«لقد حكم علينا بالفكر اللايقيني، وبالفكر المليء بالثقوب، بفكر ليس له أي أساس يقيني مطلق»
إدغار موران
يكمن غرض الفكر المعاصر، في انتشالنا من وحل الميتافيزيقا، التي أسست لخطاب انتقائي، يستكين لحقيقة نهائية، وينتصر ليقين ينفي الاختلاف، ويقهر التناقض الذي يسكن العالم.
ولعل ما طرحه المفكر الفرنسي، إدغار موران في هذا السياق، يعد إسهاما رصينا، غرضه لجم جماح الفكر الثنائي، الذي سيج الذهن، وسد عليه منافذ الانعتاق من شرنقة الميتافيزيقا.ففي كتابه الفكر و المستقبل، مدخل إلى الفكر المركب، عرض مسهب، لبدائل تحيد بنا عن دائرة التيه، التي ولجها الإنسان، محتضنا للعديد من الأوهام.
ومن ذلك تأكيده ضرورة تجاوز نظرية المعرفة التقليدية، بحيث عمد إلى خلخلة التقابل المختلق بين الذات والموضوع، بأن أعاد تموضع الذات، عبر تحجيم تموقعها أمامه.فمن شأن الادعاء باستقلالها عن الموضوع، وقدرتها القبض على حقيقته، أن يفقد العقل بصيرته.لكونه يصير قيد رؤية اختزالية، و تحديد يميل إلى التبسيط.إذ يترتب عن ذلك الادعاء تصنيف المعرفة، والفصل بين ضروب معرفية، تكون تلك الموسومة بالموضوعية في أعلى مراتبها.وبذلك نسقط على حد تعبير إدغار موران في شرك ظلامية علمية، أفرزت مذاهب تدعي احتكار العلمية.ويكون ذلك مبررا كافيا لشطب أصناف من المعرفة، بأن توضع في خانة اللاعلم.
ولتجاوز عثرات هذه الرؤية الأحادية البعد، و الاختزالية، القابضة على الفكر.وقصد التحرر، من العمى والتشويه، الذي اطمئن إليه العقل، واستكان إليه، طرح إدغار موران الإبستيمولوجيا المركبة، بذيلا عن الإبستيمولوجيا التقليدية، التي تنفي الطابع المعقد للعالم، مدعية قدرتها على الإلمام به، والإحاطة بوقائعه.
والفكر المركب، وحتى ينفك من الإبستيمولوجيا التقليدية، التي انتهت إلى الفراغ، بحكم انتقائيتها، وسعيها الدؤوب لحجب التعقيد، الذي يطبع الواقع.بدا فكرا منفتحا، يجمع ويوحد بين صنوف من المعارف، استمرت لعقود متنافرة ومتباعدة، تتوهم الاكتمال. وهو بهذا يطرح كعلاج، أو مداواة لباطولوجيا الفكر، أو عمى العقل، حين يستهويه التبسيط، إذ ينظر إلى العالم، من موقع الذات العارفة، التي تنفي عنه التناقض، وتجمله في يقين يعدم التنوع.
إن الفكر المركب، يروم تجاوز قصور الفكر، المستند على حد تعبير إدغار موران إلى إيديولوجية الطبيعة الخارقة للإنسان،لكونه طاقة مبدعة، وقوة عاقلة، تملك القدرة على ترجمة الواقع إلى فكر، أو معرفة تامة ويقينية.وإصلاح عطب الفكر ليس معناه التموقع في موضع، يسمح لصاحبنا بتقديم النصائح، وعرض الوصايا، أو إدعاء تأسيس علم بكل شيء، وهو في هذا يقول «ليس قصدي هنا تحديد وصايا الفكر المركب التي سبق لي أن حاولت استخلاصها، بل التحسيس بالنواقص الهائلة لفكرنا، وأن نفهم بأن فكرا مشوها يقود بالضرورة إلى أعمال مشوهة. إنه الوعي بالباطولوجيا المعاصرة للفكر»(1).
وما يتبث الحاجة إلى إصلاح الفكر، ويؤكد ضرورة ذلك هو انغلاقه، وتمترسه خلف مفاهيم اليقين والحتمية…وهو بذلك ينكر هزات عميقة، تعرضت لها أسسه، ومن ذلك جسر الهوة بين الذات والموضوع، والاشتغال وفق لغة الصدفة، واللايقين .وهي نتائج رسختها ظهور الميكروفيزياء داخل مجال المعرفة.
لم يعد ممكنا انغلاق النظريات، بدعوى الدقة والاكتمال، أو التميز والتخصص. فما كان يعتقد فصلا وتحصينا،بات أسطورة دكت قلاعها. وأضحى الوصل والتعالق بين حقول المعرفة، وأساسا الفيزياء والبيولوجيا وعلم الإنسان، عنوان فكر مركب، ومتعدد الأبعاد.
وقد أتبث إدغار موران كيف صار هذا الوصل المعرفي، حقيقة، أفرزتها التعقيدات التي تؤثث ما نسميه الواقع، بحيث أن البيولوجيا كانت قد استمدت مفهوم المعلومة، من حقل التواصل ووظفتها، ومن ذلك سرى و امتد الحديث عن الخلية، الحاملة لمعلومات متوارثة.ثم أن استدخال هذا المفهوم، كان من نتائجه، تضمين العلم مفهوم الإحتمال،الذي ظل مرفوضا، ومستبعدا من حقل العلوم. ومرد ذلك أن المعلومة كمفهوم لا تتضمن الصدق بالضرورة، فمن المحتمل أن تكون غير ذلك. وهو في هذا السياق يوضح قائلا «تعد المعلومة مقولة مركزية لكنها إشكالية.وهذا هو مصدر التباسها كله.ليس في استطاعتنا أن نقول عنها أي شيء تقريبا، غير أنه لا يمكننا أن نستغني عنها أبدا.»(2)
وكون الخلية ناقلة معلومات، فذلك تأكيد للتعقيد الذي يلف هذا الموضوع المندرج ضمن مجال البيولوجيا، بحيث نخطأ إن نحن اعتقدنا إدراك حقيقته بصورة يقينية، فالأمر لا يتعلق بمادة حية، بل بتنظيم حي، أكثر تعقيدا مما نظن.
وليس وحده مفهوم المعلومة، ما يتبث التشظي، والتنوع، الذي يستوطن حقل البيولوجيا، وغيره من الحقول. فمفهوم التنظيم، هو الآخر يؤكد ذلك،إذ يتعلق الأمر بتنظيم المختلف والمتنافر..والتوليف بين المتناثر، في إطار وحدة، يسكنها التنوع.ذلك شأن الجهاز العضوي، الذي تنتظم في إطاره، العديد من العناصر المتمايزة، ما يحقق وظيفته، ويبث فيه الحياة.
وإذا كان التعقيد عنوان الواقع، فمن غير المجدي، أن ننظر فيه من زاوية أحادية، تفضي بنا إلى نتائج، و خلاصات مبسطة تغشي الفكر، وتعيق الفهم.فالتعالي المزعوم للذات، لا يخفي كفافها، وقصورها، فهي خواء، بمنأى عن الموضوع، أو فراغ، إن فارقته.ومن ذلك تتضح استحالة ترجمة الموضوع، أو التعبير عنه بدقة.أضف إلى ذلك انفتاحه، أو تداخله مع مواضيع أخرى، ما يعمق تعقيده. وحتى تتلافي القصور، أو الثغرة التي تخترقها، تكون الذات ملزمة بالاحتكام إلى فكر مركب، يلامس الواقع، و يتعاطى معه في مختلف مستوياته، ومكوناته المتداخلة،و يسوقنا على حد تعبير صاحب أطروحة الإبستيمولوجيا المركبة، إلى معرفة أكثر غنى، وأقل يقينية في آن.
وكي لا تصير تلك المعرفة، قولا فصلا، أو حقيقة جامدة، ويغدو اللايقين، باعتباره عنوانها سرابا. يلزم ممارسة نقد ذاتي، يتكشف للذات من خلاله سقطاتها، وعثراتها، المعيقة لتطور المعرفة.ما يؤكد أن الأمر يتعلق بمعرفة منفتحة، لا تدعي احتكار الحقيقة، و هو ما يمنحها القابلية للتجاوز، والتطور. ويشهد على ذلك تأكيده « إن الإبستيمولوجيا في حاجة إلى إيجاد وجهة نظر تكون قادرة على النظر إلى معرفتنا الخاصة كموضوع للمعرفة، أي ميتا-زاوية نظر، كما هو الشأن في الحالة التي تتشكل فيها لغة واصفة من أجل تمثل اللغة التي أصبحت موضوعا»(3)
في تساوق مع ما تم إبرازه، فإن تكريس تخصصات علمية، منغلقة من شأنه أن يعيق وحدة العلم، و أن يعمق القصور المعرفي. وتجاوز ذلك يستدعي مد الجسور بين مختلف التخصصات المعرفية.وتحديدا بين الفيزياء والبيولوجيا والأنتربولوجيا. وهو ما يتبثه قائلا «كل ادعاء بتعريف حدود العلم، بكيفية مضمونة،و كل ادعاء بالاستئثار بالعلم، هو بفعل ذلك ادعاء غير علمي»(4).
يترتب عن وحدة العلم، تلافي النظرة الأحادية، والإختزالية، التي تسيدت العلم الكلاسيكي، هادفة خنق العالم في قانون ومبدأ معين، أو إرجاعه إلى أصله البسيط. ومن تم القبض عليه كميا أو حسابيا، حتى يسهل استثماره اقتصاديا، فيدخل العلم في نفق التسخير أو التوظيف الذي يحيد به عن الفهم كهدف نبيل ظلت تنشد تحقيقه المعرفة العلمية. فالعلم الكلاسيكي يقصي ما لا يفيد. و يغدو العلم بفعل تلك الوحدة، نسقا للفهم، نتيجة دمجه ما كان مقصيا، وإعادته الإعتبار للصدفة، واللامتوقع، والحدث…على أساس أنها مفاهيم تشكل جزءا صميما من الحقيقة المركبة للعالم.
وقصد مزيد من التوضيح، والتأكيد على التعقيد الذي يسكن العالم، يسوق إدغار موران العديد من الأمثلة، ومن ذلك الإشارة إلى الانفجار الهائل الذي قاد إلى تشكل الكون، ما يفيد، أن هذا الأخير وما يحمله من نظام كان قد تولد عن طريق الصدفة، بحيث ليست هناك من قوانين صريحة حكمت وقوع ذلك الانفجار اللغز. ومن تم انتظمت في إطار الكون تناقضات، ومفارقات، من قبيل الاستقرار والخلل، بل هي منتج التنظيم والتعقيد. وهو ما يؤكده قوله «إن القبول بالتعقيد هو قبول بمفارقة، وبالفكرة التي مفادها أنه لا يمكننا حجب التناقضات داخل رؤية اعتباطية للعالم»(5)
وإذا كان من الاعتباطي التمييز والفصل بين المتناقضات، فمن التبسيط والسذاجة أن نقيم حدا فاصلا بين المادة والروح، وبين الإنسان والكون المادي. لذلك فالتعقيد يشمل الذات ليس فقط الموضوع. ومن تم فالذات في نظر إ.موران و بخلاف التصور التقليدي للعلم، تتمتع بما يؤكد فرادتها، واستقلاليتها. غير أن استقلالها إزاء الآخرين لا ينفي تبعيتها. إذ هي مستحوذ عليها من قبل المجتمع. ذلك ما يعنيه بقوله « إننا خليط من الحرية والتبعية، وربما أيضا من الاستحواذ الذي تمارسه علينا قوى خفية ليست فقط قوى اللاوعي التي كشف عنها التحليل النفسي» (6). فذلك على حد تعبيره إحدى التعقيدات الإنسانية.
و إذا كان التعقيد بهذا المعنى قدرا لا نستطيع القفز عليه، فمعرفة المعقد قائمة، إلا أنها غير متاحة للذين أخذتهم الرؤية الأحادية، وتلبستهم منظومة التبسيط. ويبقى العقل في نظر إ.موران أذاة المعرفة، بيد أن ذلك ليس معناه الاطمئنان التام للغة العقل، والإنجذاب لها. فشيء أكيد انتقاد العقل لذاته، فأن يكون ناقدا لا يعفيه من أن ينجز ذلك. فمن شأن ذلك أن يحمينا من السقوط في مهاوي التبرير العقلاني، بحيث نميل إلى إقصاء ما يتناقض مع فكرنا، وانتقاء مقابل ذلك ما يتماشى مع اعتقاداتنا. وهو ما يتضمنه قوله «لقد كان لفلاسفة القرن الثامن عشر، باسم العقل رؤية ليست عقلانية تماما حول ماهية الأساطير والدين»(7).
تماشيا مع ذلك فعالم الاجتماع، على سبيل المثال، وكي يصوغ رؤية، عميقة للمجتمع، بحيث لا ينغمس في التبرير العقلاني، عليه أن يسلك طريق النقد، بما في ذلك انتقاد أناه. فلا يتغاضى عن كونه، حاملا للمجتمع، ومستحوذا عليه من طرفه. وذلك ما انتهى إليه إ. موران مؤكدا أن الكل داخل الجزء الذي يوجد داخل الكل. فالمجتمع، والثقافة، يسكنان ويحتويان الفرد، الذي ينتمي لهما ويخضع لثأثيرهما، واستحواذهما عليه.
في سياق أنثربولوجي، وداخل المجال الإنساني، طرح صاحب أطروحة الفكر المركب، موضوعا، لا غرو أنه متعالق مع تم عرضه. بحيث تطرق للفعل الإنساني، و ما يلفه من تعقيد. مراجعا بذلك ما درج الناس، و اعتادوا تداوله. فهم يزعمون أن الإتيان بالفعل، ناتج عن تقرير واع، يسمح بتحديد مقاصد، يستطيعون بلوغها، ما إن يضعوا برنامجا، يسيرون وفق نقاطه المحددة سلفا. بيد أنهم في واقع الأمر، عادة ما يحيدون عن تلك المقاصد، بفعل ما يتولد من أحداث، ولهم وضعيات صدفوية. ما يفرض السير، وفق استراتيجيا، تستحضر اللامتوقع، وتأخذه بعين الاعتبار. و هو أمر يؤكده قوله « إن مجال الفعل مجال اعتباطي جدا، ولا يقيني جدا»(8). وبذلك نتفادى السقوط في دائرة الفشل. الذي لا يمكن تجنبه، إن نحن اهتدينا وفق برنامج، لا يضع في الحسبان الصدف، والأحداث المفاجئة، التي لا شك تعترض سيرنا. وإن نحن لم ندرك – على حد تعبيره- أن الفعل مراهنة، وليس بالضرورة اختيارا.
والمقاولة، التي تنتج ما ينتجها، تنتج خدمات، ومنتوجات تبقيها على قيد الحياة.. هي الأخرى، والتي تنجز عملها بصرامة، وفق برنامج، وترتيب تم وضعه، سلفا.
يكون الفشل مآلها.ما لم تتسامح مع الاختلال، وتترك هامشا للحرية، واتخاذ المبادرات الفردية. فإرادة فرض نظام صارم، في نظر إدغار موران إرادة فاشلة، إذ يستحيل في نظره تحقق نظام خالص. لذلك ينبغي التعايش مع الاختلال، الذي تقود مقاومته، إلى بعث الحيوية، في مختلف أشكال التنظيم.
وبناء على ما تقدم، يطرح السؤال، كيف تطور العلم، بالرغم من نزوعه إلى التبسيط، والإختزال؟ كان الجواب بينا. فالصراع بين النزعة العقلانية، والنزعة التجريبية، كان أحد العوامل، التي أنتجت ذلك التطور. كما أن البحث عن العنصر البسيط، المفسر، عادة ما ينتهي بنا إلى صدف، و مفاجآت، وتعقيدات، تفرض إعادة التفكير، ومراجعة المشكل. وبالرغم من هذا التطور العقلاني، إلا أن إدغار موران، يقر أننا ما زلنا في بداية الطريق. وأننا ما زلنا أسرى، أشكال مشوهة، ومتقطعة، من التفكير.فنحن نعيش في نظره، في عصر بربرية الأفكار. لذلك فالفكر المركب، الذي لا يقيم فصلا، بين العلم، والخيال، يعد سبيلا للنفاذ من مأزق، وضعتنا فيه رؤية، تسعى التفكير في الواقع بلغة بسيطة، إذ تقفز على تناقضاته، وتقهر مفارقاته. وتختزل تعقيداته، في أفكار ونظريات، تدعي الإكتمال. وتصف ما يخالفها بالنقصان.
الهوامش
1 – إدغار موران، الفكر و المستقبل، مدخل إلى الفكر المركب، ترجمة أحمد القصوار ومنير الحجوجي، دار توبقال للنشر، الطبعة الأولى 2004 ص 19
-2 المرجع نفسه ص 282
-3 نفسه ص 473
-4 نفسه ص 534
-5 نفسه ص 665
-6 نفسه ص 696
-7 نفسه ص 727
-8 نفسه ص 808
علي السعيدي /ناقد من المغرب