التي ستعني الظن والتخمين، وليس اليقين.. الحقيقة/ الطموح.
– .. وقد تصغي الى رعب جمالي آخر: «كل يريدك له.. وأنا أريدك لك» ان التخلي الذي يحصل الآن، وادراك عقم المحاولة في ان يكون المشتهى ومن يتشهاه من عجينةٍ واحدة؛ أدت الى هزيمة لغوية لاحقة أيضا، فلأنه لم يستطع المستحيل.. أو يريده، فأراد الكائن وذاته البعيدة عن الذات المترعة الصبوة للاتحاد بالصنو المتخيل..
والخيبة انعجنت بايضاح.. أو التورط بايضاح حسن النوايا.. والتي تعبر عن الانسحاب وخسارة معركة الرغبة في امتلاك المشتهى.. او ان يكون /ذاك.. هو/ ذاك له.. ولم يستطع فرفع الراية المنسوجة من نُبلٍ لغوي عارض وزيف معرفي مفجع.
يخطر، اقصد، يخامرني الآن/ وبجرأةٍ لا عناد يخدشها؟؟/
وعلى مستوى قريب ذاك الظن والتخمين المفجع المعبأ في يقينيات ابن عربي وكل من قرأه كيقين لا يطعن. أن عتاة الفكر هم أنفسهم أكاسرة اليقينيات التي تصادر التخييل والقلق عل نفقة المعادلات العارضة.. والمحاصرة للنبض كحقيقة يتيمة… ها هو يعلن ايقونته.. أيقونة لجمع اللامتناهي من المردة.. المريدين «لقد صار قلبي قابلاً كل صورة فمرعى لغزلان ودير لرهبان» وترجمتي لصاحب «ترجمان الأشواق» تقول:
لقد: يعني انه لم يكن!
صار: تطور الى أن أصبح وأضحى راض عن نتائج التطور والصيرورات.
قابلاً: أي أنه روّض الى أن يكون هو ما هو عليه الآن…
وهذا ما لا يرضاه الشيخ الأكبر الذي يتكئ على الحدس كجذر وعلى الوحدة الشهودية العظيمة الغيب والقدم مما ورطه في تطور لا يليق… لكن، «قد»
– وقد يستطيع الحسيون، بطفرة خاصة، العلو باللغة.. وهذا دون اقترابنا واقترافنا للخمرة التي سقيناها قبل أن تُخلق الكرمُ.. ودون توهجاتها التي انطلت علينا – رغم جمالها- كمفارق ضروري تقية.
– ان الدنان والقرب النؤاسية المحسوسة.. والحبيب المشتهى والمشخص، وصبوة الالتحام.. والاقتراب من ثغوره ومكامنه والذوبان في اتونه وماغماهُ الخالصة، دون مجازٍ يعتني بالإله أو سلافة.. أو ريمٍ ومريماً.. كان زلزلة جديرة بالهدأة، رغم أن الخرمشان الاعظم والهواجس الأشد وجعاً تعششُ العابث خلف الغيب الذي أنتج اللوثات الأكبر.. والتي لن تعي غير ملامستها لدن النؤاسي وتجاذباته في جحيم الأرض وبساتين الذاكرة.
k ان الانسلاخ عن جذر النبض هو سقوطٌ غريبٌ في فخاخ غريبة ستجر ورطة لن يستطيع رصدها وفك كوارثها وطلاسمها إلا ذات أخرى وغريبة من أجل العود الأبدي والمريب الى الذات الأم..
… انه دماغٌ رجيمٌ ذاك الذي تغذيه القبور وهي تنبش وحل وأوهام العشق البشري من خلال الاتحاد بالآخر.. المفارق أو المحبوب»المحسوس»… وحسبتنا حرفاً مشدداً» و»حسبتنا» كوهمٍ عميقٍ، كما أعلنتُ، تنفي الاتحاد الموضوعي – البعيد عن زخارفه اللغوية الجمالية- بالآخر لتسقط في وهم الظن «حسبتنا»… ومن هنا كان أدونيس كصوفي متمردٍ وابناً للأرض والبشر جدير بأن يعترف بالهوة التي تبعده عن الآخر وتقطعه كحبل السرة لينصهر بذاته المتوثبة، ويعلن»: «.. كان بيننا مسافة» مع انه يعلنها بحفاوةٍ حزينة، ولوعةٍ تعترف بعدم القدرة على الاتحاد والآخر بقرارٍ فطري رافض للتخلي عن الذات من أجل الاحتفاء العارض بذاتٍ أخرى غريبةٍ / رغم قربها المجازي/ تندسُ وتكسرُ القلق الجواني العميق لتصنيع ألفة مزيفةٍ مع الآخر.. كما لو ان الذات تخلّصت من مسافتها الداخلية وفصاماتها العيمقة لتبدأ البحث عن التجانس الجواني في حلول برانية.
الوشـــم:
– ان الانسلاخ المطلق والمكين، وتحويل الهواجس المعجونة بالأنا- الفرد الى مشكلةٍ لن يحلها ويفككها بالنيابة عنا إلا الإله.. المطلق الذي تركن إليه بطمأنينة ودعة المتصوفة الذين يلجأون الى طرح شراك الأنا المحدود.. للأنا المطلق؛ تطرحنا في خدرٍ لاهوتي أساسي منجذرٍ ولذيذ!.. وكل خروج هنا، وكل محاولة احتفاظ بالذات كناية عن تمرد إلحادي بالمعنى الديني.. وهو تمرد على العطالة البشرية التي تطالبك بالتحلل من الذات و«الحلول» والانتماء الى محمية الزحام والضجيج. لذلك ارى أن ادونيس في ورطةٍ مضاعفة، فرغم رغبته الاتحاد بالآخر.. لكنه وبهاجسه المعرفي يكتشف ومن خلال نبضه صعوبة ذلك.. لذلك نرى اللوعة مضاعفة.. ونرى إليه كصوفي عبثي سريالي.. يحمل أوزار الأرض والسماء، ومحافظاً على عماد انسانيتنا من خلال اعتناقه لذاته المتوجعة لأنها بعيدة رغم صبوة الالتحام والاتحاد. إذن لابد ان هناك تصوفُا إلحاديا (يبحث عبثاً عن الاتحاد والآخر.. الغيب)، وآخر مؤمن (مطمئن ومستكين في احضان، أو، مغرِ الآخر.. الحبيب.. المطلق) والالحاد والايمان هنا، افتراض يقيني يقتات من انسلاخ وغربة الذات عن هواجسها الملونة بالايمان والالحاد دفعة واحددة فنكون قرب (مؤمن بإلحاده الذاتي)… (وملحد بإيمانه الموضوعي)… لأنه، «إذا علمت علماً لا ضد له وجهلت جهلاً لا ضد له فلست من الأرض ولا من السماء» وهذا وشمٌ نفري أصيل.
.. عن هذا الافتراق هو الوشم الأعتق للذات التي لا تركن في متاهة بحثها الى اجابات بسيطة، بل تحفر عميقاً في جذر السؤال لتنتج قلقاً طازجاً يغذي نسغ حضورنا والتماعاته في تجاوزٍ وعُلوِّ مستمرين للذات التي تؤسس حضوراتها متخذة المستحيل سمتاً لتنحت نهجها وسبيلها بعيداً عن الهاويات الغابرة التي يتعكزها أكابر المتصوفة المتخمين طمأنينة وغيّاً.
بــوحْ:
… وان كان لابد من نعوشٍ نديةٍ طريةٍ – ضمن احتمالاتي- فان ذاكرتي تنزُ وترتجف الآن لتستحضر الملامح الدقيقة لها.. وتضغط كل براثنها ومساماتها محاصرة جحافل الصبوة وروافدها وتشعباتها لنرتج وترتجف الأعضاء وخيالاتها.. لنحسبنا.. «حرفا مشدداً» يمحقنا في تماهٍ مطلقٍ.. فغيبوبةٍ بكر!.. مع ان الحتم الحتف الأكبر أنني أنتمي- ويحصل فعلاً.. ودائما- الآن، وبتزامن مضغوط وكثيف الى انه: «وحين التقاء الشهيق بالشهيق.. والنطفة بالنطفة- تكون- كانت بيننا مسافة..».. ولن اركن الى هذه المتاهة، ولن أركن الى طمأنينةٍ خجلى من فصاماتها، لأنني أنبضُ وبدقةٍ الحالتين!..
والأعجوبة تكمن في هذا المدّ الهائل من الخيالات التي تتعكزُ حزراً او مفازاتٍ غير موطوءةٍ للغة التي تهجس بالمخلوق ان يكون خالقاً.. وإلا ما حكمة أن تكتب رغم انك تعيش وتنبض ما كتبته وبشكل اعمق وأشد أصالةٍ.. ودون حاجةٍ لفلاتر لغويةٍ.. قيمية او اجتماعية؟ هو نفس وعين السؤال المؤسس للعبث العتيق.. ولماذا يخلق الخالق مخلوقاته رغم اكتفائه بذاته وافتتانه بكماله؟!.. وقد تكون الاجابة اليتيمة..؛ لأنه يبحر في الغيِّ والذات «الغاوي.. من النرجس والأبهة» وهو يتطلعُ الى خلقه مخلوقاتٍ خالقةٍ بدورها.. وهذا لا يشير الى أي وهنٍ لغوي تخييليّ غيبيّ.. مفارق. انه جزء أساسي من تلك اللذاذات العالية التي يقترفها الخيال لينتج مبررات وجوده وحضوره الذي ينضحُ/ الآن، هنا/ الترهل.. ان انصاع ورضخ لأسباب وجوده التي تغذيها الخديعة ويُمليها بواقو الضوء وقناصو القصيدة.
تعشيــب:
… لن أستطيع أن أنخلع الآن متجاوزاً البرق المندلع عنوة من ثغوري التي تُعرش عميقا في خلاياي الضائعة..
.. لن أستطيع ايضا، الانفلات من طواغيت الذاكرة التي تؤجحُ اللغة وتطازجها لأراني قرب هاويتين (لغة، سرمدٌ) (موتٌ، مجازٌ).
هامـــش:
أشعر الآن، وبدقةٍ أقول أنني «أشعر الآن» مثل سنبلةٍ.. مثل جيش من النزق.. مثل جحافل ضوء.. بل، مثل قنبلةٍ كثيفة اليقظة والتوثبات.. أهجسُ انني قنبلة احتمالات!..
بحر .. ضــوء:
ان الشيخوخة التي تعاقر قميص الوجود لن تهج الى رتقٍ قريبٍ من انفتاقاتها وتلهوجاتها التي تندلعُ.. الآن تندلعُ. قريباً من الصباحات.. قريباً من مكامن العشب المنبث كوشمٍ في خاصرة الضوء.. فأحاول ووميضي شلع العشب- الطحلب المعشش قرب ثماري.. وأدواتي لغة بكر مفعمة اللوثة.. خدر دون موارد.. وغيب لا يسقط في التشابه.. انه غيبي!..
وحقولي لن يغمرها الطوفان.. لغتي ماءٌ.. لعنةٌ تورقُ وهي ترفرفُ عميقاً حيث التراب الأمّ.. حيث الولع.. وحيث الموت مجنزراً لرتقِ احتمالاتي..
زكريا الابراهيم
كاتب من سورية