"الخالد الذي لا يفنى ليس إلا رمزا،
أما الريح فهي مكر شاعر"
"نيتشه"
خلف الخبث وتحت الغيوم
تنتظر المقبرة،
وأشجار السرو ترفض الكلام
لن يفهمني الزمان،
لقد ترك هذه المهنة لشواهد القبور
ومن كثرة الشواهد يتكلم الرخام
في ألسنة يخيفها الفناء،
لتتحول الى حشود لا تبصر إلا الفراغ،
وكأن الجرح أصاب النصل
ليذهب دمه في موكب إلى النجوم
واذا راقبنا هذا المنظر رأينا اننا نبعد
عن أنفسنا قدر رمح،
ثم نتعانق مع النار في مدار مات قبل،
أن يبلغ الحلم، لذلك نصعد
إلى سفينة أخرى يكثر فيها الوهم
والحديد،
لنقول كلمات لا تغادر أسماعنا.
وهكذا نصبح صالحين للفرار من العالم
الذي
يخلقا البيدق والعلامات التي توشم
عليه
إلى طقس من الظن
ثم نتسلق قلقا
يقودنا الى سيف فريد
نقطع به رأس القصيدة لتصير جوهرة
يضرب بها مثل لمن يأكل ظاهره باطنة
وهكذا تنبت أفراخ الزرع في تربة لا
تكتم السر،
فترتصف الوجوه محروقة بالشيء،
لتستحيل الى طين – فخار، أو خزف
وقبل كل شيء نفجع الرمل،
حتى لا ترانا حمرة الشمس في الغلس
فنتوقف عن الوصف فوق عتبة تتفسخ
فنتوقف عن الوصف فوق عتبة تتفسخ
تقاطيعها
من ثقل تباعدنا، نحن الراكضين خلف
نجمة ماحلة
من كثرة الخداع، في اضطراب يولد مرة
ويموت أخرى،
أو، في مد يداعب أقدام، عاهرة تعاشر
الغياب
ليومض الصواب بين نهديها متموجا
ومرتفعا فوق
ماء يتجمد من وقع خطوات لا يعرف
خالقها،
ويقال: أنه غرق، لأن سهما أصاب ظله،
وقبض نسر على قصته وطار بها الى
هاجس
ينتاب ولدا يركض على حافة جدار
يحيط بمنزل
مات أصحابه قبل أن ينظروا إلى
قصيدتي
وهي تخرج من ظهري كسيف عربي.
وهكذا يتداخل الحبر والمعدن
في طفولة لا تتحدث مع الغرباء،
الا من وراء ريح يطاردها شاعر
يرجم بحمم لا نهاية لها
تقدمي ايتها الحمم في أوراق لا يحبذ
وجودها
ولا تتوقفي عند رعب يتفل دما على
وجه الكلمات
كأنه سلطان دخان يكره الوصف.
أو حريق يخلق اللحظة في كنيسة من
اللحم،
لن تبوح لأمثالنا بما تحمله في فمها
من غبار
حتى لا يستعر التنافر في الوتر المشدود
نحو حتفنا
لنقل ان هذه الكلمات تحارب نفسها
كفحل شعر هاج يذبحه أهل الرمل
بحجارة وصخور تخرج من فم ساحر
تهزمني قوة السحاب
وترجمني أحلامي
بمعابد وهياكل يبنيها رجال يزولون لتزول
قيودهم
هذه حكمة تتشرد مذعورة مع خرق
كانت آخر بشرى حملتها الريح.
كيف لا تسترني هذه الخرق ؟ وأنا
أحارب تفاهتي في سواد يسوغ
لكلماتي موتها ويتأصل في عذابي
ونبذي
ان عذابي الباقي فتك ونفاق
ومهاوي خبيث علمته الحياة
أن يكون صمتا وعودا الى أول الأشياء
عظني يا رخام قبري
قربني من مقام يمزقني،
فقليل على وجهي أن يتوقل في كل
لحظة جبال الفناء،
واشهد بأني أحار،
لأن السؤال يسقط في عناق مع أبدية
يسخر البرق منها.
لكن، تشجعني وحدتي وتقذفني الى
عالم من خواء.
ثم تنفرد في رؤية تسير جنبا لجنب مع
شهوات تخون صاحبها،
لتتجلى صورا ورموزا تركض الدهر
خلفها فهي أطلال لا تعيد نفسها الى
غواية تمتزج بالحجر، حتى تكون الرؤية
من خلالها مشدودة بحبال تطيش
وتضطرب خائفة من ريح
تخدع يأسها، فتزداد الأشياء حيرة ثم
تستدير نشوى من دمع عتق في عيون
تكره محاجرها وهي منكوسة لا ترى
فيها
الا البياض يكاد ينكر نفسه أمام جمع
من الأوهام تخاطبه
رسوم ولذات تحير في تمازجها
تهزمني قوة السحاب
وتخونني الأيام
كأنني غبار على عبارات تستتر
اللحظات فيها ولا تحتاج
الى التبرؤ من أحوالها؛
وهذه أفكار لا تخرج من كلماتي الا
عارية ومثقلة
بصراخ يختار السراب الخاشع أمام
الخيانة والتجارب.
وأقول: لا علم لي بكل هذا ولا أريده،
وتجعلني الحياة كسبيكة وتقطعني
وتنحتني
لتصيرني ما لا أريده،
من أجل هذا ستشير قدمي الى وجهي.
لا أتوقف، أكتب
لا حرفة، لا رغبة
أكتب فقط لكي أنزف
عادت أيامي إلى سقوطها
وبنيت كوخا من عظامي ودخلت فيه،
لأرى النسيم يحفر قلبي
ويهتدي الى رأسي بنجوم من حبور،
العلو يسقط، والسقوط حائر.
ربما كان السؤال حجرا.
– والليل شعاع منفتق،
يبحث عن تصاعد أو تباعد
بين الكلمات التي تخرج واحات
من ثدي الصحراء؟
ليست الصحراء هنا ألفة أو دثارا
إنها رحلة الى الهاوية وليس الراحلون
الا غبارا يهتدي بغبار.
الكلمة تقتنص ويسلخ جلدها على
مسرح الصدمة
الصدمة تعلو وتهبط، تنفسخ وتوصف،
تصادقني الأفكار في عزلتي
وتصافحني أشياء لا أعرف اسما لها،
ويأتي لزيارتي كل مساء
الفجر والغسق في نعش واحد
ولماذا تنتصب ارادتي خلف كل هذا الهم
والتبغ
كتمثال من الصوان، وأين يكون البدء؟
بدأت أركض على ضفة أخذت تستحيل
الى
أشباح تطاردني، فتعثرت بظلي وسقطت
في القعر،
في القعر تولد النفوس المطلة على
انهدامي،
حيث يفترس القلق وجهي،
وينبجس دمي من شرخ في حجر قبري،
وعلى الرغم من كل هذا الحبر والورق
لا تكف الضباع عن نهش جثتي
وأصبح السراب ضرورة في صحراء
لا تتوقف عن الاتساع أمام ريح
ليست إلا شاهدة قبر
لن أتوقف، ولأن الأشياء رمال
يسبقني وجهي ليكون سرابي
في لغة تسمى سدما،
وعندما يهدأ الهدير ويصنع الإزميل
يجهد النعيب للهبوط الى عالم مكسور
تحيط بمعالمه الرمال وترتفع به الى
أعالي التلال صرخات أم حزينة
على اختها المسكينة التي ثرثرت مثلنا
وغابت
وأقسم ظلها أن يعود في السماء الى
مدينة
الزجاج والأضواء ليصل المعدن
بالبكاء،
أو ليطبع الرسوم على جثة تعوم في
الدموع،
التي انهمرت من عيون الضباب في
عتمة الفراق،
والنواح على معبد مهدوم يظهر في
الخلاء كأنه
النداء الذي خرج من فم نوح الغريب
الذي
خاطب الأحياء على سفينة الطوفان
بلغة
متعددة الجذور واحدة النبات ليقنعهم
بالنعيب وضرورة النعيب في غابة
الحياة،
قبر نوح وجوده
والريح الشاهدة
والماء الرخام
لا يسبق تمازج الحبر والورق
الا رحيل المعنى، وهذا كلام
لا يدخل في قواميس الحكماء أو
عتمة الشعراء.
خانتني مشاعري وحطمني طريقي
ولا أرغب إلا بسيف يقطع رأسي،
لكن، من أين تأتي براعتك في الصمت يا
شجرة السرو؟
هل تذكرين يا شجرة السرو تلك الأيام
التي كنت أتسلقها وأنا
أظن أن الله يحميني؟
لم أعد أعرف، ولا أريد أن أعرف، لكنني
ارى
أرى الغرابة تبكي وهي تقبل مع رائحة
الرياحين
من جبال حدثني التاريخ عن أحوالها
عندما فتحت
أحضانها لميراثي البسيط، وقبل كل هذا
نظرت الى السماء
وهي غافلة عني.
لكن، من أين تأتي براعتك في القتل يا
بقايا السماء؟
يا بقايا السماء، في آخر المد التقينا
ووعدنا الرمال بأن نمتزج بالزوال
فاغفري لي يا سماء تيهي الأخير
في غباء الحضور وخبث الغياب،
وكأنني صرخة في الخلاء أطلقها
النهر الجاري الى عتمة المصير
وهو يحمل على ظهره الزورق المصنوع
من عظام الرجوع الى أول الأشياء
أول الأشياء سقوطها،
والريح تموت، والشاعر يكذب
والوصف خالق.
وجودي رأس بلا قبعة
قبعتي وجود بلا رأس
والمكان دخان تبغي،
السلام عليك ايتها الأرواح الطاهرة،
يا أرواح كل القطط والخنازير،
أما أنت أيها الرعد فحاول أن تخيف
قلبا غير قلبي؛
ربما لن يأتي المساء هذا اليوم
وعندها فقط أجمع جماجم كل الموتى
وأبدد التراب الخبيث الذي يحيط بجثة
الشعر.
– وها هو الصوت الوحيد الذي يمنحني
النشوة
صوت أمي عند مطلع الصباح، وهي
تقول:
اسرع في الاستيقاظ لقد أتعبتك كل
هذه القصائد والترهات
وفوق كل شيء يعبر المد،
كأنه حلم بعالم آخر،
بعالم خال من الثرثرة والسردين
المعلب،
ولماذا أعشق الحانة ؟
في الحانة،
عند الوجه الآخر لعزلتها
حين يومض العالم
أقرع الكؤوس
باحثا عن وجه آخر لجمجمتي
بين الندامى وفي تيههم،
هكذا أصل إلى ما لا أريد،
وأعرف غير ما أعرف،
فقط، لونك أيها الخمر
يوجد الأشياء،
اقذفيني الى قعرك ايتها الكأس،
هناك حيث لا أرى لونا،
هناك عند منتصف الحياة،
تضحك الأشياء كلها،
وعندما تنفجر الصاعقة
أظهر كفطر.
لماذا لا اعشق الوصف وحياتي نعت
لوصف ؟،
هل ينبغي علي أن أتوقف ؟
فقد كثرت خطواتي فوق التراب
ولم تبق كلمة لم يلفظها لساني،
أو لم يكتبها قلمي،
إذن، لماذا أتعلق بكلام يعود
أو بصمت لا يعود،
ربما كان الشعر نارا مخمدة
في معبد مهدوم بناه علي،
قبر علي وجوده،
والريح الشاهدة
والوصف الرخام.
لكنني لا أعرف الحياة،-
هل يتبدى ما أحياه، لأعرف ما هو،
وكيف صار هذا الذي أراه،
جهلي لن يرتوي، والضجة المتنافرة
تعلمني كيف أدرك وحدتي وتفاهتي
بصفع أشكالي،
لأن كل ما هو معلوم يبدو شهوة وميلا
والممكن يسخر من الواقع،
أما الوصف فأي قوة خالقة هو.
الشيء الوحيد الذي منحني حبه
لا أعرفه، ولا أجهله
كأنه زقي الصدى.
حطمت جثتي نعشها
وعادت إلى قبرها.
القبر الذي لا يعود
ليس الا قناعا.
أبحث في وجهي عن أي قناع،
أبحث في قناعي عن أي وجه،
حتى العتبة الوحيدة
التي سمحت لي بوضع قدمي عليها
تفسخت وطردتني.
أكتب، لا كي أصل الى الذرى
بل لتعظم الهاوية؛
إذن، تعددي وتشردي يا اسرابا من
الكلمات.
فضيلتي الوحيدة
هي أن لي وجها من نحاس
يشرب مع الوحشة
نخب العزلة.
العزلة، بين غباء القارئ وجماله
تستقر العزلة.
أستحيل إلى عزلة وأنحني احتراما
لنفسي،
هذا ما علمني اياه سيف مكسور،
العلم، كل الأشياء التي علمتني أن
أقول
أراها ميتة عندما أقول.
لذلك اعتدت أن أمزق وجودي
كل يوم مثل ورقة.
-، يا أرض الله الواسعة انحصري
وتحددي
فلا مكان لخطواتي عليك.
يا أرض الله الواسعة
في التمزق المفاجئ لأ شرعتك
وسقوط الصاعقة التي أحرقتك
كنت ممزوجا فيك
وعابرا الى حيث تعبرين،
أنا التارك لوجهي أهواله،
أعبر في نسغ الأشياء،
أسمع تعاويذها.
– وهكذا، لعقتني الألسنة
ودخلت في كلمات مؤقتة
راغبا في الحصول على مطية لا
تعقر
وعلى وهم دائم حتى أعبرك
يا أرض الله الواسعة.
وعندما أعود الى الموت
عودة نسر الى وكره،
تظهرين في الخوف
وتدخلين وتخرجين مع
الأعضاء………
-، ولأن كل الأشياء رمال
يسبقني وجهي ليكون سرابي
في لغة تسمى سدما،
وأجهد وأنا صمت
يعبر رواق الليل وصراط الأحداق
لأرى الندى نقاب الحقد،
والأمل صريع الأحزان.
توقف أيها الوصف فقد حطمت حياة
شاعر
سخا بليل ايامه ثم ركب زورق نفسه
وغرق،
يا عجبا من هذه الشهوات أو الكلمات
اذا غضبت زحفت نحو مشكاة
لن ترتوي أبدا.
وهكذا أخبري يا آلامي قصتي
قبل الوصول الى المرآة
التي تظهر زمرة
من شياطين ومردة وكهان وأصنام
في حرب يتسلق قتلاها على شجرة
تدخل في نسغها كل الكواكب
وترسلها في عبارات
تخاطب اللفظ نفسه
وهو يخرج من ألسنة
تهتاج عندما ترى الرياحين باكية
من فراق الريح.
أين الصوت الذي لا نسمعه ؟
أين المشهد الذي لا نراه ؟
وقيل: أي طين هذا الذي نستعد له ؟،-
كأنه لم يدخل في قواميس الحكماء، أو
عتمة الشعراء.
إن الكلمات التي تتعرف على سقوطها،
تبحث عن حياتها وتصاعدها
من أجل هذه الأهداف
تمزقت عيون أمام عفويتها
التي تكسب الجمود استقرارا
حتى أن الصقيع كان سيدا وهو:
يرقص على قبر الوصف
واذا أردنا الاشتقاق من هذا المشهد
سمعنا سيوفا تقطع.
ومن كثرة السيوف تظهر الرؤوس
في حانات المدينة وأسواقها
كأنها نيران تلتهب في جوف شاعر،
أو سهم منفرد يطير بعيدا
تحت سماء لالون لها.
ذاهبة هذه اللحظة
قبل أن أولد
وبعد أن أموت
ما يتغير هو الشعور،
وما كان لن يكون،
وما حدث لن يحدث،
والعذر من سليمان
أو من خاتمه.
-، يدي التي تكتب الشعر
هي التي تستحق التنظيف
بعد خروجي من بيت الخلاء،
أي قدر هذا؟
-، دمي ينحبس من شرخ في حجر قبري،
ووجهي يصدأ،
تقدم أيها الصدأ في اللحم
وكن بلادا،
-، حلي قيودي يا وحدتي
امنحيني قسوة موسى
واستبقي عصاه
فلم تعد هناك بحار تستحق العبور.
لا شيء يعلو، لا شيء يهبط
الا دخان يخرج من جثث الكلمات،
واليأس عين لا ترى الا الرمال
التي تتراكم فوق الرمال.
لا أيها الفخار، لن أصاغ كما تصاغ،
فاليوم بوم ينعب في رأسي
وأنا لا شيء،
وغيري يتبع وهمي.
ضباب يدخل في نفسي هذه اللحظة،
لأنني لا أراكم ترسمون جثتي على لساني،
وعندما أتكلم تظهر أنيابكم
كلصوص يجتمعون بين
أشجار غوشى(1) وبلوط.
-، قبر شعري وجوده
والحبر الشاهدة،
والقارئ الرخام…
ـــــــــــــ
1- الغوشى: شجر صلب الخشب تصنع منه آلات الطرب.
علي محمد أسبر (شاعر من سوريا)