مارلين كنعان
ليس من مسألة تستوقف الفكر الفلسفي كمسألة الألم والمعاناة. ما الألم وما المعاناة؟ وهل يحيا الإنسان ولا يتألّم؟ ولماذا يتألّم؟ هل الألم جزء من الطبيعة البشريّة ممتزجٌ بها أم هو دخيلٌ عليها؟ ما هي العلاقة القائمة بين الفكر والألم؟ هل في استطاعة الإنسان أن يتحمّل الألم إذا حلَّ به، أم هل في استطاعته الابتعاد عنه أو تجنّبه؟ وهل يمكن للألم أن يكون سبيلًا من سبل المعرفة البشرية؟ هل هو المحفّز على الحياة بحسب ما يقول نيتشه في شذرة شهيرة وردت في كتاب «إرادة القوة» حين تمنّى للّذين يهتمّ لأمرهم المرَضَ والكآبةَ والمعاناةَ والعذابَ والانكسار والهزيمة1؟ وهل يعبّر الألم عن الهويّة الضعيفة للإنسان؟ ومن هم الفلاسفة الذين جعلوا من الألم والمعاناة محور فكرهم فأضفوا على الجدليّة القائمة بين الهوية الذاتية وتجربة الألم معنًى وجوديًا؟ الناظرُ في تاريخ الفلسفة منذ محاورات أفلاطون وصولًا إلى كتابات بول ريكور يقع على نصوص فلسفية عديدة تعالج هذه الأسئلة من زوايا مختلفة. لكن لا بدّ، بدءًا، من تحديد هذين المصطلحين والتوقّف عند سؤالهما المطروح بقوة على الفكر الفلسفيّ. فالألم والمعاناة لا ينتجان عن المرض فحسب، بل عن عوامل كثيرة، ومصدرهما ليس واحدًا. ثمّة ألم جسديّ وعذاب جسمانيّ، وثمة ألم نفسيّ حميمي ومعاناة مادية وعاطفية وأخلاقية وروحية تصيب الأصحاء جسديًّا.
تحديدات
الألم في الفلسفة هو أحد الظواهر الوجدانية الأساسية. هو حالٌ جسديةٌ ونفسيةٌ معينة يصعب تعريفها، تتميز بإحساس مادّي أو معنوي بعدم الراحة أو الشعور بالضيق والاكتئاب.
ينشأ الألم الجسمانيّ عن إحساسات جسدية ذات مصدر محدّد كوجع القلب أو اليد. وينشأ الألم النفسيّ عن تأثير الميول والاعتقادات والأفكار، كمن يرسب في امتحان أو كمن يسمع بموت قريب2. ومن خصائص الألمين الاشتداد والانتشار. وقد حدّد بعض علماء النفس والفلاسفة كبول ريكور الإنسان بوصفه هذا الكائن المعرّض للأخطاء والقادر على تحمّل المعاناة الدائمة3. واتفقوا على الاحتفاظ بمصطلح الألم للدلالة على الوجع والاعتلال الجسديّ أو التأثيرات المحسوسة والموضعية في أعضاء معيّنة من الجسم البشري أو في الجسم كلّه، والاحتفاظ بمصطلح المعاناة للدلالة على ما يعرفه المرء عن نفسه وما يعرفه الآخرون عنه في تجربة شخصية يشعر بها كلّ من يعيش في الهَمَّ والشقاء والتبعات الناتجة إمّا عن الألم الجسدي وتأثيراته على النفس والفكر وعلى العلاقة بالذات والآخر وبمعنى الوجود، وإما على الاضطرابات والمشاكل التي كان لها تأثير على حياة الفرد. من هذه الاضطرابات عدم القدرة على تلبية الاحتياجات الشخصية المادية أو العاطفية، أو فقدان أحد المقرّبين، أو الانفصال عن المجموعات الاجتماعية، أو الحدّ من الحرية. ويمكن أن تأتي المعاناة، وهي جزء من الحياة، كما الألم، على درجاتٍ متفاوتةٍ من الشدّة، بحيث تبدأ خفيفة لتصل إلى حدٍّ لا يطاق، يرجع تقديره حسب الشخص والظروف التي يمرّ بها.
تحدث المعاناة إذًا ضمن العديد من مجالات النشاط البشري وتختلف أشكالها بحسب طبيعتها وأصلها وأسبابها ومعناها ومغزاها والسلوكيات الشخصية والاجتماعية والثقافية المرتبطة بها، وكيفية إدارتها والمواقف تجاهها. لكننا قبل أن نضع مسألة الألم والمعاناة موضع السؤال الفلسفي، يهمّنا أن نشير أولًا إلى ازدواجيةِ العلاقة القائمة بين الهوية الذاتية والألم، لا بل إلى تناقضهما.
نحن نعلم أنّ المرء لكي يدرك جسده ونفسه، عليه قبل كل شيء أن يشعر بهذا الجسد. فغالبًا ما يدرك الإنسان جسده عندما تقوّضه الآلام وأحداث الحياة، كما لو أن سيرورة الوجود تفرض على المرء أن يمرض ليعي معنى الصحة، وأن يشعر بالوجع ليتذوّق العافية والاستقامة البسيطة للأشياء والوحدة بين الوجدان والجسد الذي يحمله. ما يعني أنّ الألم باب من أبواب معرفة الذات، دونه تبقى أبواب هذه المعرفة موصدة. ولئن بدا الألم ضروريًا كي يدرك المرء نفسه وجسده، فإنه يظلّ مع ذلك ظاهرة متناقضة، إذ يمكن للألم الجسديّ القوي مثلًا أن يترافق مع استسلام الإنسان له حتى فقدان الوعي وانهدام الذات، ويمكن للقليل من الألم الجسديّ ألاّ يمكّن الإنسان من إدراك ذاته وبناء نفسه. ذلك أنّ بناء الذات يفترض التغلّب على الآلام والشدائد والمرور بتجارب قاسية.
الفلسفة والألم ومسألة المعرفة
حتى نفهم هذه الازدواجية المتناقضة والحدّ الفاصل الذي لا يجوز تجاوزه بين الألم والمعاناة ومعرفة الذات، أعود إلى الميثولوجيا اليونانية على غرار الفيلسوف الإيطالي جوردانو برونو (1548–1600) عندما أراد تحديد نظرية المعرفة في كتابه «الغضب البطولي»4، وتحديدًا إلى أسطورة الصياد أكتيون. تقول الأسطورة اليونانية إن أكتيون انفرد بنفسه ذات يومٍ أثناء رحلة صيد حتى وصل إلى أرض مقطوعة الأشجار. هناك شاهد الربّة أرتيميس في عريها المدهش تستحمّ في بركة مياه، وقد أحاطت بها حورياتها، اللواتي، حينما لاحظن وجوده، تجمّعن حولها ليحجبن عنه رؤيتها. لكن الربّة عرفت أنه أبصرها، فغضبت عليه وحوّلته للحال إلى أيلٍ حتى لا تدع بشريًّا يقول إنه شاهد عريها.
ابتعد أكتيون عن الأرض المقطوعة الأشجار مزعزع النفس مشوّش الحواسّ، لم يفهم ما حدث له. غير أن الحقيقة صدمته عندما رأى انعكاس صورته في مياه نهر وعرف أنه لم يعد إنسانًا. مع ذلك، لم يلبث أن شعر بفرح عظيم حينما سمع من بعيد نُباح كلابه. لكنّ لحظة الفرح هذه سرعان ما انقلبت إلى لحظة رعبٍ حقيقي، لمّا تأكّد له أنّ كلابه لم تعرفه، وبأنّها تطارده هو بالذات، وها هي تتمكّن من الإمساك به، فتمزّقه إربًا وتبعثر أشلاءه.
أكتيون هذا كان في الوقت عينه رجلًا وأيلًا، صيّادًا وطريدة، موضع تحوّل مؤلم ومخيف حتى الذروة. جسّد في شخصيته صورة الكائن القادر على معرفة ذاته حتى أقصى الحدود. وقد رأى جوردانو برونو في قراءته لهذه الأسطورة أن تعبير»الغضب البطولي»، إنّما هو التعبير الأمثل للدلالة على حال أكتيون الذي تعبّر قصّته عما يتفرّد به الإنسان ويتعيّن به وجوده في الزمان والمكان، عنيت هذه القدرة البطولية على إدراك ذاته ومعرفتها حتى أقصى الممكن، وإن ترافقت هذه المعرفة مع الألم والغيظ، عدوَّي الإنسان الوحيدين القادرين على إلحاق الضرر بجوهره وهويّته وطبيعته الخاصة. لقد بقي أكتيون واعيًا لماهيته الإنسانية حتى الذروة، على الرغم ممّا أصاب جسده من تحوّلات وتغيّرات جذرية. لكن وعيه هذا، المتلازم مع الإحساس بالألم والغضب، ترافق في الوقت نفسه مع تجلٍّ معرفي مطلق واتصالٍ كثيف بالواقع، تجسّد في مفارقة ظاهرة صورة الإنسان البطل المدرك لواقعه الشقيّ والعارف بحاله الآيل إلى الموت، الآن وهنا، في حدوده القصوى.
الإنسان واختبار الألم
أسطورة أكتيون هذه تطرح علينا أسئلة عديدة، لعلّ أولها يتمحور حول قيمة إنسانية، كائنٍ لم يختبر يومًا حدود إنسانيته بل بقي طيلة حياته قابعًا على هامشها. وثانيها يدور حول حياة إنسانٍ لم يشعر يومًا بالألم ولم يفقه الأخلاقيات المترتّبة على المعاناة الحياتية. من هذه الزاوية أدركت الفلسفة الوجودية منذ كيركغورد، حتى كامو وسارتر، الوجه الآخر للحرية، وعرفت أنّ الإنسان لا يمكنه تذّوق الحرية إن لم يكن قد اختبر السلب والضيق والألم، وأنّ الكثير من الحرية، كالكثير من الألم الجسدي أو المعنوي، يعيق الإنسان عن بناء ذاته وكينونته الفاعلة. ولئن كانت علاقة الإنسان بالألم شديدة التناقض، فإنّ تحديدها من وجهة نظر فلسفية أصبح صعبًا جدًّا. لا بل إنّ بعض الفلاسفة القدماء والمعاصرين رأوا في هذه العلاقة تعريفًا محتملًا لفعل التفلسف نفسه. ما يعني أنّ الفلسفة باختصار هي فنّ التعبير عن الألم وعلاقته بالذات الإنسانية، بوصفه الطريق الوحيد لمعرفة النفس ولمعرفة الآخرين والعالم. إنّه طريقٌ معبّدٌ بالصراخ والتحدّي مع الآخر، سواء أكان هذا الآخر مرَضًا، أي ألمًا ومعاناةً جسدية أو نفسية حتى الموت.
أورد في هذا السياق ما قاله الفيلسوف والطبيب النفسيّ الألماني كارل ياسبرز بإنّ الإنسان لا يحقق ذاته إلاّ حين يواجه وضعيّات نهائية تصبح فيها كينونته على المحك5، وما قاله الفيلسوف السويسري إميل أنغيرن (1946) في دراسته الرائعة «المعاناة والفلسفة» حينما تحدث عن عجز الإنسان عن تجاوز الألم على مستوى المعنى الوجودي، ورأى في هذا العجز تحديدًا للشرط الإنساني6.
يطمح الإنسان، وفقَ هذا الفيلسوف، إلى السعادة والمعنى، لكنّ طموحه هذا محكومٌ بالفشل، بسبب غياب قدرته على فهم هذا الألم وتخطّيه ودخوله في علاقة مع الشروط الأساسية لكينونته في تجربة سلبية. ويتساءل أنغيرن عن سرّ الارتباط الجوهري في الحياة الإنسانية بتجربة الألم والفقد والخسارة وليس بتجربة الطموح وتحقيق الذات بصورة إيجابيّة. لذلك يرى الفيلسوف السويسري أنّ الألم وإدراك الإنسان نفسه هما وجهان لعملية معرفية واحدة، تقود الإنسان في النهاية إلى الفرار من ذاته في اتجاه هذا الوجود الذي أطلق عليه هايدغر صفة اللا-أصالة7، مع ما تعنيه هذه الصفة من ابتعاد عن الوجود الحقيقي الأصيل. من هنا نفهم عبارة تيودور أدورنو عن ضرورة ترك الألم يتكلّم8، وقول جان جونيه: «وحدهُ الجُرحُ أصلُ الجَمال9».
لا بدّ من الإشارة هنا إلى أنّ شوبنهاور أكّد، قبل أنغيرن وأدورنو، أنّ الإنسان لا يعيش -بحسب لايبنتز- في أفضل العوالم الممكنة، بل في أسوأها، لذا كانت أطروحته قائمة على الزهد بالوجود10. أمّا نيتشه فذهب حتى التأكيد أنّ مشكلة الإنسان لا تكمن في الألم بحدّ ذاته، بل في غياب الجواب على سؤال: لِمَ الألم؟ لا بل أنه نفى وجود الألم حين قال في «إرادة القوة»: «ليس هناك ألم في ذاته. ليس الجرح هو ما يؤلم؛ بل المفهوم الذي اكتسبناه بالتجربة، مفهوم العواقب الوخيمة التي قد تكون لجرح ما على سائر الجسد11». لذا كان المثال الزهدي الذي قال به شوبنهاور كردٍّ على الألم والمعاناة، لا يقدّم، في رأيه، سوى جوابٍ مزيّف يجعل من الإنسان كائنًا مكتفيًا بالكذب والأوهام، خائفًا من مجابهة حقيقة الوجود12.
من وجهة نظر نيتشه، كلّما أراد الإنسان أن يكون ناجحًا، كلما بحث عن المعاناة والألم وجابه حقيقة الوجود. الألم، في رأيه، هو الدافع الحقيقي نحو التقدم في الحياة وإنكاره ليس دونه عواقب، كأن تصبح الحياة مرتبكة وفقَ كانط، مخالِفةً للعقل والمنطق، خاضعةً لوصاية الأهواء والعواطف. لأنه بمقدار ما يكون الإنسان خائفًا من الألم، بمقدار ما لا يستحقّ صفة الإنسانية. من هنا نفهم قول الرازي بأنّ الألمَ وجوديّ13».
لا يعني إنكار الألم أو عدم الخوف منه تخلّي الإنسان عن الاهتمام بحماية نفسه أو تعلّم التحكم بآلامه ومجابهتها بكفاءةٍ قادرة إلى حدٍّ ما على تدجين الألم وترويضه، علمًا أنّ الشعور بالألم يمكن أن يصبح هويّة عند البعض، مكان الانسحاب من الحياة وطريق تحرير الذات من واجب «العيش بشكل جيّد».
لقد اعتبر فلاسفة اليونان قديمًا أنّ «العيش بشكل جيد» يتأتّى من العيش وفق القواعد والقيم الأخلاقية. أي أنّ «العيش الجيّد» ناتجٌ عن فعل الإنسان نفسه، القادر، الآن وهنا، على خلق شروط حياتية تؤمّن له الحدّ الأدنى من الشعور بالألم الجسدي والمعاناة النفسية. ما يعني أنّ التقليل غدًا من الشعور بالألم يفترض، منذ اليوم، العمل على تعلّم مجابهة الأوجاع والإخفاقات في مسارٍ يتطلّب التأويل. ذلك أن علاقة الإنسان بالألم تظلّ علاقة تأويليّة بامتياز، وقد تهدف إلى تجاوزه كما قد تعمل على مصالحته معه وإقناعه بالاعتراف به كمحدِّد من محدِّدات الشرط الإنساني.
أجرؤ على القول إنّه في فلسفة أفلاطون وعالم مُثُلِهِ ليس من مكان للألم. فهو، وإن كان «موجودًا» في عالم الصور بمعنى جسديّ أو نفسيّ، فإنه غير موجود فعلًا، لأنّ الوجود الحقيقي محصورٌ في عالم المثل. بعبارة أخرى، الألم موجود في عالم الصور، وعلى الذات أن تسعى إلى تجاوزه والنأي بنفسها عنه، لأنّه ليس سبيل المعرفة الحقيقية14.
لكن، إن أمعنّا النظر في هذه الفلسفة في مرحلتها الأولى وتوقفنا أمام مقولة سقراط القائمة على مبدأ «اعرف نفسك بنفسك»، لوقعنا على معادلة جديدة تتعلّق بموضوع الألم والمعاناة وتخفي في باطنها فكرةً أكثر تعقيدًا: إذا كان الألم ليس بالضرورة مكان انبثاق المعرفة أو الحقيقة، فإنّ المعرفة بالتالي هي التي تتبدّى مكان انبثاق الألم ونقطةَ انطلاق الفكر الفلسفي. فالفلسفة من المنظار السقراطيّ- الأفلاطونيّ تترادف مع مسار التخلي عن الجسد لصالح النفس والروح، من خلال إنكار العالم الحسيّ لصالح الماورائيات ومُثُلِها. وهذا المسار مؤلم إلى حدٍّ ما مع ما يرافقه من تحرّر الإنسان من ثقل الجسد، المنظور إليه كسجنٍ يعيق النفس عن الانطلاق بحرّية، بغية بلوغ سدرة الكمال والحقيقة.
في محاورة «فيدون» يحكي لنا أفلاطون على لسان أستاذه سقراط عن أنّ الألم الحقيقي والوحيد هو ألم النفس والروح، وإن كانت النفس في جوهرها فوق كلّ الآلام، وقادرة على التغلّب على كلّ الكلوم التي تجعل الإنسان يشعر بمحدودية وجوده.
الفلسفة المعاصرة تقدّم لنا مقاربةً مختلفة لمسألة الألم. الفيلسوف الألماني بيتر سلوترديك المولود سنة 1947 والسائر في فلسفته على خطى نيتشه، جعل من الألم والمعاناة مقولة فلسفية بامتياز ومعيارًا للحداثة، لا بل معيارًا لما بعد الحداثة. ذلك أنّ الألم والمعاناة، بالنسبة إليه، لن يتضاءلا أو يختفيا مع مرور الزمن، بل سينموان باطّراد، كلّما نما العلم وتطوّرت التكنولوجيا، ليصبحا «الضيفين الجديدين» على جميع الأحداث المستقبلية. ويرى بيتر سلوترديك أن الألم والحرية، على قسوتهما، هما في أصل مأساة الإرادة الإنسانية وأن حياة الإنسان ليست سوى صراع من أجل الوجود سينتهي حتمًا بهزيمته. وها هو يحدّد الحياة الإنسانية بوصفها هذا التاريخ الطبيعي للألم، تبدأ مع التعلّق والرغبة وتترافق مع المعاناة والنضال الدائمين حتى الموت15.
الألم ليس فقط ذاتيًّا، بل هو -وفق تعبيره- «التاريخ الطبيعي» للجنس البشري ومكان تجلّي ماهيّته. ولأنّ الإنسان بطبيعته كائنٌ يتألم على صعيد جسده ونفسه، فإنّه في آلامه ينفتح على الآخر ويقوم بالاتصال بمن حوله. بهذا المعنى، ينظر سلوترديك إلى الألم بوصفه الباب الذي يستمدّ منه الإنسان مبدأ علاقته بالعالم. وبهذا المعنى أيضًا يصبح من البديهي طرح السؤال الآتي: هل يمكن اعتبار الألم أساس العقد الاجتماعي؟ وهل يمكن اعتبار التوقّف عن الشعور بالخوف والألم غرض الاجتماع الحقيقي؟
يبدو بوضوح أن الألم عند سلوترديك هو علامة الفكر وطريق الفلسفة، تمامًا كما عند شوبنهاور وكيركغورد الذي غالى في تقرير أهمّية الألم وفطن إلى أنه هو الذي يعطي وجودنا الشخصي فرادته وأصالته16. لعلّه، وفق استعارة كانطية، «البوصلة» الوحيدة القادرة على توجيه مسرى الحياة الحقيقي وتحقيق التاريخ الفلسفي بوصفه سردًا لجراح الإنسانية. أن يعاني الإنسان يعني أن يخضع جزئيًّا لما يحدث من خلال تجربة سلبية قادرة على هدم كينونته، لكنّها في الوقت نفسه قادرة على بنائه.
في الختام، أودّ أن أقول إنّ التأويل في الفلسفة هبة الألم الذي لا نستطيع التحرّر منه وإن الفلسفة وإعطاء المعنى لاختباراتنا وتجاربنا الوجودية هبة الحياة أيضًا. فليس مثل الألم من يعرّفنا أبعاد ذواتنا، ولعلّه بحسب شوبنهاور هو الأساس الذي يقوم عليه العالم، الأساس الذي يجعلنا نعيش الزمن في تفاصيله ونواجه فيه كلّ كينونتنا التي يأخذها إلى مطارح أخرى.
الهوامش
نيتشه، «إرادة القوّة، محاولة لقلب كلّ القيم»، ترجمة وتقديم محمد الناجي، الدار البيضاء، أفريقيا الشرق، 2011، شذرة 447، ص337.
جميل صليبا، «المعجم الفلسفي بالألفاظ العربية والفرنسية والإنكليزية واللاتينية»، الجزء الأول، بيروت، دار الكتاب اللبناني، 1982، ص. 123-126.
Paul Ricœur, De l’homme faillible à l’homme capable, Paris, Presses Universitaires de France, coll. « Débats philosophiques », 2008.
Giordano Bruno, Des fureurs héroïques, Paris, Les Belles Lettres, coll. « Les classiques de l’humanité », Paris, p. 2008 [1585], p. 204-205. 374-375.
Karl Jaspers, Autobiographie philosophique, trad. P. Bondot, Paris, Aubier, 1963, p. 15-25.
Emil Angehrn, “Die Leiden und die Philosophie, Die Ethik Arthur Schopenhauers”, im Ausgangvom Deutschen Idealismus (Fichte/Schelling), Würzburg, 2006, S. 119-132.
Martin Heidegger, Être et Temps, trad. François Vezin, Paris, Gallimard, 1986, p. 223.
Arianne Robichaud et Marie-Hélène Masse-Lamarche, « Une analyse de la souffrance enseignante : Horkheimer, Adorno et l’humain comme être souffrant », Éducation et socialisation [En ligne], 54 | 2019, mis en ligne le 24 novembre 2019, consulté le 23 juin 2023. URL: http://journals.openedition.org/edso/8426;DOI :https://doi.org/10.4000/edso.8426
Jean Genet, L’Atelier d’Alberto Giacometti (1958), in Œuvres complètes, vol. V, Paris, Gallimard, (1952–91),1979, p. 51.
Arthur Schopenhauer, Douleurs du monde. Pensées et fragments, Préface de Didier Raymond, Paris, Rivages poche-Petite Bibliothèque, 1991.
نيتشه، «إرادة القوة»، ص. 246
المصدر نفسه.
فخر الدين الرازي، «محصل أفكار المتقدمين واللاحقين من العلماء والحكماء والمتكلمين»، تحرير سميح دغيم، دار الفكر اللبناني، 1992، ص. 75-76.
Platon, Apologie de Socrate. Criton. Phédon, trad. Luc Brisson, Paris, Garnier-Flammarion, 1996, p. 41-55 ; 29a-41d.
Peter Sloterdijk, Critique de la raison cynique, Paris, Christian Bourgois Éd., 2000, p. 15-16.
Dominic Desroches, « Existence malheureuse et temporalité. Réflexions kierkegaardiennes sur le sens de l’existence », Horizons philosophiques, vol. 14, n° 1, 2003, p. 39-55.