عزالدين بوركة
ما بين الشعر والأسطورة:
إن أخذنا بالتحقيب الزمنيّ المعمول به من قبل مجموعة من نقاد الشعر في المغرب؛ فالشاعر والناقد/الباحث صلاح بوسريف يعدّ من شعراء جيل الثمانينيّات، من القرن المنصرم، وإن هو عندنا يتجاوز هذا التصنيف الزمنيّ الذي يضع التجارب الشعريّة والأدبيّة في موضع زمنيٍّ لأسلوب كتابيّ قد تكون تجاربهم هذه قد تجاوزته حينها، أو قد حدث عليها تطوّر جعل منها تجاربَ صانعةً للكتابة في أفقها الراهن والمعاصر. لهذا نفضّل ونحن بصدد الحديث عن تجربة هذا الشاعر أن نتخطّى هذه العمليّة التحقيبيّة، للحديث عمّا يُمكن تسميته بـ”التجربة الشعرية”، وهي المقولة التي يتبناها الشاعر عينه، وهو يطالعنا بنصوصه النقديّة التي تعالج الكتابة الشعريّة في شكلها الحالي، بكل ما تجاوزته من الرهانات الكلاسيكية وحتى الحديثة في شق كبير منها.
عوَّدنا صلاح بوسريف على ركوب قوارب المغامرة في أعماق بحار الشعر العصيّة، فالكتابة بقدر ما هي نداء إلى الإبحار فهي عملية مغامرة تستدعي من صاحبها مطالعة الأفق، الذي لا يجب أن تطمئن له ولديه، وترسي في موانئه دونما نية معاودة الإبحار. بل على الكاتب، الشاعر في هذه الحالة، أن يستعدّ -على الدوام- لركوب الأمواج من أجل مغامرة جديدة والتطلع لأفق أبعد، كأنه ذلك السندباد البحري الذي ما إن تطأ قدمه اليابسة حتى يحنّ إلى البحر. لهذا ليس من باب الصدفة أن نجد بوسريف يقول في مجموعة الشعرية “مثالب هوميروس” (الكتاب الثاني، ص 39):
“حتى اليابسة إن بدتْ
يليها الماءُ.
جزر أقفاص
لا
طيور في سمائها تغسل زرقة السماء،
أو
تلوّن السحب بانشراح ريشها”.
هكذا أقرأ نصوص بوسريف الشعرية التي، ومنذ عمله الشعري الأول “فاكهة الليل” (1994)، تراهن على “أفق لأشكال محتملة”، كما يقول في أحد أعماله النقديّة. كل هذا عمادُه “المغايرة والاختلاف”، ما يمنح الشاعر وجوده واستقلاليته الذاتية ليجيب عن النداء الذي يستدعيه للكتابة. سنقف في دراستنا هذه عند أحد أعماله الشعرية الأخيرة، والضخمة، “مثالب هوميروس..” في جزئيْه –الكتابيْن- الصادرين سنة 2020، عن دار فضاءات للنشر والتوزيع، بالأردن.
لماذا هذا العمل الشعري بالتحديد؟ لكونه يشكل في اعتقادنا، رؤية شعرية كونيّة تخرج بالشاعر من صوت المحليّ/العربي (بعد اشتغاله على ملحمة جلجامش1شعرا) إلى الكوني/الإنساني، عبر استحضار أهم تجربة شعرية وأسطورية كان لها الدور الأهم في صناعة العالم القديم، بكل تلك الحكايات التي وضعتها موضع الشعر، وجعلت من الإمكان تناقلها لتغدو في صلب الثقافات والحضارات القديمة. هوميروس هذا المؤرخ/ الشاعر الأعمى الذي نطق شعرا بالأسطورة، وغدا هو عينه أسطورة فيما بعد، وإن سينفي عن نفسه ذلك قائلا “لم أولد من شجرة سنديان، أو من صخرة، بل من كائن بشري”؛ إلا أن البعض يرى بأن هوميروس ليس اسماً لشاعرٍ تاريخيٍّ، بل اسمًا مستعارًا، لمجموعة من الشعراء الذين ألفوا الملحمتين الإلياذة والأوديسة على مرّ السنوات.
“القادم طيفُ هوميرَ،
يدهُ رستْ على خصلات شَعْره تمسحها من شطف حربٍ،
راياتها ما تزال عالقة في لسانه”2 .
لا يهمنا هنا البحث عن حقيقة هوميروس، بقدر ما تتعلق سيرتُه بالأسطوري الذي يعمل عليه صلاح بوسريف وهو يحاول أن يبحث عبر هذا الاستحضار عن الإجابة على سؤال طرحه بنفسه، “أليس بإمكاني أنا كإنسان في هذه الأرض أن أقرر مصيري بالطريقة التي أريدها وأرغب فيها؟”، وهو سؤال يأخذ أحقية طرحه من الواقع الحالي، في ظل ما بتنا نعيشه ونشاهده من دمار بدون سابق إنذار، فيكفي أن يأتي أحدهم محزما “بحزام ناسف وينفجر أمام الآخر بدعوى أنه مأمور من الإله، لينظف الأرض، في حين أن الأرض نظيفة ما دام فيها الإنسان، ولا نحتاج أن ينظفنا أحد، بل نحتاج أن ننظف فكرنا وخيالنا وعقلنا وهويتنا وتجديد طريقتنا في النظر إلى الأشياء”، كما يقول بوسريف. وكأني به يحاول أن يجعل من الشعر فعل مقاومة وفعل تطهير لكلّ أشكال الدّمار هذه التي باتت تطاردنا، فهل ينجح الشعر في ذلك؟ تكمن الإجابة في مفهوم الأسطورة عينها، التي بقدر ما نصنعها تتحول لصانع لنا وتتحكم في مصائرنا.
“من الساردُ،
ما البداية التي آلتْ إليها الحكاية
قبل أن تشرعَ الأسطورةُ في ابتلاع أبطالها”3 .
الشعر بين الكلمة والأسطورة:
نقرأ في الإنجيل، “في البدء كانت الكلمة”، وإن أعظم شيء طوّره البشر على طول مراحل تقدمه وتطوره هو النطق بالكلمات، هذا الفعل الذي أخرجه من حالة الطبيعة القصوى إلى حالة التحضر، لهذا “ليس غريبا أن تكون الأسطورة عند الإغريق هي (ميثْ)Myth أو (ميثوسْ) Mythos التي تعني “الكلمة المنطوقة”. والكلمة هنا ليست أي كلمة ينطق بها الإنسان، كما أن لفظ “منطوقة” لا يعني أي مجال تنطق فيه الكلمة بل إن الكلمة في هذا المجال، ذات شكل خاص لها وظيفة خاصة. إنها كلمة سحرية كما أن وظيفتها وظيفة سحرية؛ ومن ثم فإن المجال الذي تنطق فيه مجال خاص تطفو فيه المشاعر فوق العقل والمنطق لتسبح في عالم مليء بالصور التي ترتبط كل الارتباط بمكون اللاشعور الجمعي”4 . ما يقودنا إلى القول بأن هذه الكلمة المنطوقة قد تحولت بفعل هذا اللاشعور الجمعي إلى حكاية من ثمة إلى أسطورة، فـ”في البدء -إذن- كان الأسطورة”، والتي كانت شعرًا منطوقًا.
لم تكن في العصور القديمة إمكانية تناقل الحكاية، الأسطورة، إلا شعرًا، إذ لم يكن الشعر ولا الأسطورة منفصلين عن بعضهما بعضًا؛ بل إنّه لا يوجد شاعر تقريبًا إلا وأدخل الأسطورة إلى أشعاره بشكل أو بآخر، فالأسطورة تشكِّل نظاما خاصّا داخل بنيةِ النصِّ الشعريِّ العربيِّ، بما فيه الحديث، وذلك لما تُتيحه من رمزيّات ودلالات متعدّدة وما تقدّمه من إمكانيّات “الغموض” الذي يقود المتلقّي إلى البحث وإعمال التأويل وهو يتناول النصّ الشعريّ. غير أننا لا نعتقد بأن صلاح بوسريف يتوقّف عند هذا الطرح ويطمئن إليه، بل يتخطّاه إلى كون عمليّة استحضار الأسطورة لديه تعتمد على «متخيّل شعريّ»، لا يعمد من خلاله بوسريف إلى إعادة كتابة الملحمة –أو الأسطورة- شعرا أو إعادة حكيـها، بل إلى إعادة تركيب خيالٍ شعري عبرها، فصلاح لا يحاول تشكيل صور، بل تغييرها من خلال الخيال، فنحن كما يقول الفيلسوف باشلار «نريد دائما من الخيال أن يكون ملكة لتشكيل الصور، إلا أنه بالأحرى ملكة لتغيير الصور التي يقدمها الإدراك، خاصة ملكة تحريرنا من الصورة الأولى، تغيير الصور. إذا لم يحدث تحوّل للصور وامتزاج غير متوقّع لها، فليس ثمة خيال، وبالتالي ليس هناك من فعل متخيل»5 . لهذا ما توظيف الشاعر للروح الأسطورية، هوميروس وقصصه، إلا من منطلق رمزيّ يعمد إلى إسقاطه على حاضرنا ومستقبلنا الكونيّ المشترك. وذلك في ظلّ السياق العالمي المشحون بالنّزاعات والخلافات لا الاختلافات، فيقول بوسريف في هذا الصدد: “‘مثالب هوميروس’ تسير في هذا السياق، وكيف يمكن أن ننتبه أن الزمن لم يتغيّر، أو بمعنى أدق أن الزمن في سيرورته داخل الإنسان لم يتغير في علاقته بالسماء، بينما علينا الاهتمام بالأرض على اعتبار أنها المسكن لوجودنا اليومي”.
“الزمان في جسمي سرى
كنهر ماؤه شربَتْه الحقول،
وأغصان أشجاره التي كان رعاها بخضرته
شفت،
كأنّ الشمس راوغتْ سريري،
أو خبت.”6
الوجود بالاختلاف:
الكتابة “وجود بالاختلاف”، إنه اختلاف مشروع لا يعمد إلى أيّ نوعٍ من الخلاف والصراع، اختلاف عماده العيش المشترك بكل تعدّد وتنوع وغنى ثقافي وبشريّ.. هكذا أقرأ المشروع الشعريّ لصلاح بوسريف، وحتى مشروعه النقديّ، الذي يتجه إلى البحث عن رسم معالم كل الآفاق المحتملة والممكنة التي تتعايش فيها الرؤى الإبداعية والإنسانية فيما بينها؛ لهذا يتّخذ هذا الشاعر من بطل حكايات هوميروس، رمزية في مجموعته الشعرية “مثالب هوميروس”، رمزية للإنسان المعاصر، التائه في مآلات الحاضر كأنّه ما إن يولد حتى يخرج من رحم أمه ليلج رحم أسطورة واقعيّة، عنوانها “العالم هنا والآن”، فيختفي وسط من يشبهه من البشر الآخرين الذين يقاسمونه أدوار البطولة.
“لوح بمنديلك أوديسيوس،
اصرخ،
أو ابك،
لأراااك”.
هذه الدعوة للصراخ، هي دعوة للانعتاق من مطارق الواقع المفروض علينا، واقع تتحكم فيه “ميتافيزيقيا” معاصرة، احتلت سماء كل الميتافيزيقيات القديمة؛ لكنها وإن جاءت كشكل بديل عنها فقد ظلت محافظة على صفة “الاختفاء” والاغتراب؛ فنحن محكومون ومسيرون بلا إرادة من قبل أيادٍ خفيّة، “الآلهة الجديدة”!. وفي الوقت عينه نخضع أنفسنا لعملية المراقبة الذاتيّة، فلا نستطيع أن نخرج من هذه المتاهة إلا بالتلويح بما نحمله بين أيدينا، لعلّنا نتحرّر، أي نُرى بلغة الشاعر. فلا يمكن أن يحدث هذا التحرّر إلا عبر الوجود بالاختلاف، أي أن نكون ذواتنا بكل ما تحمله من اختلافات جوهرية وذاتية تسمح لنا بأن نكون ذاتنا، أي تجعلنا ننسلّ من شبح المشابهة والسائد. غير مدوّخين بالأوهام. غير أنه يلزمنا لذلك إعمال الحيل والمغامرة.
“الآلهة لن تشفع لأوديسيوس حيلة الحصان الذي في أحشائه حمل
لطروادة دمارها،
وما كان جرى في حقولها من ماء وبساتين
(…)
أوديسيوس اقترف جُرمًا،
أنه لعِب الآلهة بمكيدة أزرت للشر كثرين
من أجل امرأة،
قضت الريح أن تجرفها إلى سرير زوجها بعد أن حلّ الغبار بأبهاء
طروادة،
والريح أطبقت على ملاعبها”7 .
الخلاص بالمغامرة:
فهل سنحتاج لخطة طروادية جديدة، يقودها بطل جديد من أجل التخلص من مثالب العصر الحالي؟ قد يكون الجواب في الخروج من هذا الإبحار/ التيه الذي نُقذف فيه دون إرادتنا. وكم هي عامرة هذه المجموعة الشعرية التي بين أيدينا بقاموس البحر ومفرداته (ماء، بحر، موج، سفن، طيور، جزر، شرب، غسل، أشرعة، حوريات…)؛ فالبحر رمز المغامرة، “فلا يركب من لا يغامر” ! ولم تكن رحالات أوديسيوس إلا إبحارا كاد لا ينتهي، ومغامرة تتعدد وتقترب من الاستحالة والتعقيد، لكن الحب هو الذي كان الدافع للخلاص والانتصار على مكائد الآلهة، نكاية في كل سماء.
“ارتأى أوديسيوس الفناء،
على أن يترك بنيلوب تتلظى بغيابه،
لأجل أبد
لا
حب فيه
(…)
-أليس الحبّ أبدًا أيتها الآلهة،
به ندفع عن أرواحنا المنهكة عزلتها
في
وجود،
لاااا
أحد منا اختار أن يدخله،
بل
قُذفنا فيه
وحتى لا نخرج منه قسراً،
نتآلف في طوق،
سمّه قفصا،
لكنه رحيبٌ لا يكتم ريشنا،
أو
يمنع الريح عن مائنا
لتبحر السفن حيث الطوق يأتلف بطوقه
غير عابئ بالأبد”.
[أوديسيوس مخاطبا كاليبسو قبل أن يشرع في ركوب الماء حالما بتُخوم إيثاكاااا] 8.
نداء الداخل:
نحيا في عصر الذوات المتشظّية، تلك الذات التي تريد التخلص من كل الميتافيزقيّات، بما أوتيته من مطارق نيتشوية، لكنها ما إن تنفلت منها حتى تقع في ميتافيزيقيا أخرى، إن لم نقل سماءٍ. لهذا لم نخرج بعد من تخوم الأسطورة، التي تنتعش في سماوات الميتافيزيقيا حيث تأتي من البعيد والعلويّ والغامض، والتي لم تقم سوى بتغيير جلدها وشيء من شكلها لتخادعنا من جديد، فنبقى دائما في رهان الصراع بين السماء والأرض. إننا مطاردون بالـ”ما وراء”، غير قادرين أن نتخلّص من التفكير الأسطوري، لهذا كل ما قام به صلاح بوسريف في مجموعة من أعماله الشعرية التي تستحضر وتستدعي وتوظف الأسطورة هو وضعها إزاء صوت الشاعر المعاصر، أو لأقل الأصوات المتشظّية التي فيه، أي استجابة لنداء الداخل، داخل الداخل بتعبير أدق. فالشاعر مسكون بالأصوات تدعوه إلى الكتاب، تقول: “اكتب ! اكتب !”، لكن ما الذي سيكتبه؟ هذا هو السؤال. يظل الشاعر ابن عصره، وتعبيرا عن رؤاه.. وهذا ما يقوم به صلاح بوسريف وهو يستدعي الأسطورة والأسطوري، محاولا أن يقوم بما يكن تسميته بـ”تفكيك شعريّ” لبنيانها، ووضعها في مشرحة لغوية تعيد تركيب تفاصيلها بما تستدعيه الضرورة للخروج بمعان ودلالات يمكن أن نجد فيها خلاص للإنسان المعاصر من “الأيادي الخفية التي تتحكم في مصيره”. إذ إن الأسطورة إخراج للدوافع الداخلية، فإنها تساعد الإنسان كذلك على تحديد مفهومه بالنسبة للكون.
الكتابة عند صلاح بوسريف “نداء داخلي”، استدعاء ذاتي لممارسة هذا الفعل العصي والصعب. لهذا فالكتابة عنده من حيث إنها تنبع من داخل الداخل، فهي تأتي محملة بكل ما راكمه وما خبره، من أبعاد ذاتية وصوفية وفلسفية ولغوية وتاريخية، وحتى اجتماعية وسياسية، والأمر راجع لتعدد ميادين اشتغاله بالكتابة. ما “مثالب هوميروس” إلا تحصيل شعري لكل هذه الأبعاد والممارسات، حيث يغدو الشعر دعوة للانعتاق والخلاص للبشر من كل الميتافيزيقيات، “نكاية بكل سماء”.
“خير أن تموت وأنت على حرب…”، يقول الشاعر بوسريف، بينما يقول [أغاممنون لنفسه وهو يتنقل بين الصفوف ساعيا لوضعها في مواجهة أسوار طروادة المنيعة، وبابها المحكمة رتاجاته]:
“أنا المنذور لقدر الأبطال من ألقيَ على أكتافهم وزر الآلهة والبشر بلا فرق” 9.
وإنها طروادة جديدة صنعها الإنسان المعاصر بأسوارها الافتراضية العصية، وعليه أن ينتظر الإنسان الأعلى بلغة نيتشه، حتى يجلب خلاصه، وما الشعر اليوم إلى نداء بصوت صادح، هكذا نقرأ متن بوسريف الشعري، هذا الشعر الكاشف عن الغامض فينا بلغة الواضح، غير متنصل من مقولة الحداثة، فهو وإن يفضل لفظ الـ”ما بعد” للقصيدة الجديدة، “ما بعد القصيدة”، فبالمقابل لا يجعله لصيق الحداثة، فهذه الأخيرة عنده لم تنته بل كل ما قامت به هو إحداث تغيرات جذرية في ذاتها لتزيل عنها غبار السردي الأكبر، وما استحضاره للأسطوري إلا من باب “النقد المزدوج”، فهو يستعمله للنقد “حداثاتنا” (بصيغة الجمع كما يُفضل)، وأيضا لتفكيك الأسطورة التي لم نستطع بعد التخلص من مثالبها. لهذا يجعل من الكتابة تحضر بصفتها مغايرة واختلاف، للكشف عن الغامض والملتبس فينا عبر كل ما أمكنه من إيضاح وشعر